يذكر وزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، أنه التقى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد في السبعينات من القرن الماضي وقال له بصريح العبارة: لا تعتقد في يوم من الأيام أن الولاياتالمتحدة ستسمح للسلاح الروسي بهزيمتها في الشرق الأوسط، وكان رد الرئيس السوري أن قال: زودوني بالسلاح الأميركي وسأتخلى عن السلاح الروسي. ولم تزود واشنطندمشق بالسلاح الأميركي، ولم يهزم السلاح الروسي النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. ويمكن القول إن الدور الروسي (السوفياتي سابقاً) لم يكن في يوم من الأيام حاسماً في ترجيح توازنات القوة الإقليمية في الشرق الأوسط، كما في الحروب التي خاضتها الدول العربية مع إسرائيل، وأيضاً لم تحل موسكو دون وقوع المكروه في أقرب حلفائها من الدول العربية أو غير العربية عبر سنوات الحرب الباردة وما تلاها، سواءً في يوغوسلافيا أو العراق أو ليبيا...الخ. إلا أن الأمر بدا من الوهلة الأولى مختلفاً في ما يتعلق بالثورة السورية. على غير عادته أصبح الموقف الروسي من الأزمة السورية مؤثراً لكن في اتجاه مخالف للتوجه العربي السائد، الرامي إلى فرض حل قائم على وقف العنف ونقل السلطة بشكل سلمي يحقق المطالب والتطلعات الشعبية في إحداث تحول ديموقراطي في سورية؛ بل ساهم الدعم الروسي للنظام السوري في إطالة أمد الأزمة، وزيادة تعقيدها وكلفتها البشرية والمادية. وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا إن الموقف الروسي أضحى حاضراً في تفاصيل ومراحل تطور الثورة السورية كافة، لا سيما في بعديها المحلي والدولي. فالدعم الروسي الصلب جعل النظام السوري أكثر تعنتاً في وجه مطالب الإصلاح السياسي، بل شجعه على تبني الحل الأمني في محاولة للقضاء على المعارضة والثوار، وهذا بدوره قاد إلى تزايد وتيرة العنف والقتل والدمار، ناهيك عن التقارير التي تشير إلى مساندة روسية عسكرية وفنية للنظام السوري في مواجهة «الجيش السوري الحر»، على رغم نفي وزير الخارجية الروسية اعترافه بأن الأسلحة الروسية التي تصل إلى دمشق سبق الاتفاق عليها ولا تخرج عن دعم القوات الجوية السورية. أما على المستوى الدولي فإن الفيتو الروسي أعاق حركة مجلس الأمن وقلل من فرص إمكانية الحسم المبكر، وأعطى ثقة أكبر للنظام السوري في التسويف وشراء الوقت إزاء الجهود التي يبذلها المجتمع الدولي، وآخرها خطة المبعوث المشترك للأمم المتحدة والجامعة العربية، كوفي أنان. ولا نستبعد أن الموقف الروسي ساهم أيضاً في تشجيع الصين على تبني الخط الرافض للضغط على سورية واستبعاد مسألة تغيير النظام، من دون أن يكون هناك طرح مقنع وقابل للتطبيق من قبل الجانبين الروسي والصيني. نحن ندرك أن سورية هي القلعة الوحيدة المتبقية لروسيا في منطقة الشرق الأوسط، وتكاد تكون القاعدة العسكرية الوحيدة أيضاً، في وقت بدأت موسكو تضيق ذرعاً بتفرد واشنطن بصنع السياسة العالمية ومحاصرة روسيا في عقر دارها في آسيا الوسطى. كما أن الصين هي الأخرى بدأ يتزايد حذرها من إستراتيجية أميركا الجديدة في منطقة الباسيفيك، ما يعني أن الأزمة السورية ما هي سوى انعكاس لوضع دولي في طور التبلور قائم على صراع عالمي على النفوذ بين أميركا وحلفائها من ناحية، وروسيا والصين وحلفائهما من ناحية أخرى. وقد أكدت القمة التي عقدتها أخيراً منظمة شنغهاي للتعاون في بكين، بقيادة روسيا والصين وعضوية دول وسط آسيا، هذه الحقيقة من خلال التزام ثابت حول المواقف المشتركة للبلدين حيال القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، بما في ذلك رفض التدخل في سورية، ورفض الحلول القسرية للأزمة السورية، حتى السياسية منها. وما دعوة موسكوطهران، المعروفة بمواقفها الداعمة للنظام السوري، للمشاركة في مؤتمر دولي حول سورية، سوى شاهد آخر على الرغبة الروسية في الزج بالأزمة السورية في دهاليز التوازنات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط. روسيا لا تزال تتحرك في المربع الأول في ما يتعلق باستعادة دورها على الساحة الدولية، وهي لم تستطع حماية محيطها الإستراتيجي في وسط آسيا وشرق أوروبا، بالتالي فهي تحاول تحقيق ما لم تحققه هناك على الأرض السورية، وهي مطالبة بكفارة سياسية عن ما سببته من دمار لسورية والشعب السوري. هي مهددة بخسارة مصالحها في المنطقة العربية لأنها لم تحسن قراءة المشهد السياسي العربي، وما حدث من تغيرات سياسية تراجع بموجبها دور النخب السياسية التقليدية وتزايد دور النخب السياسية الجديدة، في وقت تعاظم دور الرأي العام العربي، وهذا يجعلها بحاجة إلى سياسة خارجية براغماتية تأخذ بالحسبان التفاصيل كافة في السياسة الإقليمية من دون الركون إلى أبجديات الحرب الباردة. ومن المرجح أن تخسر روسيا نفوذها في سورية المستقبل، وهذا يجعل الموقف الروسي من الأزمة السورية، وإن بدا مؤثراً، إلا أنه في النهاية لن يخرج عن الدور المعطل وليس الفاعل، وهذا يتماشى مع الدور التاريخي لموسكو في المنطقة. * الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية