في كتاب «تقاطع نيران» الصادر أخيراً عن دار الآداب، كتبت الروائية السورية سمر يزبك «يوميات ليست توثيقاً مباشراً للأشهر الأولى في الانتفاضة السورية، بل مجرّد أوراق استعنتُ بها في أيامي على مواجهة الخوف والذعر وكذلك مراودة الأمل. لكنها كتابة حقيقية واقعية ولا تمتّ إلى الخيال بصلة». تتحدث عن كرنفالات الرعب وتحوّل الأجساد آلات قتل فتاكة، لأن «الواقع أكثر وحشية من الخيال... ما نكتبه أقلّ وحشية مما يحدث على أرض الواقع». تحضر كلمات يزبك وذاتها الى حدّ ما، في مسرحية «فيك تطلّع بالكاميرا؟» (نص محمد العطار وإخراج عمر أبو سعدة) التي عرضت على هامش «مهرجان الربيع» في مسرح «دوار الشمس» في بيروت. «نورا» (ناندا محمد)، شخصية رئيسية في المسرحية، تتحدّر من عائلة مقتدرة يبدو أنها قريبة من السلطة، تقرر الخروج على طاعة أهلها والتحرّر من خوفهم والتزاماتهم، من خلال توثيق بالفيديو لتجارب الاعتقال لأبناء جيلها خلال الانتفاضة السورية. وملامح شخصيتها وطريقة تحوّلها من لامبالية الى امرأة متمسّكة بالحياة الى حدّ الخوف، تشبه شخصية سمر يزبك «التي صارت أخرى»، كما تقول. لكن رحلة يزبك في جحيم الاعتقال وحفلات أجهزة الأمن السوداوية، وُصفت في شكل أدق وأقوى. تذوب الحواجز تدريجاً بين مهمة «نورا» والعلاقات الشخصية المُتشكلة مع الأشخاص الذين تلتقيهم، لنكتشف بين طيات المَشاهد أن ابنة ال 33 سنة المطلّقة تمثّل هنا جيلاً رضع ثقافة الخوف والصمت مع الحليب. واليوم تتيح له الثورة، ليس إسقاط النظام فحسب، بل الانتفاض على نفسه ومحيطه ولو كلّفه ذلك حياته. هذا الجيل الذي فتح عيونه على صور الحاكم الحديدي في المدارس والمطاعم والبيوت والحدائق العامة والشارع، لعلّه يتساءل وهو يتظاهر في الشارع، هل ما أعيشه مغمض العينين مربوط اللسان ومكتوف اليدين هو حياة؟ وأي حرية قد أخسرها في المعتقل؟ فتلك الحرية سُرقت منذ زمن، في المدرسة حيث تلا نشيد البعث يومياً بالزيّ العسكري الموحد، ثم عندما حُكم عليه الانتساب الى الحزب الواحد وإلا صار مهمشاً، ثم عندما أراد العمل فاصطدم بسطوة الفساد والطائفية... قررت «نورا» إثبات وجودها كفرد من خارج الحزب الواحد والفكر الواحد والعقلية الذكورية، قبل أي شيء. قرّرت أن تمتحن ذاتها لتعرف قدرة هذا الكيان المهمّش المجبر على الذل والسكوت. تواجه أهلها وجيرانها وأصدقاءها الذين يسيّرون أمورهم كيفما اتّفق، ليُقنعوا أنفسهم بأن «البلد ماشي». لكن هذا الخوف الذي تحاول قتله، يُضيّق عليها الخناق كلما صوّرت شهادة معتقل أو معتقلة. أسئلة تتخطّى الشخصية تحاصر «نورا» أسئلة كثيرة قد تبدو ذاتية، لكنها قضايا الوضع المعقّد في سورية اليوم. يتجلّى ذلك خصوصاً في حواراتها مع أخيها المحامي (جمال شقير) الذي يهزأ من عملها ويشكك في جدوى الثورة ككل. يطرح عليها أسئلة من نوع: «إلى أين ستصلين وأمثالك بهذه الفوضى؟ البلد على كفّ عفريت، فكيف ستُنقذونه؟ إذا فلتت القصة، من سيحميكِ؟ ماذا سيحلّ بأهلك لو اعتقلت؟ من سيحمي البلد إذا وقعنا في حرب أهلية؟»