لناقد والروائي معجب الزهراني عن رواية «رقص» حوار - طامي السميري في رواية " رقص " لمعجب الزهراني، الصادرة عن دار طوى، تحضر نكهة روايات الستينات والسبعينات. تصادفنا رائحة الهم الطليعي ونرصد في شخصية "سعيد" ملامح المناضل التائب الذي يقتات على أمجاده الثائرة. وقد دوّن نصه بلغة فيها الانتشاء أو بحسب ما يقول "اللغة الراقصة" . الرواية لم تحمل صفة الوثيقة لمرحلة ما ، لكن في تداعيات بطل النص تتجلى حكايات الأمكنة من القرية وحتى مدينة "وديان" الفرنسية . وفي هذا الحوار نتعرف على رؤية الدكتور الناقد معجب الزهراني عن تجربته الأولى في السرد والتي جاءت بعنوان " رقص " * مابين التذكر لسيرة نضالية ومابين الشغف بالحياة تأتي تداعيات شخصية سعيد بطل روايتك " رقص ". هذا الموضوع الشائك والممتلىء بالقضايا الجدلية يبدو مكتوباً بخفة – ربما تحت حالة من النشوة – كيف ترى تأثير هذه الخفة السردية على تناول موضوع عميق في روايتك ؟ - الكتابة بدون نشوة عالية مدوزنة عمل بدون إخلاص. ثم إن في سؤالك ما يعين على تفهم الملاحظة من منظور آخر . فلعل قساوة المواقف المتعلقة بأحداث مأساوية في مجملها تبرر هذه اللغة التي تحاول التخفيف من ألم الجرح ، لكن المؤكد أنها لا تستخف بشيء أو بأحد . ولعل في قراءة الصديق عبدالله الغذامي ما يعزز وجهة نظري . فلقد تألم أشد الألم فيما بدا لي لأنه حاول النفاذ إلى ما وراء الظاهر ، وكعادة النقاد المحترفين . هل قرأت " خفة الكائن التي لا تطاق " لميلان كونديرا ؟ . * إذا كانت الحكاية الجانبية لسعيد وصديقه هي من كانت تضبط أحداث النص، فإن النص بشكل عام أخذ تقنية الحكي الحر . كان الزمن فضاءً مفتوحاً، يغترف منه سعيد حكاياته. هذه الحيلة السردية هل كانت بسبب فراغ النص من حكاية درامية ؟ - أزعم أن هناك ثلاث حكايات درامية يمكن أن تؤول في النهاية إلى معضلة أزلية واحدة وهي علاقة التناقض بين أحلام الإنسان الفرد وطموحاته من جهة وقيود المجتمع بكل سلطاته التقليدية والحديثة من جهة أخرى . وهنا أيضا لعل ما تسميه الزمن المفتوح هو الحيلة السردية الأنسب للملمة شتات أحداث تمتد على مدى قرن كامل تقريبا وتتناثر بين ثلاث قارات . الشيء المؤكد أنني لم أتعمد الترتيب الصارم للأحداث في بنية زمنية محددة لأن هذا النمط من الكتابة التقليدية لم يعجبني قط . * سعيد شخصية ملتبسة ، الالتباس جاء، في تصوري، على عدة مستويات. فهو ليس بالمناضل التائب إذ أن مواقفه السياسية ما قبل وما بعد مرحلة السجن غير واضحة تماما، وهو ليس بالبوهيمي الخالص فهو وان كان شغوفاً بالحياة الجمالية إلا انه لم ينس حظه من الدنيا فأصبح الرجل الثري. أيضا هو ليس المهووس بالغرب ففي داخله ما تزال تسكن الروح القروية. هل نقول إنه شخصية براغماتية ؟ وكيف تقرأ ملامح تلك الشخصية ؟ - هذه شخصية سردية مركبة وإشكالية بمعنى ما . وهذا يعني أنها نموذج متخيل لذات مثقفة حديثة تنطوي على أبعاد غنية كل الغنى . فتناقضاتها هي تناقضات الإنسان الواعي حين يطل على ذاته أو نطل عليه في مواقف مختلفة وأزمنة متعاقبة . ولعل أسوأ أنواع الشخصيات الاجتماعية أو الروائية هي تلك التي تتكلم بصوت واحد وتتصرف بطريقة واحدة وتتبنى قضية واحدة لأنها تظل جامدة مسطحة وإن توهم البعض غير ذلك . * النص مكتوب بلغة راقصة – بلغة هي ابنة المطر ، فيها كل مفردات الطبيعة الخضراء . كأنها ابنة المكان سواء على مستوى القرية أو حتى في وديان في فرنسا. هل جاءت هذه اللغة كحالة تتناغم مع بيئة المكان أم أن هناك مبرراً فنيّاً فرض منطقه في الكتابة ؟ - هذه لغتي وكم يسعدني أن يحضر فيها رش المطر واخضرار الشجر ورقص الحياة للحياة ولو بين تعب وآخر . نشأت في قرية تطل على واديين مليئين بالمزارع التي لم تعرف جفافا قط . وكان للناس وقتها الكثير من طبائع الأشجار، رجالا ونساء وأطفالا . نعم ، الآن ساد الجفاف الأرض وأصاب الجفاء اللغة حتى إنني أتساءل عما إذا كانت الحياة ممكنة خارج الكتابة .. أو السفر . * لا أعتقد أن عنوان الرواية " رقص" هو مفتاح الرواية، ولا أميل إلى مقولات سعيد بطل الرواية في تمجيده الرقص كدلالة تؤكد على أن من يمشي لا بد أن يرقص، بحسب المثل الأفريقي. فالرقص لم يتسرب في النص كحالة فلسفية ، بل تم القبض عليه في حالات الانتشاء ، في صياغته الأولية التي تحمل المسميات للرقصات محلياً وعالمياً . كيف ترى دلالة الرقص في روايتك؟ - أولاً سأكرر ما قلت من قبل بصدد العنوان. لقد جاء متأخراً وكأن الكتابة في بعض مراحلها هي التي اقترحته عليّ فسمعت كلامها ولم أندم . بعد ذلك لم يكن في نيتي أن أتعمق في هذا الفن الذي يعد من أقدم الفنون وأكثرها عفوية وعنفوانا وجمالا ، وكم أحبه . فعلا يمكن أن أدوخ نشوة وأنا أتابع سامرية دوسرية فما بالك بربش جازان وزيفاته التي تكاد تشعل الأرض طربا وحبا ! . ما يهمني الآن حقا ثلاث رقصات لم أتعمد ترتيبها مسبقا. الأولى عرضة رجالية دشنت فعل السرد ، والثانية رقصة نسائية بدت وكأنها تعلن الحب ذروة للحدث وتصعد به إلى أعلى مقام ممكن ، والثالثة رقصة صوفية روحانية ترهص بالنهايات . لكن الأهم من هذا كله هو رقص اللغة . أجمل تعليق بهذا الخصوص سمعته من صديق باحث مثقف في باريس منذ أسبوعين إذ قال إن أكثر ما لفت نظره وشدّه وأمتعه هو إيقاع اللغة الراقصة في النص ! . أعرف أن الخطابات الكبتية الكئيبة تخاف الرقص وتحاربه كما تحارب الجسد . لكن أجمل ما في الجنادرية رقصاتها الشعبية ، ولو زادت الحماية لرأيت العجب من عشاق هذا الفن الفاتن . ولمن يقول : " من رقص بقص " أقول : " من رقص قنص " . * كازانتزاكي في روايته الشهيرة ( زوربا ) جعل الشخصية المساندة في النص والمتمثلة في شخصية الكاتب تصغي للبطل زوربا وتبتهج أحيانا مع مقولاته وتندهش أحيانا وتنصدم في حالات أخرى . وفي رقص وضعت شخصية مساندة كانت بمثابة المحرض للبطل بأن يروي وينهمر بالحكايات، ومن هنا تأتي فلسفته عن السياسة، الناس، الأمكنة، المرأة، والسجن. الفارق بين الحالتين في الروايتين أن كازنتزاكي استطاع أن يضع فارقاً كبيراً بين شخصية زوربا وشخصية الكاتب بينما، في رقص، نجد أن المسافة ضئيلة بين الشخصيتين نوعاً ما، فهناك تشابه بين صوتي الشخصيتين وهناك تماثل في مكان النشأة ومكان الهجرة وفي رؤيتهما للحياة. الفارق يتمثل لصالح شخصية "سعيد" في تجربته السياسية فقط. كيف ترى هذ المسألة ؟ - هذا السؤال طويل جدا ولذا سأجيب عنه بشكل قصير جدا . هذه المقارنة قد تسرني وتوقظ أحلام أي كاتب يخوض مغامرته الأولى ويطمح إلى المزيد . لكني لا أجدها مبررة إذ أن لكل نص روحا تخصه وتميزه وإلا فقد معناه وقيمته . الراوي في رقص معجب بالبطل ، وإذا ظل يعلن اختلافه عنه في كل اللقاءات فلعله يحاول الخلاص من جاذبيته كبطل مناضل ليتفاعل معه كإنسان . * ما مدى سطوة رواية زوربا عليك وجدانياً، وكيف ترى أثرها في نصك ؟ - فتنني زوربا في الرواية وفتنني أنطوني كوين في الفيلم أكثر وأكثر . لكني لا أتذكر نصا أو شخصا حين أكتب أو حين أباشر فعلا أحبه وإلا لفضلت أن أتوقف وأرقص حتى أتعب وأنسى . * عندما عبرت مدام ليوتو عن الشاب بطل الرواية بتساؤلها أفلاح هو أم طالب؟ لم تكن لتبتعد عن التوصيف الدقيق كثيراً، فهذا الالتباس لا يأتي عند مدام ليوتو فقط بل عند البطل ذاته فهو لا يرى في نفسه الطالب المبتعث بل المهاجر. كيف ترصد هذا الالتباس وخصوصا أننا لا نلمح صدمة الحضارة في ردود أفعال البطلين ؟ - هناك لبس ما فيما تقول حسب ظني . الطالب الذي استلم مهمة السرد في " نصوص رويان " طالب شاب يغادر قريته ومجتمعه الفلاحي للتو وتفكيره في الهجرة مجرد حلم عابر " فانتازيا ". الذي يتقمص دور المهاجر ومواقفه الذهنية والعاطفة هو الراوي – البطل في الأجزاء الأولى من الرواية لا غير. وفي كل الأحوال لست أنا شخصيا لا هذا ولا ذاك ، والدليل أننا نتحاور الآن في المكان ذاته !. * أنت تجيد اللغة الفرنسية – ما الذي أضافته إليك تلك اللغة في الكتابة الروائية – هل شعرت أنها شكّلت إضافة ما على مستوى المخيلة السردية وعلى مستوى المفردة ؟ أم انك كنت مغموسا بلغتك الأم ؟ - اللغة الفرنسية ثقافة معرفية فكرية لا أظن أنني قادر أو راغب في الخلاص من آثارها . قلت ذات يوم بعيد إنني تعلمت محبة العمل في قريتنا ومزارعنا وتعلقت بالحريات الحديثة والفكر الحديث في باريس . أما فيما يخص جماليات اللغة فلا أظن الفرنسية تنافس العربية على لساني ووجداني. وقد أكون متعصبا حين أقول إن لغتي الأم تظل أكثر إشعاعا وجمالا . وقد صدق محمود درويش حين قال " أنا لغتي ولغتي أنا" وكثيرا ما كررها في تلك المعلقة الفاتنة . * لا توجد في رواية رقص امرأة تستحوذ على النص ، أو لعبت ما يمكن اعتباره نموذجاً أنثوياً يستحقّ التوقّف عنده، فنساء القرية، كالأم مثلاً أو الزوجة، هي نماذج يتم التوقف عندها عندما يريد البطل أن يستحضر تفاصيل من حياة القرية. وفي المقابل يأتي حضور نساء باريس كنساء يتم توصيفهن برؤية شرقية خالصة، تتخلل تلك الرؤية ملامسات للجانب الإنساني . لكن المفارقة تكمن في أن السارد كلما اقترب من نساء القرية تحضر عبارات التبجيل والإشادة بالصبر وبالعشق الصافي وكلما حضرت نساء باريس حضرت الغواية الأنثوية، كيف تقرأ هذه المفارقة ؟ - هذه ملاحظة غريبة نوعا ما . فالرواية في مجملها حوار بين شخصيتين رجاليتين مركزيتين تلتقيان في فرنسا . لكن أطياف المرأة الحبيبة والزوجة والأم حاضرة ، وبقوة ، في الحدث ، بل وحتى في لغة السارد على ما أظن . أما لو عدت إلى عتبات النص فستلاحظ أنه كله مهدى لنساء يشبهن الأشجار التي تجف حينما لا تحب ولا تحب . * الفارق كان ضئيلا بين ذاكرتك وذاكرة أبطالك. كما أن الخطابات الشعاراتية حاضرة في الرواية التي تكرر المكرور وتنمّط صورة الأشياء، فالكلام في العموميات يخلق التشابه ويغيب خصوصية الأصوات، كيف تقرأ هذه الحالة الشعاراتية في روايتك ؟ - وما أدراك يا صديقي عن ذاكرتي التي لا أعرف عنها أنا شخصيا سوى القليل ؟ . لا . يبدو لي أنك قد وقعت هنا في لبس أشد فداحة من الأول . فالذاكرة ماكرة خوانة كما يقال . وهناك فقرة في مستهل النص تشير إلى ضرورة تحييدها قدر الممكن . وفي ظني أنها لم تحضر إلا كأرض خصيبة تتم حراثتها بصبر ومحبة ودراية لتنمو أشجار المخيلة على هواها . ولعلني لا أبالغ حين أقول ، وكقارئ مثلك الآن لا غير ، إن الفروق بين أصوات الشخصيات المهمة في الرواية تكاد تمثل كل أجيال المجتمع وأطيافه . وكم أعجبني تعليق صديقنا الشاعر والروائي علي الدميني حين قال إن سواليف " شيبان الديرة " وحواراتهم أكثر ما فتنه في الرواية !. وكم تعجبني نهاية " اسمي أحمر " حيث تقول الأم " .. واحترسوا من ألاعيب أورهان لأنه لا يتورع عن ارتكاب أي حماقة في سبيل أن تكون حكايته جميلة " . * أخيراً .. منذ زمن طويل، كانت لك ورقة نقدية تدين فيها الروائيين العرب الذين كتبوا عن السعودية – بحجة أنهم كتبوا رؤية مشوهة عن البلد . روايتك تحمل ذات الصورة – بل فيها هجائية للمكان - كيف تفسر هذا الأمر؟ - كتبت تلك الورقة وجلّ الخطابات الإعلامية والثقافية العربية تبارك حروب صدام ضدّنا وتصورنا كما لو كنّا الآخر المتخلف الذي يستحق الغياب عن خارطة العروبة المتحضرة ! . وقد ذكرت في بدايتها أن الخطاب سيىء لكن الوقائع التي يحللها أسوأ منه . ولو شعرت غدا أن هناك من يهدد وطني أو بيتي لتصديت للعدو بما ملكته يدي وليس بالكتابة وحدها . هناك إذن فرق جوهري بين من يعبر عن معاناته ضمن رؤية نقدية صارمة ، بل وقاسية أحيانا ، ليوقظ الحس في أهله ويصقل الوعي لدى قرابته وجيرانه ، وبين من يعبر عن التعالي والاحتقار لتوهمه أنه أجل شأنا وأعلى مقاما مني ومنك . ولأن هذه هي إجابتي الأخيرة فاسمح لي بأن أسألك بدوري : هل قرأت " ترمي بشرر " التي انتزعت البوكر انتزاعا مستحقا ؟ أما أنا فقرأتها ، وأعيد الآن قراءة " ثلج " لأورهان باموك ذاته ، وأحمد الله أنه لم يكتب في عصر ناظم حكمت وإلا لما فاز بجائزة نوبل لأنه ما كان سيخرج من السجن إلا إلى المقبرة !