على رغم أنه لم يتوقعه في هذه الساعة, ما بين العصر والمغرب, على رغم عدم وجود موعد سابق, محدد, إلا أنه لم يفاجأ به, لم يُبد دهشة أو حتى ما يوحي بالاستنكار, ذلك أنه لم يعتد استقبال ضيف, حتى أشقائه إلا بموعد محدد من قبل, بل إن من يصغي إلى «أهلاً» المختصرة, المركزة, التلقائية, سيخيل إليه وجود بعض من ألفة, وربما ترحيب لأنه جاء أخيراً, ربما لأنه تهيأ لاستقباله منذ إبلاغه عبر الهيئة, لكنهم لم يتصلوا مرة أخرى. ليس ذلك خارجاً عن المألوف تماماً. في حالات كثيرة لا يتصلون أصلاً, لا يرسلون أي إشارة, ولأن العُرف العام يقضي باستقباله حتى وإن لم ينطق مُعرفاً أو مقدماً نفسه, يكفي ذكره المهمة المتشابهة في جميع الحالات, والثابت أن شخصاً غيره لم يستطع تقمص ملامحه والقيام بدوره, نادراً ما جرى ذلك, يُعرف بين الجميع بالموفد. أخيراً, ها هو في مواجهته على غير ما توقعه وتردد في مسمعه من قبل, إنه هادئ لطيف الحضور, ملابسه تمت إلى طراز لم يعد شائعاً, لكنها مهندسة, مسدلة على أتم وجه, ثنية البنطلون مستقيمة, وياقة القميص تحيط بالرقبة, تبدو كأنها جزء منها, تنحى جانباً مفسحاً له الطريق, ماداً يده, متخذاً هيئة الترحيب, لكن الوثوق الذي أقدم به على الدخول أكد أنه لم يكن في حاجة إلى الإذن, أو الإصغاء إلى كلمة مجاملة وترحيب, جاء ليعبر إلى صميم البيت, لم يستفسر حتى عما إذا كان يوجد شخص ما, أطفال, حريم, توقف متلفتاً في الصالة، متطلعاً إلى بعض الصور المعلقة إلى الجدران, لحظات ملتقطة عبر حياة امتدت أكثر من ستة عقود, حفلت بأسفار, وترحال. ولقاءات وإصغاء إلى كلمات وإلقاء مضامين شتى اجتهد في صياغتها, توقف على مقربة منه يبدو أنه ملم بظروفه, أنه يقيم بمفرده, ما من أحد برفقته, بعد انصراف الخادمة التي يقتصر عملها على تنظيف البيت ونفض التراب الذي يتراكم بسرعة. تمضي عادة في الواحدة, أو الواحدة والنصف. يستمر حتى صباح اليوم التالي، إلى حين قدومها ليخرج تاركاً إياها بمفردها, أو ليدخل إلى المكتبة. مما هدأ أحواله خلال الأعوام الأخيرة تزايد رغبته في القراءة رغم كل ما لحقه من وهن وإيغال في الوحدة, ما يربطه بأبنائه مكالمات صوتية في المهاجر البعيدة. يتطلع إليه كأنه ملم بكل ما يدور عنده, ما يرد عليه, لينتبه في لحظة معينة سوف يستفسر ربما يتأكد, يتفحص أموراً يجهلها, غير أنه سيقدم على مهمته التي يعرف نتيجتها, ما ستؤدي إليه معاونته على الانتقال بعد إعداد كل الإجراءات اللازمة, الخطوات الضرورية, كيف سيتم ذلك بالضبط؟ لا يدري, لكم مر بإجراءات فحص، لكم مثل في لحظات استجواب عند الامتحانات التي اجتازها لتخطي المراحل الدراسية, في أقبية التحقيقات والأماكن السرية التي تم استجوابه فيها زمن نشاطه السياسي, جلسات الاستجواب خلال مرحلة علاجه, مرات التفرس في ملامحه والمقارنة بما يبدو في الصور, لكنه في جميع الظروف لم يكن متأهباً للإجابة على أي شيء كهذه المرة, من أهم ما أصغى إليه من قبل ضرورة الوضوح الجلّي. النطق بالعبارة الدالة, المؤدية. لا مجال للتورية, أو التشبيه أو اللجوء إلى المجاز, أو محاولة الظهور بما يخالف الدخيلة, الحقيقة لا يحتاج الأمر جهداً منه للتهيئة, أو الإعداد لمظهر مغاير لما يكون عليه، ليس بوسعه، إلا أن يكون هو في مواجهة الضيف الذي انتظره طويلاً والمُلم بكل شيء يمكن أن يُعرف عنه. مجال المراوغة إذا توافرت الرغبة