«ألوان السيدة المتغيرة» ديوان للشاعر العراقي، المقيم في لندن، فاضل السلطاني صدر حديثاً عن دار المدى في دمشق. يبدو الديوان ذاتياً منذ القراءة الأولى، تحفّ به من جهة، أحزان شخصية مرتبطة بالمقربين الذين رحلوا (الأخت، الأمّ، الأصدقاء...)، ومن جهة أخرى تطفو على صفحاته، قصّة حبّ ملتبسة قوامها الامتزاج بين المرأة والمكان. وبين الجهتين تطلّ قصائد تخصّ المنفى الإنكليزي من زاوية ثقافية، إن جاز التعبير، تعيّنها الأمكنة (سوهو، نهر التيمز...) وبعض شعراء لغة شكسبير (أر إس توماس، أندرو مارفل، تي إس إليوت). أضحى المنفى موضوعاً رئيساً في الشّعر العربي الحديث. في البداية ظهر المنفى في قصائد الشعراء المهجّرين كالنتيجة الواضحة التي تبطن بلا كللٍ، الأوضاع السياسية غير المحتملة في البلاد العربيّة منذ عقود طويلة. ثم انتقل «أثر» المنفى إلى داخل البلاد التي لا تُحتمل، فطبع قصائد الشعراء فيها، بميسم الاغتراب عن المكان. لكأن المنفى- كموضوع شعريّ- أدّى دوراً رئيساً في إظهار حجم القهر والظلم في بلادنا. ونظراً إلى «تمرّس» المنفى، إن صحّ التعبير، في الشّعر العربي، أضحى لزاماً على الشاعر أن يتحايل على مساربه المعلومة سلفاً، التي أصيبتْ باستهلاك جماليّ بسبب كثرة استعمالها ودورانها. فالشاعر المنفيّ يقيمُ أبداً على خيطٍ صلبٍ يمتدّ ما بين الوطن والمنفى، يشتاق إلى الأوّل ويحنّ إلى صورته الفردوسيّة التي يبدّدها الواقع الظالم باستمرار، ولا يتآلف مع الثاني إلا نادراً. فخطر نسيان الأوّل بل التنكّر له يلوح في أفق القصيدة، كلّما مدح الشاعر منفاه، أو أُعجب به. لذا تضيق خيارات الشاعر المنفيّ، فنراه ينكفئ على خساراته الشخصيّة، ويحنّ إلى صورته طفلاً في الوطن، ويعيّن منفاه من خلال حواراتٍ، مفترضة أو لا، مع شعرائه ومشاوير عاطفية في شوارعه ومعالمه الشهيرة غالباً، فالقصدُ هو رسم صورة السائح رغماً عن أنفه. ويبدو فاضل السلطاني في ديوانه هذا، مهتمّاً بتوسيع خيارات الشاعر المنفيّ الضيقة قدر المستطاع. فمن الصحيح أن الطريق التي عبّدها المنفيّون قبله واضحة المعالم، بيد أنها تحتمل درباً جانبية تخصّ السلطاني، قوامها: صورة ملتبسة قصداً للمرأة في القصيدة، والتركيز على المقرّبين الذين ماتوا في الوطن، ورغبة واضحة في التركيز على حالة المنفيّ بصورة مختلفة؛ فهو مقيمٌ ولكن في المنتصف، في المسافة الضيقة الواقعة بين الوطن والمنفى. تكاد المرأة تحتلّ الديوان برمّته، إذ إنها حاضرة بصورة الحبيبة (ماذا لو كنتِ معي؟)، والآلهة البابلية المقدّسة (عشتار في متحف برلين)، والمؤنث الشهير الذي يزاوج بين المرأة وأرض الوطن (سيدتي الجميلة؛ «كأنّك تلك البلاد التي رحلتْ من بلادي»). وفي حالاتها كلّها، تؤدي دوراً رئيساً في حياة المنفيّ، إذ إنها السند العاطفي الذي يمدّ الشاعر بالقوة. لكنها أيضاً تتيح له، عبر تعدّد صورها، التعبير عن نفسه الممزقة بين الوطن والمنفى. الأمر الذي يمكن إدراكه من خلال تكرار لفظ «المنتصف» في الديوان. فاللفظ حاضرٌ في عدّة قصائد؛ منها قصيدة «ألوان السيّدة المتغيّرة»: «نحن في المنتصف الآن/ أنسرع أم نعود؟» أو: «كيف كبرتِ في لحظتين/ والأرض لم تكملْ دورتها/ ونحن في منتصف الشارع؟»