أصدرت حكومة كيبيك عام 2007 مرسوماً يقضي بزيادة الأقساط الجامعية بمعدّل 500 دولار على مدى خمس سنوات، ما رفع الفاتورة التي سيتكبّدها الطالب خلال السنة الجامعية إلى 2168 دولار. وكسرت هذه الزيادة الاستقرار الذي ساد الأقساط على مدى 16 سنة. كشفت حكومة مقاطعة كيبيك في الخطاب الذي ألقته حول الميزانية عام 2010 عن هدفها القاضي بإحقاق توازن في الميزانية لعامي 2013-2014 من خلال إرساء سلسلة من الإصلاحات. وتقوم هذه الإصلاحات بشكل رئيس على إضافة مساهمة جديدة من أجل تمويل شبكة الصحة إلى جانب رفع الضريبة على المبيعات في كيبيك بنسبة 1 في المئة منذ كانون الثاني (يناير) 2012 (ضريبة المقاطعة على القيمة المضافة) ورفع الضريبة تدريجياً على المحروقات فضلاً عن قيام الشركة العامة «هيدرو-كيبيك» برفع رسوم الكهرباء بنسبة 3.7 في المئة ورفع الأقساط الجامعية بنسبة لم تحدّد. استدعت هذه الإصلاحات الاقتصادية تحرّك الرابطات الطلابية والمجموعات الاجتماعية والنقابات التي اعتبرتها غير اجتماعية. في شتاء عام 2011، تمّ الإعلان عن معدّل الزيادة على الأقساط الجامعية من دون استشارة الرابطات الطلابية علماً أنها تبلغ 1625 دولار على مدى 5 سنوات، ما يشكّل زيادة بنسبة 75 في المئة بحلول عام 2017. ومنذ ذلك الحين، دخلت الحركة الطلابية في مرحلة غليان لا تزال مستمرة لغاية اليوم. فتترجمت التظاهرات التي نُظّمت والعرائض التي قُدّمت والاعتصامات التي نُفذّت في مكاتب رئاسة الجامعات والنقاشات والدعوات إلى الإضراب التي أُطلقت، بمقاطعة الدروس. وتوسّع نطاق هذه الحركة أكثر فأكثر، إذ تظاهر 30 ألف طالب احتجاجاً على زيادة الأقساط الجامعية في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) في مونتريال فيما أضرب نصف الطلاب في كيبيك. لم تتحرّك الحكومة في وجه هذا الحشد الذي بلغ ذروته في 22 آذار (مارس) 2012 حين تظاهر حوالى 200 ألف طالب في شوارع مونتريال فيما كان 300 ألف طالب ينفّذ إضراباً. والتي تعدٌ الأكبر في تاريخ كيبيك. استفادت أحزاب سياسية عدّة ومنظمات نقابية كبيرة من هذا اليوم الوطني للتظاهر من أجل تكرار معارضتها لرفع الأقساط الجامعية ومن أجل حضّ حكومة "شارست" على فتح حوار مع الطلاب. غير أنّ هذا الأخير بقي متمسكاً بموقفه فأعلن أنّه لا يمكن تفادي رفع الأقساط الجامعية فيما اكتفت وزيرة التربية بتذكير الطلاب بالعواقب المترتبة عن الإضراب الذي ينفذونه معتبرة أنه «ينبغي على الطلاب أن يدركوا أنّ هذه الاضطرابات التي يثيرونها ستؤثّر سلباً على حياتهم. فقد يضرّ الطلاب الذي يقاطعون الدروس بحياتهم الخاصة وقد نضطر إلى تمديد الفصل واستكمال الدروس التي قد تُعطى في المساء أيضاً». تجسّد هذه التصريحات رفض الحكومة الجلوس على طاولة المفاوضات مع الرابطات الطلابية التي تطالب بتجميد الأقساط الجامعية. ونشهد منذ ذلك الحين شدّ حبال بين الحكومة والطلاب. من جهة، تمارس الحكومة الضغوطات حتى تُستكمل الدروس من خلال المراهنة على ملل الحركة الطلابية التي تمّ استدعاؤها عدة مرات للمثول أمام المحكمة بسبب الإضراب الذي تنفذّه فيما