تذهب أوروبا، شبه منقادة، إلى عرس كرة القدم في أجواء من القنوط والإحباط لم تعرف مثيلاً لها منذ الحرب العالمية الثانية. منهكة بفعل الأزمة المالية المتمادية التي تكاد تفلت من عقالها، وبسبب من التقرحات الخطيرة التي تعتمل في ثنايا تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية. تبحث «القارة العجوز» عن فسحة من النسيان تهرب إليها من الأشباح التي تلاحقها منذ شهور وتنذر بتقويض دعائم منجزات الرفاه الاجتماعي والاستقرار، والتي لا سابق لها في تاريخها. اليونان التي قذفت أزمتها أولى حمم هذا البركان المالي الهادر تحبس أنفاسها على أبواب جولة أخرى من الانتخابات الاشتراعية التي، أيّاً كانت نتائجها، لن توقف الانحدار السريع في متاهات الفقر والاضطرابات والاختلالات الهيكلية المنذرة بأوخم العواقب. البرتغال وإرلندا تقاسيان في غرفة العناية الفائقة، فيما تترنح إسبانيا على شفا زلزال تعرف إيطاليا أن ارتداداته ستقوّض الدعائم المهتزة لنظامها المالي واقتصادها الذي تراجع مؤخراً وراء الهند والبرازيل وكوريا الجنوبية. حتى هولندا المنضبطة اضطرت لإخضاع نظامها المصرفي لجراحة موضعية سريعة، منعاً لتفشّي الورم. وفرنسا تدرك أنها لن تكون في منأى عن الاهتزازات المجاورة، لا سيما أن بنيتها المصرفية تشهد علائم وهن منذ فترة فيما يراوح نظامها الإنتاجي حول معدلات نمو مقلقة. وفي الوقت الذي كانت الولاياتالمتحدة تلح على الأوروبيين، ثلاث مرات في أيام ثلاثة، وتحذرهم على لسان رئيسها باراك أوباما من أن الإجراءات المتخذة حتى الآن ليست شافية، كان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون يفاجئ الأقربين والأبعدين داعياً إلى إقامة اتحاد مالي أوروبي، ومؤكداً أن السبيل الأوحد لوقف انهيار اليورو هو توطيد الوحدة السياسية. لكن صفارات الإنذار الأشد خطورة حتى الآن بدأت تسمع في ألمانيا، موقع قيادة القاطرة المالية والاقتصادية في أوروبا. إذ يرى المستشار السابق غيرهارد شرودر «أن البيت الأوروبي تندلع فيه النيران، فيما يواصل الإطفائيون محاولاتهم لإخماد الحريق بالزيت، أي بمزيد من الإجراءات التقشفية التي تفرضها المستشارة انغيلا مركل». ويعتبر المستشار الاشتراكي الديموقراطي الذي حكم ألمانيا في عز فورتها الاقتصادية «أن ألمانيا كانت المستفيد الأول من مشروع الاندماج النقدي الأوروبي لأن الصادرات تشكل الركيزة الأساسية لاقتصادها»، وبالتالي فان الإصرار على سياسة التقشف في الأسواق الرئيسية التي يصرّف فيها الإنتاج الألماني ضرب من الانتحار. وزير الخارجية الألماني السابق جوشكا فيشر يرى من جهته أن انهيار اليورو سيؤدي إلى انفراط عقد الاتحاد الأوروبي، ويفتح الأبواب على أزمة اقتصادية عالمية طاحنة. ويحذر من أن الجهود الجبارة التي بذلها جيلان من الأوروبيين لبناء المؤسسات التي أعطت أوروبا أطول فترة سلام ورخاء عرفتها في تاريخها ستتبدد إذا لم تغّير ألمانيا مسارها بسرعة. ويستفاد من دراسة وضعها فريق المحللين الاستراتيجيين في المفوضية الأوروبية أن الأزمة الاقتصادية المالية في الاتحاد الأوروبي دخلت مرحلة الخطر الشديد وباتت معالجتها في سباق محموم مع الوقت الذي أصبحت جدولته متعذرة في ظل الصيغة السياسية الراهنة. وتخلص الدراسة التي يتداول رئيس المفوضية الأوروبية مانويل باروزو مضمونها في لقاءاته بالمسؤولين الأوروبيين منذ أسبوغين إلى دعوة ألمانيا، أو الضغط عليها، كي تقبل بإجراء تعديل في العمق على سياستها الاقتصادية، وفرنسا كي تقبل بتعديل جذري في سياستها الأوروبية، تمهيداً لتعميق الوحدة السياسية وتعزيزها وإجراء التعديلات الهيكلية التي تتيح قيام حكومة أوروبية تخضع لرقابة برلمانية مشتركة في منطقة اليورو وتكفل الديون الأوروبية كافة بواسطة سندات خزينة أوروبية. دمّرت ألمانيا ذاتها، وقوضت النظام الأوروبي، مرتين في القرن الماضي. وفي المرتين استطاعت إقناع أوروبا، والعالم، بأنها استخلصت العبر من تلك التجارب. فهل تعيد الكرة مرة ثالثة؟