أنهى مهرجان أفينيون للمسرح بين جدل وبهجة دورته الخامسة والستين التي بدأها في السادس من الشهر الجاري . وفي المدينة التي تحوّلت كعادتها في كلّ عام إلى عيد للمسرح لا يكلّ أبداً، مهما تقدّمت الساعة أو اكفهرّت السماء، تعاقبت العروض وتواكبت، وعجّت وضجّت القاعات والساحات والحدائق بالنقاشات واللقاءات وتوّزعت المنشورات في الشوارع تستجلب المشاهدين. ومعلوم أن برنامج المهرجان الرسمي - الin – تضمّن هذه السنة خمسة وثلاثين عرضاً، بينما ضاهت عروض المهرجان غير الرسمي – الoff – 1143 عرضاً. وقد تألّقت في الin أعمال عدة، مقدِّمة للمُشاهد لحظات مسرحيّة نادرة. أولّها في بداية المهرجان حين قدّم باتريس شيرو، من الثامن إلى الثاني عشر من تموز (يوليو)، إخراجاً ذا دقّة صارمة وجمال سرّيّ ساحر لمسرحية النروجي يون فوس: «أنا هو الهواء»، ومن المعلوم أن فوس نال جائزة أفضل مسرحية في النروج لعام 2006 . والمسرحية قُدّمت في ترجمة إنكليزية بعد أن أَنشأها شيرو بمساهمة مسرح «يونغ فيك تياتر» في لندن ويحمل شخصيتَيها، «الأول» و «الآخر»، ممثلان إنكليزيان شابان، توم بروك وجاك لاسكي، تأديتهما للنص رفيعة تُنصف إبهامه المقصود. ويتجاوب الإخراج في سحره السرّي مع نصّ المسرحية الذي تأتي الكلمة فيه متردّدة متأنّية يعبرها الصمت من كل جوانبها كأنه يُخشى منها أن تلفظ خبر حدث يُتعذّر العودة عنه، كأنه يُخشى منها أن تسبب ألماً لا يطاق. فالخشبة رصاصية قاتمة تبلّها مياه تنعكس أنوارها الخافتة على حائط رصاصي كذلك. يدخل «الأول» مبلول الجسد والثياب كأنه يخرج لتوّه من الأعماق. يحمله «الآخَر» بين ذراعيه كالطفل الصغير، يضمّه إلى صدره، يحنو إليه لحظات طويلة، كأنه يريد أن يعيده إلى الحياة. ويستعيد «الأول» قواه فيبادر «الآخر» قائلاً: «لم أكن أريد أن أفعل... إنما فعلت فحسب». المشهد في عرض المحيط، على قارب صغير، بين ماء وسماء، بين الحياة والموت. الخير والشر والسلطة وفي الجزء الأخير من المهرجان، تميّزت مسرحية «دم وورود: أغنية جان وجيل» للمخرج الفلمندي غي كاسيرز وقد قُدّمت في ساحة الشرف في قصر البابوات ابتداء من الثاني والعشرين من تموز وصفّق لها جزء من الجمهور واقفاً يوم الافتتاحية. وأتت المسرحية في موضوعها تتناسب أي تناسب مع هذه القلعة القروسطية، حيث تدور أحداثها بين عامي 1429 و1440م، خلال حرب المئة سنة. والمسرحية تتمحور في جزءين، الأول شخصيته الرئيسة جان دارك ، فتاة دومريمي المعروفة، التي سمعت أصواتاً دفعتها للذهاب إلى بلاط ولي العهد الفرنسي ودحرت الإنكليز في أُورليان وتوّجت ولي العهد ملكاً لفرنسا ثم ماتت في المحرقة. والشخصية الرئيسة في الجزء الثاني معاصرها جيل دي ري، وهو من أعلى قيادات الجيش الفرنسي رتبة في ذلك الحين ومن أغنى نبلاء المملكة. شارك في المعارك إلى جانب جان دارك وأُعجب بقدراتها