ماذا يحدث إذا تدخلت السلطات في يوميات المواطنين إلى درجة التحكم في التعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم مثل الضحك والبكاء والصراخ، وتخصيص أوقات وأماكن رسمية لذلك، وإلا عوقب المخالف بالسجن والأشغال الشاقة؟ هذه القضية تطرحها مسرحية «كريتوريوم» (مكان الصراخ العام) التي عرضت على خشبة «تياتر دو تان» في باريس، للكاتب غي فواسي والمخرجة مونيكا لي. تتطرّق المسرحية إلى الموقف الذي تواجهه ثلاث نساء خلال انتظارهن الباص الذي من المفترض أن ينقلهن من وسط المدينة إلى مكان «الصراخ الرسمي» الذي حدّدته السلطات. لكن يبدو أن الباص تأخر، الأمر الذي يسبب هستيريا لإحدى النساء، فيما تتذرّع الثانية بالصبر عبر سرد حكاياتها الشخصية إلى الثالثة التي لا تنصت إليها وتفضل ممارسة رياضة اليوغا لتحمّل عبء الانتظار... الرغبة في الصراخ باتت ملحّة أكثر من ذي قبل. لم تعد النساء قادرات على كبْتِها إلى حين وصول الباص. الانتظار يزداد صعوبة مع كل دقيقة تمرّ عليهن، إذ يشعرن بأن أصواتهن ستنفجر في أي لحظة غير آبهات بما قد يتعرضن له من خطر وعقوبات صارمة. من خلال لوعة الانتظار هذه التي تستمر ساعة كاملة، يرسم كاتب السيناريو غي فواسي لوحة فنية متكاملة يدرك المشاهد عبرها إلى أين وصلت المجتمعات الحديثة في ممارسة الديكتاتورية المتقدمة المبنية على تطور الوسائل التكنولوجية، وكيف يمكننا في إطار هذه المجتمعات أن نصل في مستقبل قريب إلى تدخل السلطات الفعلي في حياة كل واحد منا وكأنها تقيم معنا وترى وتسمع كل كلمة وكل همسة وكل ضحكة نصدرها. وبالتالي يسهل عليها تحديد أوقات وأماكن رسمية لنمارس فيها الضحك والبكاء والصراخ، بينما لا يحق لنا التعبير عن مشاعرنا خارج هذا الإطار، سواء في أماكن عملنا أو حتى في بيوتنا أمام أقرب المقربين إلينا. وتأخذ المسرحية المُشاهد إلى تفاصيل حياة كل واحدة من هؤلاء النساء الثلاث، ليكتشف الأسباب الشخصية، العاطفية منها والصحية والمهنية، التي تجعلهن يتردّدن إلى مكان الصراخ العام. بعد طول انتظار، تلمح إحدى النساء الثلاث (الممثلات جيني لوباج وستيفاني لو توكان وستيفاني بيتون)، فتُبلّغ صديقاتها الخبر كأنها اكتشفت كنزاً. تتنفّس الثلاث الصعداء، يقفن وسط الطريق محاولات لفت انتباه السائق إلى وجودهن. ولكن الباص لا يتوقف، لأن «مقاعده مشغولة كاملة» كما تشير لافتة وضعت خلف الزجاج... تتميز المسرحية بحوارات سلسة تمزج بمهارة بين الكوميديا والدراما، وبإخراج ذكي يسمح لكل من الممثلات بإظهار موهبتها وطاقتها الفنية، سواء في أسلوب فردي أو جماعي. الأمر الذي جعل المَشاهد متماسكة تخدم النص والفكرة، خصوصاً مع الخلفية الموسيقية التي ألّفها رومان لي لتتلاءم مع روح المسرحية. يذكر أن «كريتوريوم» تجول في مدن ريفية فرنسية وبعض العواصم الأوروبية، لتعود إلى المشاركة في مهرجان أفينيون في جنوبفرنسا في تموز (يوليو) المقبل.