منذ أسبوع تقريباً أطلقت محطة الإذاعة العسكرية في إسرائيل النكتة الآتية: ماذا يفعل المواطن الأميركي إذا اكتشف فجأة أن كل الأجهزة ووسائل الراحة في منزله معطلة؟... المغسلة مسدودة... والمرحاض مملوء بالأوساخ... وصنابير المياه الباردة والحارة متوقفة عن العمل! كيف يتصرف صاحب المنزل في هذه الحال؟ الجواب: بدلاً من الاتصال بالسمكري، عليه أن يبادر إلى حل مشكلته بسرعة من طريق ابلاغ باراك أوباما بالأمر. عندها يتوجه الرئيس إلى المذياع لإلقاء خطاب مسهب يعتمده المواطن وسيلة فعالة لحل مشكلته المعقدة؟ صحيفة «هآرتس» ادعت أن هذه النكتة صيغت في مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو بهدف اظهار أوباما كزعيم ضعيف ولكنه يحاول تغطية عجزه من طريق استخدام أسلوب البلاغة واللغة المنمقة. وقد أيّد وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان هذا التفسير، وقال إن تصريحات الرئيس الأميركي لم تأت بأي حل سوى أنها عكست عمق الفجوة التي تفصل بين موقفين متعارضين. وقد ظهر هذا الخلاف إلى العلن الأسبوع الماضي عقب اللقاء الصاخب الذي جمع الرئيس أوباما بقادة الجالية اليهودية لمدة ساعة تقريباً. ومع أن البيت الأبيض حظّر على المشاركين الإعلان عما دار في ذلك الاجتماع المغلق، إلا أن صحيفة «لوس انجليس تايمز» كشفت عن الانتقادات التي وجهها أوباما إلى إدارة جورج بوش. وذكرت أنه ركز في حديثه على اتهام سلفه الرئيس الجمهوري بالتواطؤ لكونه دعم كل التجاوزات التي اقترفتها إسرائيل. وفي رأيه، أن هذا الدعم المطلق لم ينتج الحلول الموعودة على امتداد ثماني سنوات. في نهاية اللقاء الذي جمع ممثلين عن 14 تنظيماً يهودياً، كرر أوباما دعوته لوقف بناء المستوطنات في الضفة الغربية لأن تحقيق هذا المطلب يمنحه القدرة على بناء صدقية في العالم العربي. كما يعطي مبعوثه الخاص جورج ميتشل الفرصة العملية لدفع عملية التسوية السلمية. وفجأة، نقل نتانياهو المشكلة من الخلاف على المستوطنات إلى خلاف أعمق على مستقبل القدس. صحيح أنه وعد الفلسطينيين عبر الخطاب الذي ألقاه في جامعة «بار ايلان»، بدولة مستقلة مجردة من السلاح. لكن الصحيح أيضاً أنه لم يشر إلى عاصمة هذه الدولة، كما توقع الجمهور. ومطلع هذا الأسبوع نقل معركته مع أوباما من إجماع عالمي وأميركي بخاصة عن موضوع المستوطنات، إلى إجماع إسرائيلي - يهودي حول مصير القدس، معتبراً أنها العاصمة الأبدية الموحدة لدولة اليهود. السبب الظاهر الذي قاد إلى انفجار الخلاف من جديد بدأ في آذار (مارس) الماضي. يومها أعلنت وزارة الإسكان عن مشروع يضم مئة وحدة سكنية فوق أرض خاصة اشتراها صاحب كازينو للقمار في «لاس فيغاس» ارفين موسكوفيتش في منطقة «الشيخ جراح». ثم وقف نتانياهو هذا الأسبوع ليتبنى قرار تنفيذ المشروع ويعلن «أنه من حق كل يهودي السكن في أي مكان داخل القدس الموحدة». وقد تصدى له عضو الوفد الفلسطيني المفاوض صائب عريقات، ليؤكد له أن الدولة الفلسطينية لن تقوم من دون القدسالشرقية، معتبراً أن نتانياهو ألغى قرار مجلس الأمن 242 من طرف واحد. وترى حنان عشراوي أن واقع القدسالشرقية قد تغير بعدما اقتحم ارييل شارون قلب المدينة القديمة واشترى فندقاً يملكه شاب لبناني لم يلبث أن حوله إلى مسكن خاص. واعتبرت تلك الخطوة بمثابة المدخل لكل التجاوزات التي شهدتها أحياء القدسالشرقية. ففي «رأس العامود» يوجد حي يهودي يضم 300 عائلة يدعى معاليه - هزيتيم. وفي أبو ديس يُجرى بناء حي يسمى كيدمات - تسيون. وفي جبل المكبر حي يهودي مأهول يسمى نوف - تسيون. وفي «الشيخ جراح» اقيمت مكاتب حكومة إسرائيلية ملاصقة لمنازل عربية. وفي المدينة القديمة تسكن عشرات العائلات اليهودية قبالة أحياء النصارى والمسلمين. ويستدل من هذا التداخل أن تقسيم المدينة أصبح متعذراً إذا لم يكن مستحيلاً. ولكن، لماذا اختار نتانياهو موضوع القدس كسلاح يشهره في وجه أوباما؟ الجواب عن هذه النقلة السياسية هو أنه يرغب في نقل المواجهة مع الإدارة الأميركية من مسألة المستوطنات، حيث لا يوجد له دعم حقيقي، إلى مسألة مستقبل القدس، حيث تلتقي على تأييده أحزاب اليمين والوسط واليسار، إضافة إلى يهود الولاياتالمتحدة ومعظم أعضاء الكونغرس. أول من دعا إلى نصرة نتانياهو في معركته ضد أوباما كان الحاخام الأكبر لليهود الشرقيين شلومو عماره الذي اتهم الولاياتالمتحدة بمخالفة تعاليم التوراة. ووجّه رسالة مفتوحة إلى مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأميركية حضهم فيها على مقاومة ضغوط الإدارة التي تمنع البناء في جزء كبير من أرض إسرائيل. وكان الحاخام الأكبر بهذا التفسير يلغي الحل الذي اعتمده الفريقان المتصارعان وتبنّته الدول الكبرى بالتزام تسوية تقوم على أساس دولتين لشعبين، وقد استغل شلومو هذه المناسبة لانتقاد الرئيس أوباما لأنه زار معتقل بوخنفيلد في المانيا فور إلقاء خطابه التاريخي في القاهرة. واتهمه بإخراج سياسة واشنطن عن الخط العقائدي الذي رسمه سلفه جورج بوش عندما قدم لإسرائيل كل الفرص الممكنة لبناء دولة آمنة داخل جدار الفصل. ورأى الحاخام في مبادرة التوازن بين خطاب القاهرة وزيارة بوخنفيلد اعترافاً ضمنياً بأن إسرائيل وجدت كتعويض عن الهولوكوست، لا كتحقيق لوعد توراتي باسترداد أرض الميعاد. الحملات لم توفر الموظفين اليهود في البيت الأبيض كرام عمانوئيل وديفيد اكسلرود لأنهما أيّدا رئيس الجمهورية وأعلنا أنهما يسعيان لانقاذ إسرائيل من نفسها. وقد استخدم كيسنجر هذا التعبير عندما ضغط باتجاه التسوية عقب حرب 1973. كذلك هاجم اسحق شامير مساعدي الرئيس جورج بوش الأب، واتهمهم بالتنكر لأصولهم اليهودية لأنهم وافقوا على تجميد المساعدات، ما لم تتوقف إسرائيل عن بناء المستوطنات. وقد اطلقت صحيفة «معاريف» على دينيس روس واهارون ميللر ودان كيترنر لقب «ثلاثية اليهود الصغار» لانتقادهم توسيع المستوطنات. يقول مؤرخ النكبة وليد الخالدي إن التصريح الذي صدر عن حكومة نتانياهو بإعلان القدس عاصمة موحدة، ليس أكثر من حلقة في سلسلة طويلة تعود إلى مطلع القرن التاسع عشر. ففي 1827 باشر الضابط البريطاني اليهودي موشيه مونتغيوري إقامة أول مستعمرة في القدس عبر خداع السلطات العثمانية، والادعاء أنه سيبني مستشفى. واستمر البناء في قلب القدس من 1839 حتى 1859 بحجة ايواء فقراء يهود. ومع صدور وعد بلفور ودخول القوات البريطانية القدس في 11 كانون الأول (ديسمبر) 1917 باشرت الصهيونية محاصرة القدس وإلغاء طابعها الفلسطيني (المسلم والمسيحي). ولتثبيت هذا المخطط قامت الشرطة الإسرائيلية سنة 1967 - أي سنة الاحتلال - بمصادرة سجلات تاريخية ودينية يعود تاريخها إلى أكثر من خمسمئة سنة. وبين المواد المسروقة وثائق رسمية لبيع وشراء أراض يملكها فلسطينيون في القدس، وتتضمن ايضاً وثائق ملكية الوقف الإسلامي، وعقود الزواج والطلاق المسجلة. وذكر في حينه أن الهدف من وراء مصادرتها الاستيلاء على البيوت في الحي الإسلامي بالتحديد، والذي يعتبره اليهود حيّهم القديم. أي الحي المؤدي إلى حائط المبكى حيث يقع منزل شارون. ومع أن كل البيوت