بدأ المفتش العام الاميركي ستيوارت بوين مهمة جديدة بوصوله قبل ايام الى بغداد، وتتعلق هذه المرة بالتحقيق في أوجه صرف اموال تبلغ نحو 17 بليون دولار من «صندوق تنمية العراق» كانت الحكومة الاميركية مفوضة التصرف به، ويعتقد المسؤولون في العراق ان مصيرها غير معلوم. مهمة بوين الذي صار «مدوناً» لفصول من الفساد العراقي والاميركي تحت عنوان «اعادة الإعمار»، بدأت بلقاء جمعه الى نائب رئيس الوزراء العراقي روز نوري شاويس، بحث عدداً من الجوانب المتعلقة بتحقيقات وعدت واشنطن بإجرائها بعد الكشف عن «غموض» يتعلق بمصير بلايين الدولارات المصروفة من «صندوق تنمية العراق». الفصل هذا من فصول حكاية الفساد الطويلة في العراق، بدأ الصيف الماضي حين طالب رئيس مجلس النواب اسامة النجيفي خلال لقاء في واشنطن جمعه مع نائب الرئيس الاميركي جوزيف بايدن بإجراء تحقيق حول مصير أصول مالية عراقية تقدر بأكثر من سبعة عشر بليون دولار صرفت من صندوق تنمية العراق عقب الغزو من دون توثيق. بعد اشارة النجيفي، اكدت واشنطن ان «حكومتي الولاياتالمتحدة والعراق تلتزمان الشفافية والمسؤولية في ما يتعلق بتاريخ صندوق التنمية في العراق، وأنهما تعملان معاً، وبمرافقة مفتشنا العام لإعادة إعمار العراق (ستيوارت بوين) لتدقيق كل الاموال من أجل حماية مصالح العراقيين». بعد اشهر وتحديداً في تشرين الاول (اكتوبر)، الماضي جاءت مهمة نائبة المفتش العام الاميركي الخاص لبرنامج اعادة إعمار العراق، جينجر كروز في بغداد، اقرب الى من «يبحث عن إبرة في كوم من القش»، والإبرة هنا ستكون «الحقيقة»، فيما القش هو «كوم الفساد الاميركي ونظيره العراقي» الذي يعتبر اكبر عملية سرقة للمال العام في التاريخ المعاصر. كروز بدأت في بغداد سلسلة من التحقيقات عن الاموال العراقية التي صرفت في عهد الحاكم الاميركي بول بريمر، عبر سلسلة من اللقاءات مع مسؤولين عراقيين للتحقيق بالأموال «الضائعة»، لافتة الى حاجتها الى تعاون أكبر من البنك المركزي العراقي وديوان الرقابة المالية. لكنها بالتأكيد لم تكشف عما ستتبينه من «العجب العجاب من أكوام الفساد الاميركية والعراقية التي نتجت من صرف أموال العراق في زمن الحاكم الاميركي بول بريمر والبالغة 20 مليار دولار». وكانت إدارة الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش أرسلت قرابة ال6.6 مليار دولار بعد غزو العراق في 2003، لإعادة إعمار البلاد ولإنشاء مشاريع للعراقيين، غير أن المراقبين الحكوميين لا يعلمون أين هذه الأموال ويزعمون أنها «سرقت». وأكد مسؤولون فى وزارة الدفاع الاميركية «بنتاغون» أن طائرة من طراز س 130 تستطيع حمل 2.4 مليار دولار من فئة المئة دولار، وأنهم أرسلوا واحدة مملوءة بالأموال، أعقبتها 20 طائرة أخرى بحلول شهر أيار (مايو) من عام 2004، لتكون بذلك أكبر عملية نقل أموال جواً. وعلى رغم إجراء التحقيقات والفحص على مدار أعوام، لا يستطيع المسؤولون فى وزارة الدفاع الأميركية الجزم بما حدث للمبلغ، ويعتقد مراقبو الحسابات الفيدراليون أن بعض أو كل هذا المبلغ كان قد سُرق، وأن الأمر لم يكن خطأ حسابياً. وقال ستيوارت بوين، المفتش