عندما كنت طالباً في قسم اللغة العربية في آداب القاهرة، كانت تقاليد طه حسين الليبرالية لا تزال سائدة، ولذلك كان أغلب أساتذتي وأكثرهم شهرة في الحياة الثقافية، يعلموننا حق الاختلاف، ويزرعون فينا روح الاستقلال الفكري حتى عنهم. وأحسبني تعلمت مبدأ المساءلة من العقلانيين فيهم، خصوصاً عبدالعزيز الأهواني الذي اقتربت منه منذ تخرجي، وأصبحت من حوارييه، وكانت له طريقة سقراطية في وضع كل فكرة ورأي موضع المساءلة. ولا أنسى أنه فعل ذلك معي على وجه الخصوص، وأنا أطرح عليه اجتهاداتي، وأحياناً تخريفاتي، فكان يستمع إليَّ بصبر، مشجعاً إياي على الانطلاق، فإذا فرغت من عرض، أو طرح ما في جعبتي، يبدأ في الكلام بعد وقت من التأمل، ثم يأخذ معي في اختبار اجتهاداتي، أو حتى تخريفاتي منطقياً، من دون أن يبدو عليه أنه يقصد تفنيدها. وتتتابع أسئلته التي كان يبدو معها كأنه يعيد معي التفكير في ما توصلت إليه، وتوجّهني أسئلته في عفوية إلى الإجابة التي تجعلني أرى وجه الإيجاب أو وجه السلب، في ما توصّلت إليه. وأحياناً كان يساعدني على الإجابة بقوله كأنك تقصد كذا كذا، ويقول كلاماً ربما لم أقصد إليه، لكنه كان كلاماً يصلح المعوجّ في منهج ما عرضت عليه، كاشفاً عن مدى اتساقه منهجياً، أو تجانسه منطقياً. وما أكثر ما كنت أتركه وأنا فرح بما توصلت إليه عن طريقه، وما تكمل به أسئلته سلامة ما عرضت عليه، أو عدم السلامة في أحوال كثيرة ومنه، رحمه الله، تعلمت اختبار سلامة الأطروحات في مراحلها الأولى، قبل أن أمضى، تفصيلياً، في البناء عليها أو السير في إطارها. ولا أزال أذكر جيداً يوم كنت متأثراً بالبنيوية، وذهبت إليه أعرض عليه أطروحة كتاب عن نقد طه حسين وكنت لاحظت أن كلمة «مرآة» تتكرر كثيراً في كتابات طه حسين، سواء في عناوين الكتب، مثل «مرآة الإسلام» و «مرآة الضمير الحديث»، أو في سياقات الكتابة في كل المجالات. وذهبت إليه مختبراً أطروحتي الأساسية عن أنني يمكن أن أعيد بناء هذا الفكر بواسطة «المرآة» بصفتها عنصراً تكوينياً دالاً، فسألني وكيف تفعل هذا؟ أجبته بقولي سأقوم بجمع كل الجمل التي ترد فيها كلمة «المرآة» أو يجري التشبيه بها، ثم أصنّف ما قمت بحصره واستقصائه، وأعيد ترتيبه في مجالات دلالية محدودة، وبذلك تكون لدي العناصر التكوينية لفكر طه حسين. وظللت أضرب له أمثلة عدة، وظل هو صامتاً إلى أن أفرغت ما عندي وهدأت حماستي المنفعلة، وجلس صامتاً، متأملاً ما قلت كعادته، وأنا أنتظر كلماته على أحر من الجمر. ويبدو أنه لاحظ قلقي، فقال: الفكرة تبدو براقة للوهلة الأولى. وقبل أن أنطق بشيء آخر، أردف جملته الأولى بقوله: ولكن الفكرة البراقة لا معنى لها من دون اختبارها على كتب طه حسين التي يجب أن تختار عينة منها، وتقرأها على السمع. فأجبته: وما رأيك في أن نختار «حديث الأربعاء» بأجزائه الثلاثة، فالأول نشر في الثلاثينات بعد عودة طه حسين إلى الجامعة التي طرد منها، وظل خارجها لسنوات ثلاث تقريباً إلى أن سقطت وزارة صدقي، وجاءت وزارة نسيم الذي أعاد طه حسين إلى الجامعة، عزيزاً مكرماً، بعد أن استحق لقب «عميد الأدب العربي» بعد لقبه السابق «عميد كلية الآداب». أما الجزء الثاني الذي يضم مقالات عن شعراء العصر العباسي، فقد كتب في العشرينات، في السياق الذي أدى إلى ظهور كتاب «في الشعر الجاهلي» عام 1926، وقد أقام الدنيا ولم يقعدها. أما الثالث والأخير فمقالات عن العصر الحديث كتبها في الأربعينات، وهذا يعني أن الكتاب بأجزائه الثلاثة تمثيل دقيق لمراحل طه حسين المختلفة عبر عقود ثلاثة. فابتسم رحمه الله، ونظر إليّ نظرة