ينشغل البريطانيون منذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بمتابعة جلسات لجنة التحقيق في العلاقات الملتبسة بين الإعلاميين من جهة، وكل من السياسيين ورجال الأمن من جهة أخرى، والتي تُبث وقائعها يومياً على الهواء مباشرة من المحكمة العليا في لندن. ومنذ بدء عمل اللجنة، بات رئيسها اللورد جستس ليفيسون (السير برايان ليفيسون) وجهاً من أبرز وجوه شاشات التلفزيون الذي يبث في شكل متواصل ترؤسه جلسات استجواب سيل من كبار المسؤولين الحكوميين الحاليين والسابقين ورجال الإعلام وشخصيات بارزة في المجتمع وضباط في الشرطة. وإذا كانت تصرفات المؤسسات الإعلامية التابعة لعملاق الصحافة العالمية روبرت ميردوخ، لا سيما فضيحة التنصت غير المشروع على الهواتف، هي السبب المباشر لبدء لجنة اللورد ليفيسون تحقيقاتها، فإن جلسات التحقيق التي جرت حتى الآن تمكنت من تسليط الضوء على جوانب لم تكن معروفة علناً في السابق حول حميمية علاقات بعض السياسيين بالإعلاميين وسعي كل منهما إلى استقطاب الآخر، وإذا فشل في ذلك يسارع إلى «إعلان الحرب» عليه وتأييد منافسيه. وفي ما يأتي بعض أبرز النقاط التي نظرت فيها لجنة ليفيسون: نفوذ ميردوخ على السياسيين سلّطت لجنة ليفيسون الضوء على جوانب من النفوذ الكبير الذي يتمتع به روبرت ميردوخ بين السياسيين في بريطانيا. فقد كان هؤلاء يخشون، على ما يبدو، أن تلجأ إمبراطوريته الإعلامية –مثل صحيفتي «تايمز» و «صن» وتلفزيون «سكاي»- إلى شن حملات عليهم، ما يؤدي إلى التأثير في شعبيتهم خصوصاً عشية الاستحقاقات الانتخابية. وعلى رغم أن ميردوخ أكد أمام لجنة التحقيق أنه لم يسع أبداً إلى أن يطلب شيئاً من رؤساء الحكومات الذين قابلهم منذ ثمانينات القرن الماضي (بدءاً بمارغريت ثاتشر)، فإن رئيس الوزراء السابق عن حزب المحافظين جون ميجور ناقضه في ذلك، إذ كشف في شهادته أمام لجنة ليفيسون أن ميردوخ حاول أن يؤثر عليه سياسياً من خلال طلبه منه أن يغيّر سياسات حزب المحافظين في شأن أوروبا. ولا يبدو أن ميجور وافق على طلب ميردوخ، بدليل أن صحيفة الأخير الأكثر تأثيراً شعبياً «صن» أعلنت انحيازها ضد ميجور في انتخابات العام 1997 ومساندتها حزب العمال بزعامة توني بلير. وحقق بلير آنذاك فوزاً تاريخياً على المحافظين. وتكرر دور «صن» -ولكن في شكل معاكس- في انتخابات ربيع 2010 عندما عادت صحيفة ميردوخ إلى تأييد المحافظين بزعامة ديفيد كاميرون ضد حكومة العمال بزعامة غوردون براون. وشكّل هذا الدور السياسي لإعلام ميردوخ جزءاً من جلسات التحقيق للجنة ليفيسون. فقد سمعت اللجنة من رئيس الوزراء السابق براون، في شهادته، أن ميردوخ نقل تأييده إلى المحافظين عام 2009 بناء على «صفقة» بين الطرفين. ففي مقابل سماح المحافظين له بتحقيق ما يريد في المجال الإعلامي وتحديداً من خلال إضعاف موازنة ال «بي بي سي» ولجنة «أوفكوم» التي تراقب الأداء المهني لوسائل الإعلام وبالتالي تسهيل استحواذ ميردوخ على غالبية الأسهم في تلفزيون «بي سكاي بي»، يَعِدُ ميردوخ، بحسب مزاعم براون، بأن تشن وسائل إعلامه حملة سلبية ضد حزب العمال لإخراجه من السلطة. لكن بروان نفى أمام لجنة ليفيسون ما سمعته اللجنة من ميردوخ نفسه في شأن أنه هدد الأخير في اتصال هاتفي عام 2009 بأن حكومة العمّال ستعلن «الحرب» على مؤسساته الإعلامية رداً على «حرب» صحف ميردوخ عليه، بعدما نقل الأخير تأييده إلى المحافظين. وسارع ميردوخ إلى الرد على نفي براون، وقال على موقعه على شبكة الإنترنت إنه يتمسك بما قاله للجنة التحقيق عن تهديد بروان له ب «الحرب» على مؤسساته. ميردوخ وكاميرون وقبل أيام دخل رئيس الحكومة ديفيد كاميرون على خط الجدل بين بروان وميردوخ، ونفى في شهادته أمام لجنة ليفيسون أن يكون قد عقد أي «صفقة» مع ميردوخ. وأضاف أن بروان قال كلامه عن «الصفقة» المزعومة بين المحافظين وميردوخ لأنه كان يشعر ب «المرارة وخيبة الأمل» من نقل «صن» تأييدها للمحافظين بدءاً من تشرين الأول (اكتوبر) 2009، أي قبل أشهر فقط من انتخابات ربيع 2010 والتي مُني فيها حزب العمال بهزيمة مدوية أخرجته من السلطة بعد