ثم انصرف إلى الكيمياء والشعوذة وقتل الغلمان بعد اغتصابهم والتفظيع بهم جاعلاً من نفسه شخصية سادية قبل ساد، فحوكم وهلك في المحرقة كذلك. وغرض كاسيرز وواضع النص الكاتب توم لانوا من مقابلة هاتين الشخصيتين طرح الأسئلة عن الخير والشر وعلاقتهما بالسلطة السياسية والدينية التي تستعمل الناس ثم ترميهم وفقاً لمصالحها، في مسرح ملتزم ذي تطلعات اجتماعية حالية. إلا أن «أغنية جان وجيل» عمل فني بامتياز في الآن نفسه، فالنص المسرحي تعصف به شاعرية لم يطلق لها العنان والمخرج يُحكم كل الإحكام استعماله للصورة الفيديو المباشرة وللموسيقى والأضواء، وفقاً لمقتضيات الدراما، كما يتميز العرض بجمال أزيائه التي تجعل من بعض المشاهد، تحت أنوار الإضاءة المحكمة، لوحات فلمندية بديعة، هذا إلى جانب براعة تأدية شخصيات جان دارك وجيل دي ري والملكة إيزابو دي بافيار. وبين بداية المهرجان ونهايتِه أعمال مسرحية أخرى وعروض ذات مستوى فني رفيع أبهجت المشاهدين، نخصّ بالذكر منها العرض الغنائي والقراءة الشعرية التي قامت بها الممثلة جان مورو مرافقةً المغني اتيان داوو في أدائه لقصيدة جان جيني «المحكوم بالإعدام» وهي قصيدة حب ورغبة وموت كتبها جان جيني لشاب أعدم في العشرين من عمره بعد أن قتل عشيقه. كان ذلك في عرض واحد في الثامن عشر من تموز، أُهدي لأمنيستي إنترناسيونال بمناسبة عيدها الخمسين. وتناوبت مقاطع القصيدة بين قراءة وغناء فبرزت كلمات جيني حادة، صافية كالكريستال في فضاء القصر البابوي: «عصفورٌ مسكيٌن يحتضر وطعمُ الرماد/ وذكرى عين ناعسة على الجدار / وتلك القبضة الأليمة التي تهدد زرقة السماء/ تجعل وجهك يهبط في قعر يدي». وثمّة عملان مسرحيّان جديدان وضعا خصيصاً للمهرجان حملا أفكاراً مسرحية قوية. أولهما مسرحية «يان كارسكي اسمي خيال» للمخرج آرثر نوزيكييل وهي في ثلاثة فصول: الفصل الأول يستعيد شهادة المقاوم البولندي المسيحي يان كارسكي أمام لانزمان في فيلمه «شُووَا»، وهو الشاهد على مأساة غيتو وارسو خلال الحرب العالمية الثانية وقد حاول من دون جدوى منذ عام 1942 أن يعلم السلطات الغربية بما يجري. والفصل الثاني تلخيص لسيرة كارسكي التي كتبها بنفسه، أما الثالث فإنه مقتبس عن رواية الفرنسي يانيك هانيل يؤدي فيه الممثل لوران ْبوَاترونو وَحدة المرء الذي ينادي من دون جدوى كأنّ لا صوت له، كأنه خيال. وعلى رغم بعض المقاطع التي تطول في الفصلين الأولين، يحمل أداء ْبوَاترونو في الفصل الثالث زخماً تراجيدياً وقدرة إحيائية عظيمة في تحفّظ وخَفَر دائمين يكثّفان الزخم التراجيدي ويطرحان مسألة إنسانية الإنسان. أما المسرحية الثانية فهي هزلية مأسوية في آن معاً عنوانها «المنتحر» عرضت من السادس إلى الخامس عشر من شهر تموز. والنص للكاتب الروسي نيكولاي إردمان، صديق ماياكوفسكي ومِيِرهولد، كتبه في عام 1928. والهزل لا