يتضح اكثر فأكثر أن معركة أوكرانيا طويلة الأمد، على رغم سياسة «ضبط النفس» التي يمارسها كل من روسيا وأميركا والاتحاد الأوروبي، فلا تلوح في الأفق بارقة أمل بأي حل قريب أو متوسط. وبعد أن استرجعت روسيا بسرعة قياسية شبه جزيرة القرم وباشرت فوراً عملية توحيدها السياسي والاقتصادي والإداري وتحويلها إلى قاعدة استراتيجية متقدمة تحشد فيها الأسلحة الدفاعية والهجومية، البرية والجوية والبحرية، لا سيما الصواريخ البالستية والقاذفات البعيدة المدى والغواصات النووية، في مقابل الصمت الكامل لأميركا والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو عن ذلك، بعد ذلك كله يتأكد تماماً عدم استعداد وعدم رغبة «المعسكرين» -الروسي والغربي- في المواجهة الساخنة، على الأقل في المرحلة المنظورة. وفي المقابل، ينطبق على المعركة الأوكرانية مفهوم «الحرب الإقليمية» أو «حرب البدائل»، وذلك بدوافع إلزامية من «المعسكرين»: فمن جهة، لا تتحمل روسيا أن تكون أوكرانيا دولة معادية لها، وأن تتحول إلى قاعدة عسكرية غربية ضدها، لأسباب جوهرية، تاريخية وقومية ودينية وسياسية واقتصادية واستراتيجية. وتعتبر روسيا أن «أخذ» أوكرانيا يرادف «أخذ» أرض روسية. وفي الماضي، حينما أراد نابوليون الاستيلاء على موسكو، عمد الروس إلى إحراقها. والآن، فإن روسيا مستعدة لأن تحرق نفسها وتحرق العالم كي لا «تؤخذ»، وهذا ما يدفع موسكو لأن تدعم أنصارها وحلفاءها الروس- الأوكرانيين إلى ما لا نهاية. ومن جهة ثانية، فإن الغرب فشل في السيطرة الاقتصادية على روسيا بعد فتح أبوابها في عهدي غورباتشوف ويلتسين عقب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، كما أن روسيا صمدت اقتصادياً أثناء الأزمة المالية والاقتصادية في أميركا والعالم سنة 2008. . جاء إسقاط الطائرة الماليزية المنكوبة ليصب الزيت على النار في الأزمة الأوكرانية، وليضاعف بشكل ثقيل جداً الضغوط الغربية على روسيا. وسبق إسقاط هذه الطائرة اختفاء غامض لطائرة بوينغ ماليزية أخرى في شهر نيسان الماضي فوق بحر الصين. وهذا يدفع إلى التساؤل: هل كان المقصود هو طائرات البوينغ الماليزية بالذات، وأن أوكرانيا لم تكن سوى «ساحة تنفيذ» ملائمة، وبالتالي فإن علاقة أوكرانيا بالجريمة والكارثة ثانوية؟ أم كان المقصود مفاقمة تعكير أجواء الحرب الأوكرانية، وكان قصف البوينغ الماليزية «صدفة» ويمكن، وللغرض ذاته، أن يكون بدلاً منها أي بوينغ اخرى أو أي طائرة مدنية لأي دولة أخرى؟ وسواء تحقق هذا الافتراض أو ذاك، فالمؤكد أنه جرت على الفور «أكرنة» كارثة الطائرة الماليزية، واستخدامها للتصعيد في الحرب الأوكرانية الدائرة ورفعها إلى مستوى التدويل. وبمراجعة إضبارة الكارثة، يكتشف المراقب بسهولة أن الرئيس الأوكراني الذي انتخب في أعقاب الانقلاب في كييف، بيوتر بوروشينكو، بدا كأنه كان ينتظر الحدث قبل وقوعه، فقبل أن يصل حطام الطائرة المنكوبة إلى الأرض سارع بوروشينكو إلى التصريح بأن الثوار الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا هم الذين قصفوا الطائرة بصاروخ «بوك»، وأنه يملك صوراً جوية تؤكد امتلاك أولئك الثوار للصواريخ ووجودها في المكان ساعة وقوع الكارثة، وهذا يعني أن «الثوار» سبق أن انتزعوا بعض منصات صواريخ «بوك» من الجيش الأوكراني. وسارعت قيادة الجيش الأوكراني فوراً للتأكيد أن «الثوار» لم ينتزعوا صواريخ «بوك» من الجيش، فعاد بوروشينكو و «صحح» تصريحه، متهماً روسيا بتزويد «الثوار» الموالين لها بصواريخ «بوك». وهذا ما تمسكت به وأكدته إدارة الرئيس الأميركي