جعل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون (زعيم حزب المحافظين) فكرة إنشاء مجتمع كبير و «وضع السلطة بيد الشعب» من خلال تقليص دور الحكومة المركزية، جزءاً أساسياً من رؤياه السياسية. إلا أنّ بريطانيين آخرين ينظرون الى مفهوم «سلطة الشعب» بطريقة مغايرة، فهم يعتبرون أنها تمثّل حشد المعارضة الشعبية ضد برنامج الحكومة الائتلافية القائم على إجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق العام. تشكلت الحكومة الائتلافية التي تضم حزب المحافظين والحزب الديموقراطي الليبرالي بعد الانتخابات العامة في 6 أيار (مايو) الماضي التي لم تعط أي حزب أكثرية مطلقة. وتعكس التظاهرات الأخيرة الواسعة النطاق التي شارك فيها محاضرون وطلاب جامعيون وتلامذة في لندن وفي مدن أخرى والتي أدت في بعض الأحيان إلى أعمال عنف وأسفرت عن وقوع جرحى وأضرار في الممتلكات ومجموعة اعتقالات، معارضة شديدة لمخطط الحكومة القاضي برفع الأقساط الجامعية. كما تمّ تنظيم اعتصامات وتمّ اقتحام بعض الجامعات. وحذّر مدير شرطة العاصمة وقائد شرطة سكوتلانديارد السير بول ستفنسون من إمكان حصول اضطرابات في شوارع لندن في وقت دخلت فيه بريطانيا «حقبة جديدة» من الاحتجاجات وأعمال الشغب. وسيصوّت مجلس العموم غداً الخميس على خطط الحكومة لرفع الأقساط الجامعية ثلاثة أضعاف تقريباً لتصل إلى 9 آلاف جنيه إسترليني، مع العلم أنها تبلغ حالياً 3290 جنيهاً إسترلينياً. كما خفّض وزير المال جورج أوزبورن موازنة التعليم العالي بنسبة 40 في المئة. لكن الزيادات الكبيرة هذه لن تنطبق إلا على طلاب إنكلترا، فطلاب إسكتلندا الذين يدرسون في جامعات إسكتلندا لا يدفعون أي أقساط، وفقاً لسياسة أقرّها برلمان إسكتلندا. وقرر برلمان ويلز قبل أيام أن طلاب ويلز لن يحملوا أي زيادة في الأقساط، تُضاف إلى المستوى الحالي البالغ 3290 جنيهاً إسترلينياً، سواء درسوا في جامعات ويلز أو في إنكلترا. ويحتج طلاب الجامعات وتلامذة المدارس، ليس فقط على هذه الزيادة في الأقساط، بل كذلك على قرار الحكومة القاضي بإلغاء الإعانة التعليمية التي تحصل بموجبها العائلات الفقيرة التي تضمّ أبناء تتراوح أعمارهم بين 16 و19 سنة ولا يزالون في المدرسة أو يتابعون دراستهم على 30 جنيهاً إسترلينياً في الأسبوع. وتعتبر التظاهرات وأعمال الشغب الأخيرة الأوسع التي ينظمها طلاب في بريطانيا منذ سنوات، وأشار حزب المحافظين إلى بروز أصداء غير مريحة تذكّر بالاحتجاجات على استطلاع للرأي في شأن الضرائب الذي مهّد الطريق أمام إطاحة رئيسة الوزراء في حينه التي تنتمي إلى حزب المحافظين مارغريت ثاتشر. ويخطط الطلاب ليوم وطني رابع من العمل والتظاهر اليوم الأربعاء، قبل يوم من تصويت مجلس العموم على زيادة الأقساط، والضغط على النواب خلال يوم التصويت ذاته. وفيما بدأت مسألة التخفيضات التي تجريها الحكومة على الإنفاق تتفاقم، وفيما يواجه مئات الآلاف من الأشخاص في القطاعين العام والخاص خطر خسارة وظائفهم، تخطط الحكومة لتقليص العجز السنوي بنسبة 81 بليون جنيه إسترليني