يضاعف الطلاب من جهة أخرى التحرّكات التي باتت أكثر جذرية و أكثر حدة. لقد ساهمت إطالة الوضع والنقاشات في تحويل ما كان في البداية مجرّد حركة نشأت جرّاء رفع الأقساط الجامعية إلى حراك أوسع على مستوى المجتمع. وإلى جانب الحشد وحالة الغليان الفكري في الأحرام الجامعية، تتمّ مساءلة نموذج دولة الرفاه الاجتماعي في كيبيك والمكتسبات الاجتماعية التي أنتجتها الثورة الهادئة في الستينات. كما لم تعد الزيادة بحدّ ذاتها محطّ النقاش بل أسئلة أكثر عقائدية. هل يتمّ اكتساب المعرفة بناءً على مبادرة شخصية أم أنها تعدّ خيراً عامّاً؟ هل يعتبر التعليم العالي حقّاً أم استثماراً خاصاً؟ ما هي العواقب المترتبة عن الزيادة لجهة تمكّن الطبقتين المتوسطة والفقيرة من الوصول إلى التعليم؟ هل يهدف التعليم إلى تكوين أدوات المجتمع وموظفين ومهندسين لخدمة نظام لا تتمّ إعادة النظر فيه أم إلى تكوين أفراد قادرين على إلقاء نظرة انتقادية على المجتمع الذي يتطوّرون فيه؟ هذه هي الأسئلة التي تُطرح في الأوساط الطلابية وعلى رغم فرض طابع قضائي على الأزمة وإطالتها، لا تزال نواة الحركة قائمة ومحتشدة وتحظى بدعم الأساتذة. وتنفّذ اليوم 183 رابطة طالبية تضمّ نحو 170 ألف طالب إضراباً فيما يصل الفصل الدراسي إلى نهايته ويوشك على أن يبقى معلقاً، الأمر الذي قد يسبّب فوضى بيروقراطية فعلية. وبعد أكثر من 10 أسابيع من الإضرابات الطلابية ومن إمكان تعليق الفصل الدراسي الشتوي، بدأت الحكومة تقدّم اقتراحات خجولة وتعقد اجتماعات غير رسمية مع بعض الاتحادات الطلابية. يكمن خطؤها في أنها لم تدرك أنّ ما يحشد الحركة الطلابية لا يقتصر على مبلغ 1625 دولار الذي يتوجّب عليهم دفعه بل بوجود نضال اجتماعي محقّ نابع من النقاشات. على رغم أنّ الطلاب يقرّون بالحاجة إلى تمويل الجامعات، فهم يرفضون الظلم الاجتماعي الذي تنطوي عليه الزيادة المعلن عنها. فاقترحوا في هذا الإطار سبلاً بديلة لتمويل الجامعات مثل إدارة الإدارات الجامعية بشكل أفضل لا سيّما أنها تعرّضت لفضائح عقارية أو إصلاح النظام الضريبي أو إعادة إرساء الضريبة على رأس المال التي ألغتها الحكومة الليبرالية في شهر كانون الثاني 2011. تغذّي هذه القناعة بالذات عزيمة الحركة الطلابية في كيبيك. فكتب بلزاك ذات يوم أنّ «القناعة هي الإرادة البشرية التي بلغت أقصى قوتها». إلا أنّ الإرادة لا تقوم على الاختيار بين الإمكانيات المتاحة بل تفتح إمكانيات جديدة في قلب العالم الحقيقي. لقد اختار الطلاب أن يتوجهوا نحو هذه الإمكانيات الجديدة بدلاً من اعتماد علاج التقشف الذي أعلنت عنه الحكومة بهدف الحفاظ على ما يعتبرونه المكتسبات الاجتماعية الناتجة عن الثورة «الهادئة» في الستينات، في حين تظهر الحكومة انها في صدد اعادة عقارب الساعة الى الوراء و الاطاحة بتلك المكتسبات. و هو سلوك قد ينتج عنه تداعيات كبيرة، خصوصاً ان ما بدأ بحركة احتجاج طلابية قد يتحول الى حركة سياسية تعيد طرح الأسس التي يقوم عليها النظام الكيبيكي. فالمتظاهرون يتحدثون عن الربيع الكيبيكي، على غرار مختلف الحركات التي غيّرت العالم العربي.