العام الخاص لإعادة إعمار العراق – وهو مكتب أنشأه الكونغرس - إن مبلغ ال6.6 مليار دولار المفقود يعد «أكبر سرقة أموال في تاريخ أميركا الوطني». مهمة كروز كانت شائكة، مثلما هي على الاغلب مهمة رئيسها، بوين، أكانت تحقيقاتهما في بغداد ام في واشنطن، ذلك ان شبكة الفساد العراقية والاميركية متضامنة وقوية وتتصل بمن هم في دوائر السلطة، وما ستصل اليه هو حقائق مفزعة تتكون ضمن تقرير جديد تضاف الى تقارير مفزعة اخرى (خذ مثلاً تقريره الموسع والمثير: «دروس قاسية... تجربة اعادة الإعمار في العراق» الذي جاء بنحو 500 صفحة ووزع على نطاق واسع ككتاب يكشف قصة الفساد في العراق) كان السيد بوين قدمها من دون ان يهتز لها فاسد عراقي او اميركي. وكان تقريران حكوميان أميركيان، احدهما للمفتش العام لإعادة إعمار العراق (بوين)، كشفا اواخر العام الماضي، عن ان هناك عدداً من الأشخاص المتهمين والمدانين من الولاياتالمتحدة بتهمة ارتكاب الرشوة والسرقة وغيرهما من الجرائم المتعلقة بإعادة الإعمار في العراق وأفغانستان. غسيل الأموال وقال جون نوفاك، مساعد المفتش العام للتحقيقات ان «عدداً كبيراً من الناس وشوا بشركائهم»، موضحاً «أن هناك من ساعد في غسيل الأموال بعد سرقتها ويعتبر متواطئاً في الجرم، وآخرون كانوا على علم بذلك، أو هم متورطون في هذه الجرائم». وتشمل معظم الجرائم التي كشف عنها المحققون الأميركيون في العراق وأفغانستان الرشوة والابتزاز والسرقة، ويعزو تقرير، بعض تلك الجرائم إلى «موروث عميق وواسع للفساد في البلدين». هناك أيضاً عدد من موظفي الحكومة الأميركية، الذين تلقوا رشاوى من أجل توجيه عقود لمتواطئين محليين، ووفروا معلومات لأناس كانوا يتنافسون للحصول على عقود. كما تم شحن الأموال المسروقة من مشاريع إعادة الإعمار الى الولاياتالمتحدة من طريق الرسائل والستر العسكرية ذات الحشوة. ومرة عُثر على عشرات الآلاف من الدولارات في حشوة دمية على شكل بابا نويل. استرجع المدعون العامون بعض تلك الأموال. وقال مكتب ستيوارت بوين، المفتش العام الخاص بإعادة إعمار العراق، انه سيتم إرجاع أكثر من 83 مليون دولار، وسيصل مجموع ما استرد خلال السنوات السبع الماضية إلى ما يقرب من 155 مليون دولار. ولكن يعتقد بأن المبلغ المسترد لا يشكل سوى جزء صغير مما سُرق في العراق وأفغانستان، ومن المرجح أن رقم تلك السرقات لن يكون معروفاً على وجه الدقة. ويعتقد أن أموالاً أكثر بكثير من الأرقام المعلنة قد فقدت من خلال الهدر والخروق التي نجمت عن سوء تسيير إستراتيجية واشنطن في إعادة بناء الدول التي لا تزال في حالة حرب. وسبق للجنة أميركية مستقلة في شأن التعاقدات الحربية أن قدرت في آب (اغسطس) الماضي أن ما لا يقل عن 31 بليون دولار فقدت جراء الهدر والفساد في العراق وأفغانستان، مشيرة إلى أن إجمالي الهدر قد يصل إلى 60 مليار دولار. ولم تكتف اللجنة بتدقيق الأموال المخصصة لإعادة الإعمار. وكان بوين، وجّه انتقادات لاذعة الى وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين حول عقود تتصل بتدريب أجهزة الشرطة العراقية، مع شركة «داين غروب انترناشونال» المتعاقدة