بحلول عام 2014-2015 بما في ذلك تخفيض مستحقات الرفاهية بنسبة 8 في المئة أو 18 بليون جنيه إسترليني في السنة. ويرى معارضو التخفيضات في الإنفاق أنها ستطاول الشريحة الأكثر تأثراً والفقراء والمسنّين والمعوقين والأطفال. كما ازداد غضب الشعب بسبب إفلات عدد كبير من أصحاب المصارف المسؤولين في شكل أساسي عن الأزمة المالية من العقاب، مع العلم أنهم لا يزالون يحصلون على علاوات هائلة. وبرزت منظمة جديدة تدعى «ائتلاف مقاومة التخفيضات والخصخصة»، وهي تضمّ العاملين في الاتحادات العامة ونواباً ومجموعات طلابية وممثلين عن المتقاعدين ومنظمات دعائية وفنانين (مثل المخرج السينمائي كين لوتش). كما تسجّل 1300 مندوب لحضور المؤتمر الذي عقدته المنظمة في لندن في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. أما رئيسها المنتخب فهو السياسي البارز الذي ينتمي إلى حزب العمّال توني بن. ويهدف الائتلاف إلى النضال ضد الهجمات التي تشنّها الحكومة على دولة الرفاهية و «لبناء حركة على صعيد الوطن بغية وضع حدّ لمخططات الحكومة التي تسيء إلى الخدمات العامة». ومن بين المتكلمين في هذا المؤتمر لين ماكلوسكي، الأمين العام الجديد المنتخب لأكبر اتحاد للعمّال في بريطانيا «يونايت»، إذ أعلن: «يجب أن نبني شكلاً من أشكال المقاومة وأن نتحرك حتى نجبر السياسيين، لا سيما التابعين للحزب الديموقراطي الليبرالي، على الإقرار بخطئهم». وبالإشارة إلى التظاهرات التي نُظّمت للاحتجاج على استطلاع للرأي بشن الضرائب والتي أطاحت مارغريت ثاتشر، أضاف: «قد ينتج من وضع السلطة بيد الشعب الكثير. فقد أسقطت سلطة الشعب جدار برلين. ويترتب علينا أن نوجّه هذه السلطة وهذا الغضب». ويكثر الغموض حول اتجاه التصويت لدى الديموقراطيين الليبراليين على زيادة الأقساط غداً الخميس، ويمكن أن يمتنع النواب ال 57 عن التصويت. وقد يواجه الائتلاف الحكومي العصيان الأول من النواب الديموقراطيين الليبراليين، كما أشار البعض، بمن فيهم زعيمان سابقان للحزب هما منزي كامبل وشارلز كينيدي وزعيم الحزب الجديد المنتخب النائب تيم فارون، إلى أنهم سيصوّتون ضد قرار زيادة الأقساط الجامعية. ومن غير الواضح كيف سيصوّت وزراء الحزب الديموقراطي الليبرالي وزعيمه نائب رئيس الوزراء نيك كليغ. وقد لفتت بعض التقارير إلى أن الوزراء قد يمتنعون عن التصويت، وهو حق لهم بموجب الاتفاق الذي رعى تشكيل الحكومة الائتلافية. ويبدو وزير الدولة للتعليم العالي والعلوم الذي ينتمي إلى حزب المحافظين ديفيد ويليتس على ثقة بأن وزير الدولة لشؤون الأعمال والابتكار والمهارات الذي ينتمي إلى الحزب الديموقراطي الليبرالي فينس كيبل سيصوّت مع هذه السياسة. لكن كيبل نفسه قال إنه قد يمتنع عن التصويت على الخطة التي وضعها هو. يشعر الطلاب بغضب شديد لأنهم اعتبروا أنهم تعرضوا للخيانة على يد الحزب الديموقراطي الليبرالي. كان هذا الحزب يحظى بدعم كبير من الطلاب في السنوات الأخيرة الماضية، ويعزى السبب إلى أنه الوحيد من بين الأحزاب الثلاثة الأساسية الذي لم يصوّت مع قرار اجتياح