غير متاح بالمرة. حتى الآن يقوم بدور المتفحص، يصبر عليه، أو هكذا يبدو. لكنه في لحظة معينة سيفاجئه بأسئلة، ربما بكلمات لن يستطيع تلقيها أو فك معانيها، ليس لديه إلا فكرة عامة عن الإجراءات التي يُتخذ بعضها خلال الزيارة ويتم الآخر في ما بعد. أصغى إلى روايات الآخرين عن هذه اللحظات. إنها المرة الأولى التي يمر فيها بما سمح به فقط. كل شخص له ظروفه الخاصة. لا يتم الأمر دائماً وفقاً لنمط متقارب. لكل حالة خصائصها وأحوالها. غير أن ما يلاحظه خلوه من ذلك التوتر الذي لازمه خلال مرحلة توقع الزيارة. كل شيء يتم بهدوء. يمضي وكأنه يرى ما يجري لشخص آخر. الصالة مقسمة إلى ثلاث زوايا، يتوسط الثالثة منها بيانو الماني اشتراه لابنته عندما كانت لديها النية للمضي في دراسة الموسيقى، غير أنها لم تتم ما بدأته ومضت في تخصص آخر، هي الآن نابغة فيه, أصبح اسمها معروفاً في مجالها هناك بعيداً. أما شقيقها الاكبر فيسعى في ذلك البلد البعيد، هناك في أقصى الشمال. كلاهما يتصل به قبل الشروع في أي نشاط يومي. يتوقع كلاهما وينتظر رنة الهاتف مع اختلاف المواقيت. هل يستفسر منه عما إذا كان ممكناً الاتصال بهما، يفضي إليهما بنبأ الزيارة والإجراءات التي ستسفر عن ذلك الذهاب؟ بدا له ذلك متعجلاً. المفروض أنه في موقع المُستجوب، يعرف مما سمعه احتمال توجيه أسئلة مبهمة أو غريبة إليه، غير أنه لم يلحظ أي بادرة حتى الآن. ما زال يتطلع إلى محتويات المكان. يستعيد الوقت الذي صاحب اعتقاله قبل نصف قرن تقريباً. عندما داهم ثلاثة بيته فجراً. كان الضابط يتفحص كل شيء، إنها المرة الوحيدة التي أرغم فيها على الخروج قسراً. غير أنه كان يعرف بشكل ما أنه ماض إلى المعتقل، أين بالضبط؟ لا يدري. ماذا سيحدث؟ ربما تعذيب، ربما قتل بطريقة ما إذا لم يستجب إليهم. كان الاستنفار سارياً، أما هذه المرة فهدوء مُحكم. مستقر رغم أنه لا يعرف ماذا سيلي الإجراءات وذلك التفقد. يشير إلى المقاعد في الأقسام الثلاثة بما يعني، أيهم يفضل للجلوس. غير أنه لم يتجه إلى أي مقعد، حتى بالبصر، قال إنه سمع كثيراً عن المكتبة وما تحوي، لديه وصف دقيق عنها. تقدمه عبر الممر المؤدي إليها. ثلاث غرف أزال الجدران الفاصلة بينها. أرفف مثبتة إليها، مثقلة. زوجته قامت بكل ما منح المكان خصوصية. لكم جنبته التفاصيل العملية، من دون أن يختار يتجه إلى المكتب. صُفّ كل شيء فوقه وحوله بترتيب. لم يلج المكان إلا صحبه الأقربون. يخطو الزائر واثقاً، ينتبه إلى خصائص الحال الجديد عليه. إنه مشدود، منتبه إلى الضيف، متوقع لشيء ما، كل ما سيقدم عليه يجهله، لا يثير هذا حنقه، أو ضيقه أو يؤثر فيه كما جرى في المرات المتخيلة، يشغله ما يجري وينأى عن استعادة ما عبره، ما عرفه، ما رسخ عنده. حتى ليعجز عن استدعاء ما يخص الأقربين، من الأهل أو الصحب. يثق أن ضيفه أثناء التفحص والتدقيق البصري يدرك كل ما يمر به، ما يخطر له. يشغله أمر المكتبة بعد الشروع في الانتقال أو بعد تمامه. عند الشروع في أسفاره الموقتة كان يتمني لو اصطحب كل ما تحوي. لم يقلقه إلا ابتعاده عنها. خلال وحدته عبر السنوات الأخيرة يمضي الساعات الطوال، ليس في القراءة، إنما في العناية بها، نفض الغبار عن المجلدات والملفات. يعيد ترتيب بعضها. خلال ذلك يتذكر ما نسيه، ويفاجأ بوجود عناوين تصور فقدها، أو نسختين من الكتاب الواحد. تكرر هذا في السنوات الأخيرة. عندما جاء ابنه في إجازة اقترح عليه الاستعانة بشاب لديه بعض التخصص، لكنه أبى رغم دبيب الوهن إلى جسده وذاكرته. كرر ما قاله مراراً عن ارتباطه بما جمع وصنف ورتب. إنه الوحيد الذي يمكنه أن يدرك المحتويات ودلالات تجاورها. غير أن مصير ما أقتنى شغله. إلى أي جهة يتوجه؟ إلى أي جامعة أو مركز يقدم الهبة؟ يدركه أسى. لم يتحدث إلى أحد بما يكفي عن تلك المجلدات والأوراق. اعتبرها خاصة جداً. الآن لا يعرف مصيرها. يخشى تفرقها وخروج ملاحظاته التي دوّنها على هوامش الكتب إلى من لم يلتق به. «تشغلك المكتبة» يُفاجأ. كأنه اطلع على ما يجول عنده. بل إن ملامحه تقطر دقة كأنه يرى نفسه في مرآة. كل لحظة تمضي تقربه منه، تتوارى المسافة بينهما كل ما يبدو منه مناقض تماماً لما أصغى إليه من آخرين عنه. هل يمكن وقوع مخادعة؟ أن من يواجهه آخر تقمص دوره؟ يلتفت إليه مبتسماً. أثمة شيء يجعله موقناً أنه يدرك الآن ما يمر عنده، بخاصة عند إشارته إلى المكتبة. بعد لحيظات قال ناصحاً: «لا تشغل نفسك الآن بما يمكن الآخرين فعله، أمامك مراحل ينبغي الانتباه إليها، يكفي الانتقال إلى أكثر من جهة». للحظة تداخل الأمران، إشارته إلى الآخرين استدعت إليه نصيحة سجين قديم في اليوم التالي لدخوله المعتقل، كان محامياً من المنصورة. أمضى في المعتقلات سنوات طويلة أورثته يُسراً في الأوضاع الاستثنائية التي وجد نفسه عليها، اقترب منه متسائلاً عن أسباب عكوفه واكتئابه، قال إنه يفكر في الأسرة وما تكابده بسببه، أجابه ناصحاً: شوف، لا تفكر إلا في حالك وما أنت فيه وعليه، هم يستطيعون التحرك والتصرف. أما أنت فمحاصر، مقيد، ليس عندك الخيار، محكوم، بما يقدره غيرك. يستعيد العبارات البعيدة، كأنها تُملى عليه مرة أخرى، ولكن بصوت مغاير وبالطبع الظروف أيضاً. مرة أخرى ينطق الموفد متوجهاً إليه هذه المرة بالنظر بينما إصبعه بين صفحات المجلد، ويده الأخرى تمسك به. «واضح أنك بذلت جهداً كبيراً، وأنك أخذت الأمور بجدية». أوشك على الإجابة لكنه لزم الصمت، لم ينطق. شروعه في الدمع بتأثير شجن مباغت وتوق إلى رؤية من أحب وعاشر، يعي أن الفرص صعبة، معدومة، الوقت ضيق، لكنه دهش. فلو أمسك الكتاب الذي بدأه الاسبوع الماضي ولم يتمه بعد سيقرأ ما تيسر حتى يشير إليه الموفد بالشروع، لا يدري كيف سينطق، ولا كيف سيجيئه القول، ولا كيف سيكون اللفظ، غير أنه ينتبه إلى الإصبع المشيرة إلى مقعد المكتب الذي يمضي عليه جل الأوقات. إذاً يريده جالساً في الموضع المفضل، الأثير عنده، ثمة شيء يبدأ لا يمكنه تحديده أو تعيينه. لكن الألفة التي بدأت منذ عبور الموفد للصالة، تتحول على مهل إلى امتنان ما، هكذا بدا له الأمر على رغم أنه لم يستطع التحديد، يتطلع صامتاً، ساكناً، كل ما يمر عليه جديد، غريب، غير أنه مألوف بدرجة ما، ممتزج بمشاعر عدة، يحدد منها، الرضى والأسى معاً، لا خشية، ولا تحسب، كأنه نائم يلج نعاسه واعياً بتدرجه نحو الوسن العميق. يواصل الموفد الاقتراب، يوشك على تنسم أحباب غائبين منذ مدى، هل يمثلهم بشكل ما أو يصحب منهم آثاراً لا تبدو، يتمنى لو التفت، بخاصة أن الأرفف توارت بكل ما تحمله، كذلك المناضد الصغيرة المثقلة بملفات الأوراق، يطغى اقترابه الحميم على كل شيء، يوشك على التوحد به، يساعده، يعينه ولا يقهره، لا يضر به، لا يسبب له إيلاماً ما، يعينه على التفرق في كل هذه الانحاء التي لم يعرفها.