«أطفال سورية إغفروا لنا... فقد أثِمنا»، فيديو على «يوتيوب» تناقلته صفحات «فايسبوك»، ويحمل توقيع الشابة السورية أليسار إرم. منذ البداية، تستدعي الدقائق السبع أسئلة بسيطة، بساطة الفيديو ذاته: من أين لهذه التوليفة، التي لا تتجاوز تركيبتها المبادئ الأساسية للمونتاج، كل هذا الدفق؟ كل هذا الأثر في الصدر؟ صور فوتوغرافية، ينشر الإعلام ويبثّ مثلها كل يوم. تتوالى بلا أي تدخّل فني تقريباً، في ما خلا بعض أنغام جنائزية من «شغف سانت ماثيو» ليوهان سيباستيان باخ، ومقتطفات من نصوص لوليام شكسبير وتي.إس. إليوت تُكتب على الشاشة بالإنكليزية، وقبلها لوحة «غويرنيكا» لبابلو بيكاسو تفتتح هذه الغنائية البصرية السهلة. كيف لهذه العناصر، المجموعة بعادية فائقة، أن تلامس الوجدان كما السينما الأوروبية، وليس فيها من حرفة الفن السابع شيء؟ لا إجابة واحدة، ربما، بل احتمالات متساوية: الشِّعر وقوته، الصور بعدسات عَجولة مرتجفة في أيدٍ غير محترفة، حُرقة ميادين الثورة مُغلّفةً بشجن الأدب الكلاسيكي وخياله، الموسيقى،... إلا أن كلمة «خام» لا بدّ سترِد في أي سعي إلى جواب. العنف الخام، الحب الخام، البراءة، الموت، الأخلاق، الحياة الخام، الأنفاس، الإنسانية، الدم، الوحشية، الأمل الخام... كأن صور الأطفال من مختلف المناطق السورية، التي تُحاصر وتُقصف وتُدكّ ويغزوها «الشبيحة» بسكاكين وبنادق وعصيّ مكهربة، تعيدك إلى مبتدأ، إلى أوّلٍ تكتشف أنه ليس مفقوداً. الأطفال والموت. ولادة الأشياء ومنتهاها. صفوتها في المستهلّ والختام. حتى العنف، حين يتخفف من أي سياسة، ليتجلّى بجوهره وحده، يروح يتشبّه بالأطفال، على طريقة ارتباط الضدّ بالضدّ، وكما يكون النقيض المطلق. الذبح عنف فظّ. ذبح الأطفال قوة فجّة. والأطفال كبسولة بشرية. والشِّعر أيضاً. «موت كل إنسان، يقلّصني، أنا المتورط في جنس البشر... فلا تسأل لمن تُدقّ الأجراس، الأجراس لك تُدقّ». نصّ لجون دون افتتحت به أليسار ملحمتها الصغيرة، نشيدها المصوّر، وهي التي درست الأدب الإنكليزي في بريطانيا وانخرطت في مشاريع تجريبية إبداعية تمزج الأدب بالفنون البصرية. كل الصور التي ستلي، لتنام في عينيك بدل النوم، التقطها ناشطون ومواطنون – صحافيون. أولها رضيع مسجّى بين أطفال يحملون وروداً. يودعون جثة أصغر من سجادة الصلاة التي فُرشت تحتها. «لا تَرِقَّ لليلٍ طيّب... إغضب، إغضب، إغضب لموت النور»، كتب ديلان توماس، ليلاقيه شكسبير: «أسكنْ يا قلب، فموت الأطفال حلّ... موت اليفاعة الرهيب، لا ترتجفْ وإلا هززتَ قوام العالم». أولاد بالعشرات في أكفان مكشوفة وجوهها، والصور في مربّعات. يقال دائماً إن موت الأطفال لا موت فيه. كأنهم ينامون فحسب، يغفون مضمّخين. معروف أن الجسد بلا روحه مخيف، ربما لأنه لا يعود هناك متسع لتماهي الحيّ، الذي يروح يتلمّس في جسمه دمه والنَّفْسَ والذات، كأنه سيفقدها كلها لو أطال النظر في رجلٍ رحل، أو امرأة. لكن في موت الأطفال هدأة ما. تأمُّلها عذاب، إلا أنه الرّوع