يمتزج فيها حنان الأب بجدية الأستاذ الحريص على أن يستكمل تلميذه الاجتهاد من دون وصاية منه عليه وقال لي هذا اختيار جيد، وعليك أن تأتيني ثلاث مرات في الأسبوع تقرأ علي فيها مجلدات «حديث الأربعاء» كي نرى سلامة ما تذهب إليه. وظللت أذهب إليه ثلاث مرات في الأسبوع، وهو يستمع بصبر وهدوء إلى صوتي، وأنا أقرأ عليه مجلدات «حديث الأربعاء» صفحة صفحة، وكانت كلما وردت كلمة المرآة يصدر صوتاً لنفسه، كما لو كان يحسب مرات ورودها ودلالتها في كل موضوع. ولم أتخلف عنه يوماً من الأيام الثلاثة، ولم يعتذر هو أي يوم بمشاغل طارئة، فقد تفرغ لي تماماً، وواصل الاستماع والتأمل إلى أن فرغت من المجلد الثالث. وعندئذ، فاجأني بأنه راجع ما عنده من كتب طه حسين الأخرى وعرضها على ما كان يتجمع في ذهنه أثناء قراءتي عليه وصمت متأملاً كعادته، لكن لم يطل صمته، إذ وجدته يبادرني بالقول إنه أصبح مقتنعاً بالفكرة، ويبقى عليّ العمل على تنفيذها هكذا. بدأت العمل في كتاب «المرايا المتجاورة» الذي نال جوائز عدة، ولا يزال أكثر كتبي مكانة في وجداني، خصوصاً أنه كان يذكرني بالأستاذ النموذج الذي تعلمت منه معنى الأستاذية الحقة، لا سيما في حرصها على النمو الفكري للتلميذ، ذاتياً، من دون وصاية من الأستاذ، أو فرض آرائه على تلميذه أو تلامذته كي يكون صورة منه. وكان هذا دأب الأهواني مع تلامذته الذين اقتربوا منه، ودخلوا معه في مضمار الفكر الذي كان يترك لهم حرية الحركة. وكان هذا شأن سهير القلماوي التي سمحت لبعض طلابها، مثل عبدالمنعم تليمة، أن يستخدموا منهج النقد الأدبي الماركسي في كتابة أطروحة الدكتوراه، على رغم أنها كانت على النقيض تماماً من الفكر الماركسي، خصوصاً من منظورها الليبرالي الفكري. ويظهر أنها لم تكن موافقة على بعض ما ذهبتُ إليه في أطروحة الدكتوراة إلى أن فرغت منها تماماً. وجاء يوم المناقشة العلنية، وأخذ أحد المناقشين يلومني على المواضع التي سبق عدم موافقتها عليها، فإذا بها، على عكس ما توقعت، تدافع عني، وتبرز الوجاهة في ما ذهبت إليه، ولم تقل، قط، مثلما يفعل أساتذة هذا الزمان انها سبق لها أن نبهتني إلى عدم موافقتها على المواضع نفسها التي اعترض عليها الأستاذ. رحمها الله، فما أكثر ما كانت تقبل اختلاف تلامذتها عنها أو معها، وذلك حرصاً على استقلالهم الفكري من ناحية، وعدم وقوعهم في شراك اتِّباعها هي، أو اتّباع غيرها من الأساتذة الذين كان أغلبهم لحسن الحظ مؤمناً بضرورة الاستقلال الفكري للطالب الذي لا يكتمل نضجه إلا بأن يضيف إضافة كيفية خلاقة إلى أساتذته، حتى لو بدأ بالخلاف معهم أو الاختلاف عنهم، أو على نحو ما شاع قوله بعد ذلك تأسيس انقطاع معرفي عنهم. وقد صنع معي الصنيع نفسه أستاذي يوسف خليف الذي كان يقرأ معنا أدب الصعاليك وقصائدهم الشعرية. وأذكر أنه أشار ذات مرة إلى تائية تأبط شراً، وقرأت أنا التائية، وبدا لي من لغتها البدوية أنها جاهلية، وليست منحولة من صنع حماد الراوية فيما أظن أن أستاذي يوسف خليف، رحمه الله، قد ذكره وذهبت إليه بعد الدرس قائلاً: إننى لم أقتنع بما ذهب إليه، وأظن أن القصيدة جاهلية، وأنني أريد أن أثبت ذلك. فهشّ لي، وفرح بي، وقال ونعم ما تفعل. وأمضيت أسبوعاً في المكتبة، وفرغت مما ظننته، في ذلك الوقت البعيد، وجهة نظري، وذهبت به إلى أستاذي الذي فرح به، وطلب مني أن أقرأه على زملائي في الفصل، في محاضرته القادمة. وجاءت المحاضرة، وقرأت ما كتبت وما أجمل تعقيبه الذي لا أزال أذكر أن الخلاف في مثل هذه الأمور في الشعر الجاهلي على وجه الخصوص أمر طبيعي ما ظللنا لا نملك