، وحاضرٌ أيضاً في قصيدة ساوث بانك: «لكني في منتصف الموت عرفتُ/ كم ضللني الحكماء القدامى/ فالنهر قد يجري مرتين/ وإنك قد تأتين... مرتين». ربما تمكن قراءة قصيدة «عشتار في متحف برلين»، باعتبارها مجازاً لحالة «المنتصف» التي تلمّ بالشاعر، إذ إن آلهة الخصب البابلية تقيم في الانتظار، من دون أن تتمكن من أداء دورها الرمزي في البعث والعودة إلى الحياة. لذا تبدو مختلفةً في المتحف، فهي خارج زمنها، وليست في الجحيم الذي سيعقبه بعثٌ أكيد، بل منفية –كالشاعر- من مكانها، مقيمة في المنتصف، في منتصف المسافة بين الحياة والبعث، وجلّ ما تبغيه الموت لا البعث: «وعشتار تنتظر/ في سريرها الخشبي/ في متحفٍ ضائع في الأرض تنتظر/ تعبت من الحياة وهي تنتظر/ أن يأتي الزائر المنتظر/ كي تموت». وفي كلام مختلف، يعبّر الشاعر عن نفسه وحالته بعيداً من أرضه من خلال صوت عشتار، مبيّناً أثر الاقتلاع عن المكان في الروح وفي تعطيل دورة الحياة. يدمن الشاعر حالة المنتصف، فيكتب في قصيدته: «ما أجمل العالم في منتصف الذاكرة/ وأنت هناك/ في حديقة الطفولة الصغيرة/ تدخلين وتخرجين/ تلوّنك النباتات/ وتلهو بك العصافير/ حتى تنفقَ من الحبّ». وللأسف غدتْ دواوين الشعراء العراقيين ممتلئةً بالموت لا باعتباره موضوعاً شعريّاً كبيراً فحسب، - وثمة مراثٍ كثيرة في الديوان-، بل باعتباره مجازاً للحالة العراقية برمّتها. فهذه المفردة، شأنها شأن سابقتها، تحضر صراحةً في القصائد: «سأعود لذاك البيت/ سأقول: لك الله كم موتاً مرّ عليك»، أو «ليكن أحدٌ منكم جنبي/ يشغل عني هذا الموت/ الواقف فوق الشرفة يرقبني/ أن أدخل فيه». مثلما تحضر عبر طرق ملتويةٍ، كما في قصيدة «رسام»، حيث يتقمص الشاعر صوته: «كيف أنام/ وأنا أبدلّ ليلاً بليل/ ولوناً بلون؟/ لكنه كلّما يهبط الضوء/ يدخل لوحته/ من جديد». وفي الحالة العراقية، لا يجيء الموت منفرداً، بل ترافقه غالباً مفردتا الجنود والحرب: «كيف تكلكل فوقي الليل/ تلك اللحظة في سوهو/ فتكوّرت الحرب/ وانتشر الجند الموتى فوق البار». الأمرُ الذي يشير إلى قوّة الواقع في التأثير على مخيلة المنفيّ. بيد أن الأهمّ في قصائد السلطاني، هو ربطه الصائب تماماً بين الطاغية والحرب والموت: «ماذا سأفعل بالحرب هذه الليلة/ كيف أقتلها/ كي لا تنهض في الصباح/ معربدةً في الدروب/... ثمّ ماذا أفعل بهذا الطاغية/ وهو يوّلدها، كلّما استبدّ به الملل»، أو «بنى موسوليني سبعةً وسبعين نفقاً/ نفقٌ لكلّ امرأة/... وظلّ يركض ذهاباً وإياباً/... من سالو حتّى روما/ ومن روما حتّى آخر الليل/ حيث كان الرجال/ المتبقون من حروب الصباح/ ينتظرون نساء المساء/ النائمات في النفق». الطاغية وحده من يقود البلاد إلى كوارث الحروب، كما لو كان وصفةً جاهزةً لقتل الشعوب. ولعلّ هذا ما يفسّر كيف ظهر الشاعر في المقطع الأول متفرجاً حانِقاً على ما يحدث، لا يملك القدرة إلا على الصراخ. أمّا في المقطع الثاني، فقد ظهر الرجال كما لو أنهم مساقون إلى الحرب قسراً، فهم يتناقصون، ويبدو أن شأنهم كشأن الشاعر؛ مجردين من كل قدرة على الفعل، وفي الحالين يظهر الشاعر والرجال والنساء أقرب إلى صورة الضحية العزلاء. ماذا تفعل الضحية العزلاء؟ وكيف يوّسع الشاعر المنفيّ هوامش كلامها الضيقة؟ الظنّ أن ذلك يحتاج إلى امرأة ما، فالديوان أصلاً يحتفي بها. وربما، يكمن الجواب عن هذين السؤالين في قصيدة خادعة (عابرة في شارع دمشقي)؛ ظاهرها غزلٌ محملّ بتراثٍ عريقٍ لا رادَ لجماله، وباطنها يشفّ عن إيمان بالحبّ وشهواته: «كنتُ أتبعكِ من الحمراء/ حتّى المنعطف الواصل لابن عربي/ لأسرق شيئاً من الثوب/... شيئاً من ذاك السوسن في حدائق فارس/... لكنك كنتِ تحثين الخطى/ نحو ذاك الموت المبارك/ وأنت تحملين وجهي القديم/... وأنتِ تحثين الخطى/ من ذلك الزقاق الدمشقي/ إلى الطريق التي لن تعود/ سوى إليك». ففي هذه القصيدة يغيّر الموت لونه، إن جاز التعبير، وإذ اتخذ صفة البركة، فمن أجل ترك الأمور عند «المنتصف»، ملعب الشاعر الأثير، حيث لا شيء يكتمل ولا شيء يقترب من الوصول، لذا يكتفي الشاعر العاشق بأن يتبع امرأة ل «شهوة الحبّ لا الحبّ».