أوباما، التي استندت إلى تصريحات بوروشينكو لاتهام روسيا بتدبير قصف الطائرة الماليزية المنكوبة وطلبت فرض عقوبات اقتصادية جديدة عليها. وطبعاً كانت الإدارة الأميركية «أكثر ذكاء» من بوروشينكو، فأكدت أيضاً أن صواريخ «بوك» هي من إنتاج روسيا. وظلت إدارة أوباما متمسكة بهذا الموقف، على رغم أن الاستخبارات المركزية الأميركية ذاتها أكدت عدم وجود براهين على ضلوع روسيا في الجريمة، وأن الصور التجسسية من الأقمار الاصطناعية لم تسجل عبور (دخول أو خروج) منصات صواريخ «بوك» الحدود الروسية- الأوكرانية؛ وان المنصات الصاروخية التي كانت موجودة في مكان وقوع الحادث تعود للجيش الأوكراني. وبهذا الصدد تساءلت وزارة الدفاع الروسية: لماذا نشر الجيش الأوكراني صواريخ «بوك» (المخصصة لضرب الأهداف الجوية) في المنطقة قبل وقوع الكارثة، علما بأن «الثوار» لا يملكون طيراناً حربياً؟ ولماذا تم سحب تلك المنصات فوراً بعد وقوع الكارثة؟ لا واشنطن ولا كييف ردت على التساؤلات الروسية، لكن الجيش الأوكراني كثف قصفه بالمدفعية والطيران المنطقة التي سقطت فيها الطائرة، معرقلاً لأيام وصول المراقبين الدوليين، خصوصاً بعد أن أعلن «الثوار» عثورهم على الصندوقين الأسودين للطائرة المنكوبة، ورفضوا تسليمهما إلى سلطات كييف، والإصرار على تسليمهما للمراقبين الدوليين. خلال هذا الاحتدام الميداني والسياسي، الإقليمي والدولي، أعلن تنظيمان رئيسيان من المعارضة السابقة هما حزب «أودر» وحزب «سفوبودا»، بالإضافة إلى 19 نائباً مستقلاً (موالين للاتحاد الأوروبي) انسحابهم من الائتلاف الحاكم المسمى «الخيار الأوروبي»، الذي فقد بذلك الأكثرية الدستورية، فاضطر رئيس الوزراء (الموالي لأميركا) أرسيني ياتسينيوك لتقديم استقالة الحكومة. وكان ياتسينيوك قد تقدم من البرلمان بطلب زيادة تمويل الحملة العسكرية ضد شرق أوكرانيا، وبخصخصة 49 في المئة من شركة «نفطوغاز» والسماح للشركات الأوروبية والأميركية بالمساهمة فيها، وأعلن ياتسينيوك أنه تقدم باستقالته احتجاجاً على رفض الموافقة على اقتراحاته. وفي الوقت ذاته صرح سيرغيي سوبوليف رئيس الكتلة البرلمانية لحزب «الوطن» اليميني المتطرف (حزب رئيس الوزراء المستقيل)، أن الذين انسحبوا من الائتلاف الحاكم، لا سيما حزب «أودر» الذي يتزعمه بطل الملاكمة العالمي كليتشكو الذي تدعمه أوروبا، ولا سيما ألمانيا، هم من صنائع الأوليغارشي- الملياردير الأوكراني المعروف ديميتري فيرتاش، المعتقل الآن في النمسا بطلب أميركي بتهمة الفساد والجريمة المنظمة، والمرتبط ارتباطاً وثيقاً بتجارة الغاز في أوكرانيا وعبرها، والذي يتهمه سوبوليف بأنه من أنصار الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش ومن أعوان روسيا. وهكذا، يبدو بوضوح أن الأزمة الأوكرانية تلف وتدور حول القضايا الاقتصادية، لا سيما أنابيب نقل الغاز الروسي إلى أوروبا. ويقول بعض المراقبين إن الطائرة الماليزية المنكوبة أسقطت الحكومة الأوكرانية، وربما تسقط أيضاً البرلمان، وربما تسقط الرئيس بوروشينكو، أن الحرب في شرق أوكرانيا قد تمتد إلى وسطها، ولا سيما إلى كييف، خصوصاً وأن «حزب الأقاليم» (الذي كان يترأسه ولا يزال رئيس الجمهورية الشرعي المعزول فيكتور يانوكوفيتش) والذي لا يزال يؤمن إلى الآن بإيجاد حل سلمي للأزمة الأوكرانية، أصبح من المرجح أن يعمد هو أيضاً إلى إشهار السلاح، علماً بأنه يمتلك رصيداً كبيراً في الجيش والشرطة والاستخبارات، لا سيما في صفوف كبار الضباط، الذين يجدون أنفسهم مسؤولين عن مصير بلادهم. * كاتب لبناني مقيم في صوفيا