مع «البنتاغون» لتدريب الشرطة العراقية في إطار عقد قيمته 2.5 بليون دولار. وعلى نحو ما اوردته صحيفة «واشنطن بوست»، فإن «المفتش العام» وجّه انتقادات أخرى الى وزارة الخارجية «لفشلها المستمر في الإشراف في شكل سليم على العقد الذي تبلغ مدته خمسة أعوام». ونقلت الصحيفة عن التقرير الذى تقدم به المفتش لوزارة العدل الأميركية «أن أكثر من 2.5 مليار دولار من الأموال الأميركية عرضة للضياع والاحتيال»، مشيرة الى ان «التقرير تناول التمويل فقط ولم يتطرق إلى ما إذا كانت جهود التدريب ناجحة أم فاشلة». الخارجية الاميركية ردت على ما اورده تقرير بوين، بالقول إن «الاتهام لا اساس له». دراسات موثقة اربع مؤسسات اميركية كبرى شهدت في السنوات الماضية، دراسات موثقة عن الفساد في العراق، وهي: الكونغرس، وزارة الخارجية، دائرة المفتش العام ومكتب المحاسبة الاميركي. وتجمع وثائق تلك المؤسسات على ثلاثة مؤشرات: - الفساد في العراق منظم ومتنام. - الدور الاميركي ناشط في المراقبة لكنه ضعيف في الحد من الفساد. اتجاهان في اميركا حول تسمية الفساد في العراق وطرق الحد منه، وعلى رغم اتفاق الادارة والكونغرس على ان الفساد الرسمي في العراق «حقيقي ومتوطن وخبيث»، ويشكل تحدياً كبيراً لبناء دولة عراقية ديموقراطية فاعلة، الا انهما يختلفان في طريقة التعامل مع القضية، فالادارة وفق الكونغرس تعمل على «إخفاء حجم المشكلة». وحول هذه القضية كان المفتش العام لعملية إعمار العراق ستيوارت بوين اعرب عن قلقه ازاء قدرة حكومة العراق على محاربة آفة الفساد الإداري. وقال ان «رئيس الوزراء العراقي منع لجنة النزاهة العامة من مقاضاة وزراء حاليين او سابقين وأن قانون الجنايات العراقي يجيز للوزراء إعفاء أي موظف من المقاضاة». فيما كانت وثائق للكونغرس حولت الى وزارة الخارجية (تحت ادارة بوش) مذيلة بأسئلة الى الوزيرة كوندوليزا رايس، تطالب ب «اجوبة صادقة» عن عمليات الفساد في العراق والتي يرى فيها المشرعون «وسيلة لإنضاج التمرد وتعريض القوات الاميركية فى العراق الى الخطر». المشرعون طلبوا ايضاً من وزارة الخارجية ما لديها من وثائق حول «فساد الحكومة العراقية» لعرضها في جلسة نقاش مع مسؤولين في الخارجية، وهو ما رفضته الوزيرة رايس متذرعة بأن «الوثائق سرية ولا يمكن عرضها للنقاش العام»، فيما تولى نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى لورانس بتلر رفض اتهام الحكومة العراقية بالفساد، مؤكداً امام لجنة خاصة للكونغرس ان «المالكي يعمل جاهداً على تحسين عمل حكومته في مجال الحد من حالة الفساد». وإذا كان هذا السجال بين الادارة والكونغرس، لم يقدم ممراً واضحاً يمكن من خلاله كشف فصول الفساد في العراق، يوم كان البيت الابيض معنياً بالعراق، فكيف يبدو الامر الآن، لا سيما مع اصرار ادارة الرئيس اوباما على طي صفحة العراق تماماً؟ بوين اليوم في بغداد وقبله بشهور كانت هناك نائبته جنجر كروز، بكثير من النيات الصادقة، وكثير من التحقيقات الجدية، لكن مع القليل القليل من الإجراءات الرادعة بحق المتورطين وهم كثر في رحلة فساد تبدأ من بغداد وتنتهي في واشنطن.