الذي لا تملك أن تمنع نفسك عنه، فتتركه يُذيبك. سَكينة شبحية في وجوه بلا خوف. فالصغير لا يعرف ذعرنا المشبّع بالتجربة، ولا يدرك الكُره أيضاً. لا يفهم سوى الحبّ، وربما اللاحبّ. لذا، يغفو أبداً. هي دِعَته المطعونة في دِعَتها. السلام الذي لا يقوّض، لكن قوةً جرداء جمّدته. هنا صورة الدمى المدمّاة بحبر أحمر، علّقها طلاب حلب على سور جامعتهم رمزاً لأطفال الحولة. وبعدها صور أطفال بين أذرع أمهاتهم. هنا، مئة مريم تنوح. «أشعر بالإدانة، أشعر بالتواطؤ، إذ فشلت في أن أكون درعاً، في أن أحمي، هل أستطيع غسل يديّ من هذه الجريمة؟... موكب طفولي شبحيّ يهلّ علينا، فلتُشرق نجمة الحياة وتخلّصنا». شكسبير مجدداً. كتب قبل أكثر من أربعة قرون لهذا الأب السوري المحتضر قرب ابنه الرضيع، أم أنه الرضيع يحتضر قرب أبيه؟ دم قليل على الوجهين. لعل الإصابات في مواضع لا نراها من جسديهما، ولذلك تقسو الصورة. كآلام أيوب التي لم نرها، وتهالنا فداحتها. جروحه حكاية، عِبرة. جروح هذا الأب وابنه وتر في الحلق، يتصلّب كمسمار، أو يخنقك كريشة بلا لون. أولاد ثلاثة هامدون، على الأرض جنباً إلى جنب. رغبة هائلة في انحناءة لضمّ أوسطهم، بل الثلاثة معاً. من يضمّ فقيداً راشداً سوى الأحبّة المقربين؟ أما الطفل، وإن لم تَعرف له اسماً او مهداً أو ملعباً، فإذا تهدّلت ثيابه على جثّته، يناديك: خُذني في حضنك، هدهدني ورنّم، أنا البقية الباقية منك. قلّما تتدخل أليسار في نصّها البصري المقروء. لكنها، حين تفعل، تكتب بالإنكليزية في محاولة لمخاطبة وجدان عالمي. تحوّل تقرير الأممالمتحدة... قصيدة: «أين هم، أطفال سورية الضائعون؟ إبحثوا عنهم بين مَن سقطوا، في مقابر مجهولة أو تحت الركام... ولا تنسوا البحث في الأَسْر وفي أوكار المُغتصِبين. ربما ظلوا أحياء في المسلخ، ليُذبحوا مجدداً، وتكراراً». في الصورة ولدٌ يقعد على الركام. يفرك عينيه نعساً أو جوعاً. بالأزرق من سترته إلى خُفّه البلاستيكي، وكل ما حوله رمادي. ضائع من عائلة ربما راحت كاملة. كتفاحة استقرّت أسفل شجرتها، قبل أن تذوي وبعد قطع الغصن. أطفال في صورة تالية «حزنوا على حمزة (الخطيب) وحَدّوا عليه، كأنهم يترقبون النهاية المرّة ذاتها تتربّص بالكثير منهم»، تكتب أليسار على شاشتها. هؤلاء كانوا أحياء، وماتوا في الحولة. حِداد الأطفال على الأطفال سُمٌّ أبيض... يُنهي العالم. رضيعة ميتة و «اللهاية» لا تزال في فمها. كيف تصمد «اللهاية» بين شفتيها الباردتين؟ الموت لا يخطف الأطفال، بل هم الذين يأخذونه أنّى ذهبوا. يلعبون به. يشذبون أسنانه بلهّاياتهم. لكنه، حين يفترس آباءهم وأمهاتهم، يحولهم كهولاً صغاراً، كذلك الولد الذي يضرب رأسه بيديه. عجوز مفجوع لم ينبت شارباه بعد. تي.إس.إليوت: «نموت مع الأموات: أترون، ها هم يغادرون، ونغادر معهم. نولد مع الأموات: أترون، ها هم يعودون، ويعيدوننا معهم. للحظة الوردة ولحظة الشجر الصنوبري أَجَلٌ واحد». الاعتراف: أطفال سورية إغفروا لنا... فقد أثِمنا.