ثلاث ولايات متتالية (بدءاً من 1997). وعلى رغم أن أداء كاميرون أمام لجنة ليفيسون كان جيداً في نظر معظم المعلّقين، فإن تفاصيل التحقيقات معه كشفت جانباً من العلاقات الحميمية التي تجمعه بإعلاميي صحافة ميردوخ وعلى رأسهم ريبيكا بروكس، رئيسة التحرير السابقة ل «الصن» وشقيقتها الأسبوعية «نيوز أوف ذا وورلد». واضطر كاميرون إلى القول أمام لجنة التحقيق إنه عقد خلال وجوده في المعارضة قبل انتخابات 2010 ما مجموعه 1404 اجتماعات مع صحافيين، أي بمعدل 26 اجتماعاً في الشهر. وانخفض هذا المعدل إلى 13 في الشهر بعدما فاز في الانتخابات وانتقل إلى رئاسة الحكومة. لكن العلاقة مع بروكس كانت على ما يبدو الأكثر إثارة للجدل لكونها تحوّلت إلى صداقة عائلية وليس مجرد علاقة مهنية. ولعل أطرف ما كُشف في هذا المجال جاء على لسان بروكس نفسها أمام لجنة التحقيق. فقد كشفت أن كاميرون كان يبعث لها برسائل نصية قصيرة يختتمها بعبارة «أل أو أل» (LoL). وأوضحت أن كاميرون كان يعتقد أن هذا التعبير يعني «بكثير من المحبة» (lots of love) وانه توقّف عن استخدامه بعدما شُرح له أنه يعني في الحقيقة «اضحك بصوت مرتفع» (laughing out loud). واعتقلت الشرطة البريطانية أخيراً بروكس بتهمة التورط في إخفاء أدلة تتعلق بفضيحة التنصت الهاتفي. ونفت بروكس التهمة، وهي تنتظر تحديد موعد بدء محاكمتها. آندي كولسون لكن الانتقادات التي تطاول كاميرون في شأن علاقته الوثيقة جداً بإعلاميي صحف ميردوخ لا تتوقف على بروكس، فالمشكلة الأساس هنا تتعلق بزميلها آندي كولسون الذي تولى رئيس تحرير «نيوز أوف ذا وورلد» بين عامي 2003 و2007 حين استقال عقب انكشاف فضيحة تنصت صحافييها على هواتف أفراد العائلة المالكة. ونفى كولسون دائماً أنه كان يعرف أن الصحافيين الذين كانوا تحت إشرافه يحصلون على قصصهم جراء تنصتهم على الهواتف، وليس فقط هواتف الأسرة الملكية. وبعد استقالته من صحيفته، وافق كاميرون على توظيفه معه في حزب المحافظين ونقله بعد فوزه في انتخابات 2010 إلى رئاسة الحكومة. وأكد كاميرون أمام لجنة ليفيسون أنه سأل ليفيسون قبل توظيفه، إن كان متورطاً في فضيحة التنصت، وانه صدّق نفيه ولذلك عيّنه مديراً للإعلام في رئاسة الحكومة. واستقال كولسون من منصبه هذا بعد مزاعم من زميل سابق له في «نيوز أوف ذا وورلد» يدعى شون هور، أن نفي كولسون غير صحيح كونه كان حاضراً خلال نقاشات الصحافيين قصصاً تتعلق بالتنصت الهاتفي. وأوقفت الشرطة كولسون في أيار (مايو) الماضي بتهمة الإدلاء بشهادة زور أمام القضاء. جيريمي هنت و «بي سكاي بي» ولعل أخطر ما عاينته لجنة ليفيسون في جلساتها الأخيرة كان تفاصيل ما حصل لمسعى ميردوخ الاستحواذ على غالبية الأسهم في محطة تلفزيون «بي سكاي بي»، أقوى المحطات التجارية الخاصة في بريطانيا. وما هو معروف حتى الآن أن وزير الأعمال فينس كيبيل المنتمي إلى حزب «الديموقراطيين الأحرار»، الشريك الأصغر في الحكومة الحالية، كان موكلاً النظر في مسعى ميردوخ السيطرة على غالبية أسهم «بي سكاي بي». لكن الوزير كان يرى أنه يجب عدم السماح للإمبراطور الإعلامي في تحقيق غايته التي تسمح له بالسيطرة على جزء كبير جداً من مجمل الإعلام البريطاني. وسقط الوزير في «فخ» نصبه له صحافيان من «ذا ديلي تلغراف» في كانون الأول (ديسمبر) 2010، إذ قال لهما من دون أن يعرف انهما صحافيان سرّيان إنه «أعلن الحرب» على ميردوخ. وأدى نشر التلغراف كلام الوزير إلى نزع ملف «بي سكاي بي» من يده ونقله إلى وزير الثقافة جيريمي هنت المنتمي إلى المحافظين. وهنا مكمن المشكلة، إذ إن ملف «بي سكاي بي» نُقل من كيبيل المعارض لمسعى ميردوخ إلى هنت، الذي سبق له أن جاهر خطياً بأنه يؤيد هذا المسعى. وما زاد الطين بلة أن لجنة ليفيسون كشفت أيضاً أن المستشار الخاص لهنت، آدم سميث، كان على تواصل مباشر بفريق ميردوخ وكان يبلغه مسبقاً بما ينوي الوزير قوله أمام مجلس العموم في خصوص مسألة شراء «بي سكاي بي». وأدى ذلك إلى مطالبة حزب العمال بإقالة هنت، لكن كاميرون تمسك به وقال إنه قام بعمله وفق ما ينص عليه القانون في شأن «بي سكاي بي».