ينتج من وصف عيب تمكن من صاحبه أو علاقة زوجية مزعزعة يشوبها الرياء بل من وصف مسار نسيج اجتماعي سياسي يفقد فيه المرء انسانيته. وتروي المسرحية قصة عاطل من العمل أيقظ زوجته ليلاً لأنه يريد أن يأكل بعض السجق فوجد نفسه في تتابع احداث جعلت منه منتحراً انتحر ببطولة في سبيل شرائح اجتماعية عدة تتوافد عليه وتتنازعه وتدفنه في موكب كبير ، مع الفارق الصغير أنه لم يمت ولا يريد أن يموت. والحوار هزلي ينصف مقتضى الحال المجنونة: «لم يَضِع كل شيء بعد! سأقتل نفسي من جديد!» وبعيد المغزى معاً: «ما قد يفكر به الحَيّ، وحدَه الميّت يمكن أن يقوله». وقد منع ستالين المسرحية التي لم تقدّم على خشبة في الاتحاد السوفياتي إلا بعد موته وانتهت عندها حياة إردمان المسرحية. وإخراج باتريك بينو للمسرحية حاول أن يتجاوز صعوبة الفضاء المسرحي في مقلع بولبون الحجري وضخامته، والمعلوم أن بيوت العمال في الاتحاد السوفياتي في الثلاثينات صغيرة جداً، وذلك ببناء مكعبات خشبية بالغة الصغر لا تصطدم جماليتها بالجدران الحجرية لكنها تضطر الممثلين إلى حركات بهلوانية. ويبقى أداء بينو الذي يلعب الدور الرئيس وأداء الممثلين بعامة ممتازاً ولا يكفّ المشاهد عن الضحك طيلة العرض، والجدير ذكره أن مشاهدَين اثنين قد ماتا فعلاً من الضحك في العشرينات عند مشاهدتهما مسرحية إردمان الأولى. يوميات جان - لوك لاغرس وبين الأعمال المسرحية التي حملها ممثل واحد طيلة العرض، والتي ستذكر طويلاً بعد دورة المهرجان هذه، يوميات الكاتب المسرحي جان-لوك لاغرس التي كتبها من عام 1977إلى حين وفاته من مرض الايدز ، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، عام 1995. وقد اعدّ فرنسوا بِرور مقتطفات منها للخشبة. ويعتبر جان-لوك لاغرس من أهم الكتّاب المسرحيين الفرنسيين الحديثين. والعرض الذي سمي «شخصيّة في خطوط معدودات» وقدم من 20 إلى 23 تموز هو في الحقيقة استئناف لعرض أنشئ في عام 2008، إلا انه يبقى بين العروض الأكثر ذكاء وظرفاً وتأثيراً في المشاهد في المهرجان وقام بدور لاغرس الممثّل لورون بْوَترونو، وحده على الخشبة خلال ساعتين، مبيّناً سعة قدراته التمثيلية. وتتحدث المقتطفات كثيراً عن علاقة لاغرس مع عائلته ومع ميشلين ولوسيان أتون مديرَي « المسرح المفتوح» اللذين دعماه منذ بداياته وعن مرضه. وتقرع في آذاننا طويلاً بعد العرض كلمات لاغرس خلال صراعه مع مرضه: «هذه الفكرة الحمقاء... الفكرة البسيطة كل البساطة – ولكنها فكرة فرحة جداً، تسكّن الفؤاد اي سكينة، نعم هذا ما اعنيه، فكرة فرحة جداً – فكرة أني سأعود ، أنه ستكون لي حياة أخرى بعد هذه حيث سأكون نفسي، وأكون أفتن سحراً، وأمشي في الشوارع ليلاً واثقاً من نفسي أكثر مما مضى، وأكون انساناً حرّاً جدّاً، سعيداً جدّاً». وتضمّن المهرجان عروضاً راقصة عدة، مركّزاً فيها كذلك على