في الحي الإسلامي تعود ملكيتها الى دائرة الأوقاف، فالاحتلال الإسرائيلي صنّفها أماكن أثرية لا يجوز ترميمها أو استئجارها من جانب العرب. بعد محو مئات القرى الفلسطينية من الخريطة بهدف إلغاء صورها من الذاكرة الجماعية، وصلت عملية التفتيت إلى حد اطلاق اسماء عبرية على اسماء المدن والقرى العربية. ذلك أن القرار الذي أصدره وزير المواصلات يسرائيل كاتس، قضى بضرورة استخدام اسماء عبرية مكان اسماء تاريخية عربية انسجاماً مع موجة التحول التي يطلقها حزب «ليكود». ويقول الزميل أسعد تلحمي إن بلدته الناصرة أصبحت «نتسرات»، والقدس أصبحت «يروشلايم» ويافا صارت «يافو» وشفاعمرو استبدلت ب «شفارعام». والغاية من كل هذا الغاء فلسطين وسكانها وأسماء بلداتها وشوارعها... وكل ما يذكّر العالم بهذا الوطن قبل سنة 1948. وفي الكتاب الذي صدر أخيراً تحت عنوان «التطهير العرقي في فلسطين» للمؤرخ ايلان بابي، ما يؤكد تطبيق نظرية التنظيف العرقي والعنصري في فلسطين على نحو مشابه للأعمال الوحشية التي عارضها مانديلا في جنوب افريقيا. في ضوء هذه الخلفية تبدو مشاريع السلام التي يهرول وراءها رئيس السلطة محمود عباس وكأنها حقب مبرمجة لتقطيع الوقت، ومنح إسرائيل الفرص اللازمة لإحكام قبضتها على الضفة الغربية، خصوصاً أن إعلان القدس عاصمة موحدة نهائية لدولة إسرائيل كان بمثابة إلغاء لاتفاق أوسلو والقرار 242. وهذا ما أخاف الأردن وجعل دولته في حال استنفار دائمة لأن لاءات نتانياهو وليبرمان ستقود حتماً إلى تكرار عملية أيلول الاسود. وزير خارجية الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا اقترح خلال زيارته الأخيرة إلى للندن حلاً مفروضاً يقوم على اعتراف مجلس الأمن بدولة فلسطينية، وبما أن مجلس الأمن يمثل أعلى سلطة تنفيذية للمجموعة الدولية، فإن قراره يجعل من فلسطين عضواً في الأممالمتحدة، تماماً مثلما جعل قرار التقسيم من إسرائيل عضواً سنة 1947. ويتوقع المراقبون أن تلجأ الجامعة العربية إلى الجمعية العامة بغرض التصويت على قرار قبول فلسطين عضواً في الأممالمتحدة، خصوصاً أن هناك أكثر من مئة وسبعين دولة تؤيد هذا القرار، وترى في إعلان القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل تحدياً سافراً للدول الإسلامية والمسيحية. فالقدس بالنسبة لأكثر من ملياري مسيحي قبلتهم الأولى والأخيرة. وبالنسبة لمليار ونصف مليار مسلم أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين بعد مكةوالمدينةالمنورة. تقول «هآرتس» إن نتانياهو رمى كتلة النار بين يدي أوباما كأنه بذلك يقلد اسحق شامير سنة 1991 يوم طلب منه جورج بوش الأب الالتحاق بمؤتمر مدريد. ولما أظهر بعض التمرد واستمر في بناء المستوطنات، حرمه من مساعدات بقيمة عشرة بلايين دولار إلى أن انصاع وانضم إلى الركب. وقد تكون هذه هي المرة الرابعة التي يختلف فيها رئيس جمهورية الولاياتالمتحدة مع رئيس وزراء إسرائيلي. ففي المرة الأولى أمر الرئيس ايزنهاور بن غوريون بسحب قواته من سيناء بعد الاعتداء الثلاثي سنة 1956. وفي الثانية تغلب بن غوريون على خصمه الرئيس جون كينيدي بالضربة القاضية عندما دبر له عملية الاغتيال بواسطة «المافيا» لأنه أمره بإقفال مفاعل ديمونا. وفي الثالثة تراجع اسحق شامير أمام تهديدات جورج بوش الأب بوقف المساعدات الاقتصادية إذا لم يحضر اجتماعات مؤتمر مدريد سنة 1991. وهذه المرة يواجه الرئيس أوباما خصماً إسرائيلياً متهوراً يؤمن بأن يهوه منحه حق استرجاع يهودا والسامرة. * كاتب وصحافي لبناني