مقاييس في دقة مقاييس العلوم الطبيعية لنحكم بها في الأمور التاريخية الإشكالية. ولم يقل الرجل، قط، إننى اندفعت مع حماسة الصبا، فاجتهدت اجتهاداً خاطئاً، بل ترك الباب مفتوحاً، وعلّمني درساً منهجياً ما أكثر ما علمته للأجيال المتعاقبة من تلامذتي، قبل أن يحول العمل العام بيني والتدريس في الجامعة، وهو أحب الأشياء إلى قلبي حتى اليوم. وقد فعل عبدالحميد يونس، رحمه الله، ما فعله يوسف خليف، رحمه الله، في السنة الأولى وكان ذلك في السنة الثانية من الجامعة، وكان يقوم بتدريس البلاغة لنا، معتمداً على كتاب «الإيضاح» للخطيب القزوينى. وأذكر أنني اختلفت معه في نقطة من النقاط التي تحتاج إلى مزيد من الوضوح، فقال لي: لماذا لا تذهب إلى المكتبة خلال بقية الأسبوع، وتقوم بتوضيح ما تريد؟ وذهبت إلى المكتبة وانكببت على المصادر والمراجع إلى أن كتبت عدداً من الأوراق، فذهبت إليه بها، لكنه لم يأخذها، بل قال لي: اقرأها علينا في الدرس، وسأستمع إليها. وكان الأمر كما قال، رحمه الله. وعندما أكملت ما كتبت أثنى الرجل على الجهد، وانتقل من الثناء السريع إلى بقية الدرس، معلماً إياي المسؤولية التي تفرض على صاحبها أن يرتفع إلى مستوى اختلافه، خصوصاً مع أساتذته، والمسؤولية التي تفرض على الأستاذ أن يحترم اجتهاد تلامذته وعقولهم، ويعمل على تنميتها ذاتياً، وتربية الوعي النقدي والنقضي عندهم، حتى لو أصبح هو موضعاً لنقدهم أو نقضهم. فلا شيء مقدساً في العلم، ولا قيمة لفكرة أو معلومة أو نظرية إلا إذا خضعت للمساءلة، وثبتت سلامتها بالمنطق والحجة، وابتداء الأستاذ بنفسه لتكون أفكاره وأطروحاته موضوعاً لمساءلتهم هو ألف باء المنهج والتعليم السليم الذي تمارسه الأستاذية الحقة. وبقدر ما كنت أعرف أن أساتذتي هؤلاء، خصوصاً، عبدالعزيز الأهواني تعلموا روح العقلانية الصارمة والمرنة في آن، فقد علموني، بدورهم، ما تعلموه، وأورثوني ما ورثوه، فأدركت بفضلهم ما لا أكف عن قوله لتلامذتي من ضرورة وضع كل شيء موضع المساءلة، وإنه بما أن ذات الباحث الأدبي هي جزء من الموضوع المدروس، فإن على هذه الذات أن تضع نفسها موضع المساءلة نفسها في الوقت الذي تسائل غيرها أو موضوعها. وهذه القاعدة الأولى تفضي إلى غيرها، خصوصاً دعم الوعي النقدي الذي يمكن، إن لزم الأمر، أن يتحول إلى وعي نقضي، فما أكثر ما تنحرف الذات الباحثة أو تضل السبيل، إذا لم يردها وعيها الذاتي إلى سواء السبيل بوضعها هي نفسها موضع المساءلة في الوقت الذي تسائل غيرها. ويعني ذلك بكلمات أخرى أن علينا أن نبدأ من حيث انتهى أساتذتنا، ونضيف إليهم كيفياً بما هو محسوب علينا لا عليهم. أي أن التلمذة الحقة، في علاقتها بالأستاذية الحقة تقوم على اتصال وانقطاع اتصال يتمثل في روح التقاليد التي تجعل طه حسين وتلامذته بعض تكويني ونقطة ابتدائي التي لا تزال ماثلة في الوعى واللاوعي مني، وتجعل ما أنجزته، بفضل ابتدائهم، محسوباً عليّ حتى لو كان فيه ما يختلف معهم أو عنهم. وسواء أطلقنا على هذا الاختلاف اسم «الانقطاع المعرفي» أو غيره من رطان المصطلح الحداثي أو ما بعد الحداثي، فإن هذا الانقطاع لا يقوم إلا بالاتصال، ولا يتحقق إلا بكماله. فكل اتصال أو تواصل خلاق، مع الأستاذ الخلاق، يؤدي إلى انقطاع خلاق هو طرف في صنعه، وهو، من دون أن يدري أو يدري تلميذه، بعض منه، وذلك في فعل الديمومة الدائرية الخلاقة، القائمة على نقد العقل لنفسه، أثناء نقده لمن تعلم عليه أو منه، في مدى العلوم الإنسانية التي لا تتجدد إلا بالحركة المزدوجة للوعي النقدي الذي يضع نفسه وموضوعه موضع المساءلة في آن.