... ثم تنتقل الحوارات بين «نورا» والمعتقلين الذين تسجِّل شهاداتهم، وهي شهادات جمعها محمد العطار خلال الأشهر الأولى من الانتفاضة من معتقلين حقيقيين خاضوا التجربة، بهدف التوثيق آنذاك. لكنه قرر تحرير هذه الشهادات من التوثيق «الكرونولوجي»، ليجعلها قصصاً درامية يختلط فيها الواقع بالخيال. وهنا نرى وجوهاً مموّهة عبر شاشة الفيديو تروي الرعب في الزنزانات، وفي الشوارع، لتكملها شخصيتا معتقلين على الخشبة (لونا أبو درهمين وأيهم الآغا). فنكتشف أن الخوف الذي يحاصر المعتقلين، من الناس والأقارب والعائلة والطائفة والزملاء الذين قد يُخبرون عنهم أو يُخوّنونهم أو يعادونهم، أصعب من الخوف من رجل الأمن والمُخبر والسجّان الذين يؤدون «عملهم». ونرى كيف يتمّ التعامل مع المعتقلين وفق مراتبهم الاجتماعية، وكيف تؤدي الواسطة دوراً في إخراجهم أو السماح لهم بمقابلة الأقارب. أما الهدف الأساس، فهو إذلال المعتقل السياسي. وتفتح تلك الشهادات والروايات الباب على سؤال حول كيفية توثيق هذه التجارب؟ وقيمة وثيقة من هذا النوع، وطبيعتها، في ظل الواقع الوحشي؟ وهل الوثيقة هي سردٌ موضوعي للوقائع؟ أم أنها سجلٌّ للانطباعات والهواجس والأحلام والكوابيس؟ تهافتت غالبية المشاهدين على المسرحية. لبنانيون وسوريون أرادوا أن يشفوا غليلهم بمشاهدة فضح للظلم والكراهية والعنف، لكن بعضهم اصطدم بضعف في الأداء التمثيلي الذي أرادوه مدويّاً في وجه مدافع تلهب بلاد الياسمين. وبعضهم الآخر أراد وصفاً وسرداً أقوى لوحشية الواقع التي يرونها على شاشات التلفزيون. وهناك قسم من المشاهدين، انتظر أن تُحرّك «فيك تطلع بالكاميرا؟»، التي عرضت في كوريا الجنوبية في مهرجان «بي أو أم» بصيغتها المسرحية، الرأي العام في بيروت والعالم. لكن من يعرف الظروف السرية التي أحاطت بتدريب فريق العمل في دمشق، والضغط الذي يتعرّض له والخوف الظاهر على وجوه أعضائه، لا يملك إلا أن يحيّيهم على جرأتهم لمجرد طرح قضية المعتقلين والثورة على خشبة متاخمة لبلادهم. وقد يزيد من عدم رضا المشاهد على مستوى إيصال الواقع، أن قوة النقل المباشر للوقائع والأحداث الدامية، سواء عبر «يوتيوب» أو التلفزيون، والمتابعة الدؤوبة على مواقع التواصل الاجتماعي للاعتقالات والتعذيب والقتل، لم تترك سلطة لوسيط آخر في رواية يوميات القهر بطريقة درامية. بين سمر و «نورا»... بندقية تشبه قصة «نورا» في المسرحية «تلك الزائرة الطارئة على هذا المكان، التي لا تنتمي إلى البيئة التي تعيش فيها»، كما تصف سمر يزبك نفسها في «تقاطع نيران». وتضيف: «أنا كتلة اللحم التي تمشي في الصباح من بيت الى بيت، تحاول أن تجد ورقة أخيرة للخلاص، وأن تدّعي أنها تفعل شيئاً يعينها على اعتقادها بفكرة التمارين على العدالة. لكن ماذا يساوي هذا الآن؟ لا شيء! كل الشعارات وكل الآلام وكل الكراهية المحرّضة على القتل والموت لا تعني الآن شيئاً أمام هذا الواقع...». وأثبتت مسرحية «فيك تطلّع بالكاميرا؟» أن هذا الواقع الدامي، مهما وُصفت تفاصيله، سيبقى أكثر إيلاماً وقساوة من الوصف، كأن رواية (أو فيلماً وثائقياً أو تقريراً تلفزيونياً) لا تستطيع أن تفيه حقّه. فرائحة الدم والجثث، أنين الجرحى، عويل الأطفال والنساء، لهاث الهاربين من القنّاصة والعسكر، ندوب الأسواط والصعق بالكهرباء، ولون وجوه الهلعين وعيونهم الجاحظة كأنها تتمسك بهنيهات الوداع، قد يصعب على المنتجات الإبداعية تجسيدها حينما يكون كل ذلك ما زال حدثاً لم يختتم ولم يُهضم بعد. هي تُخزّن في الذاكرة، ثم في لاوعينا تتحول كوابيس. وبمجرّد ذكر الحكايات المفجعة، يهتزّ بدننا، ويستعيد جسدنا وعقلنا كل الألم دفعة واحدة، ليكون وقعه، أحياناً، أقوى من لحظة وقوعه.