الأعمال الابتكارية الجديدة، ومعلوم ان الرقص حاضر بامتياز في افينيون منذ دورات عدة، والفنان الشريك لهذه الدورة كان مصمّم الرقص الفرنسي الشاب بوريس شارماتز. والموضوع الذي اتخذه المهرجان موضوعاً مميزاً هو الطفل. وثمة عروض عدة شارك فيها أطفال منها بالطبع عرض «طفل» لبوريس شارماتز (7-12 تموز) شارك فيه 27 طفلاً بين السادسة والثانية عشرة من عمرهم. والعرض الذي يبدأ بصور صريحة قوية لسيطرة الآلة على الانسان تتمحور بنيته في جزءين يتصرّف فيها البالغ بالطفل في الجزء الأول ثم يتصرف الطفل بالبالغ في الجزء الثاني، والقصد من ذلك إعطاء صورة عن وضع الطفل في مجتمعاتنا الحديثة، بين الطفل المغتصَب والطفل الملك. وتنازعت آراء الجمهور في العرض بين مصفّق مهنئ ومستنكر صائح، كما قدّم الراقص رشيد اورمدان عرضاً يفنّد فيه كيف تنطبع الأيديولوجيات في الجسد (19-42 تموز). ولا ننسى الثورات العربية، التونسية منها بخاصة، التي حضرت المهرجان كذلك... فإلى جانب فرقة جليلة بكار والفاضل الجعايبي التي تحدثنا عنها في عدد 22 تموز، قدمت فرقة «شطحة» للرقص التي يديرها الفنانان التونسيان، عائشة مبارك وحافظ ضو، عرضاً في مهرجان ال off، وكذلك الفنانة مريم مرزوقي قدمت قطعة قصيرة في إطار ال in. ولعل المنظر الذي كان يدعو حقاً للدهشة ويدل على شغف جمهور افينيون هو ساحة القصر البابوي بين 16 و19 تموز وهي تعج بأكثر من ألف مشاهد عند الساعة الرابعة والنصف صباحاً أتوا لمشاهدة عرض مصممة الرقص البلجيكية آن-تريزا دي كيرسماكير حيث يرقص الراقصون ويغني المغنون أغانيَ من القرن الرابع عشر. وتنازعت الآراء في إخراج فريدريك فيسباك لمسرحية «الآنسة جولي» للسويدي أوغست ستريندبرغ (8-19 تموز) الذي شاركت فيه الممثلة السينمائية جوليات بينوش في الدور الرئيسي، وفي مسرحية انجليكا ليدل الإسبانية (8-13 تموز) التي صنعت مسرحيتها الحدث في العام الماضي في افينيون. ولعلّ ما أثار الجدل الحاد هو اقتباس المخرج فنسان ماكاين أحد ممثلي الجيل الشاب لمسرحية «هاملت» لوليام شكسبير (9-19تموز) بما تخلله من تعابير بذيئة وسوقية وصراخ وحركات استفزازية. وتحدث الصحافيون والمشاهدون طويلاً عن تلك الحفرة المستطيلة في مقدمة الخشبة المليئة بالماء الموحل المصبوغ بالحمرة التي تشكل قبراً لهملت الأب وسريراً لمضاجعات أخيه مع الملكة جرترود وساحة عراك تتصارع فيه الشخصيات وتقذف – أو تقصف؟ - جمهور الصفوف الأولى بالماء الموحل الأحمر. وتوزع المشاهدون بين معجب ب «جرأة» المخرج ومستنكر لقيمة العمل الفنية. أما ما كاد يثير المعركة يوم الافتتاحية بين مُعجَب ومستنكر ، فهو عرض المخرج الإيطالي كاستلوتشي (20-26 تموز) ينتقل فيه من بؤس الآخرة – آخرة الحياة – إلى الشك في الآخرة والإيمان، في عرض مزدوج المعاني، مزدوج الإخراج يتأرجح بين الجمالية المحكمة والبراز.