العراق عام 2003. حتى أن الحزب وصف نفسه بأنه حزب الطلاب، كما تعهد في بيانه الانتخابي عدم رفع الأقساط الجامعية، حتى أنّ نيك كليغ أعلن خلال مؤتمر لاتحاد الطلاب الوطني في نيسان (أبريل) الماضي أنّ الحزب يخطط لإلغاء رفع الأقساط الجامعية على مرّ السنوات الست المقبلة. وأشار كتاب جديد من تأليف النائب عن حزب المحافظين روب ويلسون حول تشكيل الحكومة الائتلافية إلى أن القيادة في الحزب الديموقراطي الليبرالي وافقت قبل شهرين من الانتخابات العامة على إلغاء تعهده عدم رفع الأقساط الجامعية في حال نشوء برلمان معلق لا يحظى فيه أي حزب بأكثرية مطلقة، حيث يجب عليه التفاوض مع أحد الحزبين الآخرين الأساسيين حول تشكيل حكومة. وقبل الانتخابات، وقّع معظم نواب الحزب الديموقراطي الليبرالي على تعهد لاتحاد الطلاب الوطني ب «التصويت ضد أي زيادة في الأقساط الجامعية في البرلمان المقبل». وأقر كليغ أخيراً أنه ندم على التوقيع على التعهد معتبراً أنه كان حرياً به التروي قبل أن يوقع، كما دافع عن السياسة التي تعتمدها الحكومة حيال الأقساط الجامعية معتبراً أنها عادلة وتقدّمية. ويبدو أنّ حزب كليغ بات يتمتع بشعبية أقل من تلك التي كان يتمتع بها خلال فترة إجراء الانتخابات العامة حين حاز على 23 في المئة من الأصوات. وأشار استطلاع للرأي أجرته منظمة «يو غوف» في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) إلى هبوط هائل في نسبة دعم الحزب بلغ 9 في المئة، مع العلم أنّ بعض المراقبين يرون أن مستقبل الحزب في خطر. كانت الحكومة تحاول قدر الإمكان تخفيف حدة المخاوف المرتبطة بزيادة الأقساط الجامعية التي قيل إنه سيتم رفعها إلى 6 آلاف جنيه إسترليني في مرحلة أولى على أن يتم رفعها إلى 9 آلاف جنيه إسترليني في ظروف استثنائية. وفي هذه الحالة، ينبغي على الجامعات التي تفرض تسديد هذا القسط المرتفع أن تبرهن أنها تبذل جهداً للسماح لأبناء العائلات الفقيرة بالدخول إليها. ويمكن ألا يدفع الطلاب أقساطهم خلال فترة دراستهم في الجامعة بل يمكن أن يسددوها بعد أن يتخرجوا ويبدأوا بتقاضي راتب سنوي يصل إلى 21 ألف جنيه إسترليني. وأشارت الحكومة إلى أن هذا الوضع أفضل من النظام الحالي بالنسبة إلى الطلاب، حيث يتوجب عليهم البدء بدفع قروضهم حين يتقاضون راتب 15 ألف جنيه إسترليني سنوياً. ويسدد الطلاب الذين يتقاضون أجراً أكبر نسب فوائد أعلى، علماً أن أي طالب لا يسدد قيمة القروض بعد 30 سنة سيعفى منها. وأشارت التقديرات إلى أن الطلاب يواجهون نسب ديون مرتفعة في المستقبل. ولفتت صحيفة «ديلي ميل» إلى أنّ ديون الطالب الذي يدفع قسط 9 آلاف جنيه إسترليني في السنة قد تصل إلى 54 ألف جنيه إسترليني مع رفع الأقساط الجامعية، إلى جانب نفقات السكن ونفقات المعيشة الأخرى. ويواجه حزب العمال بدوره وضعاً صعباً بسبب رفع الأقساط الجامعية، لأن حكومات حزب العمال السابقة هي من فرض الزيادة على الأقساط الجامعية أولاً ومن ثم رفعتها من 1175 جنيهاً إسترلينياً إلى 3 آلاف جنيه إسترليني. وكان حزب العمال كلّف المدير التنفيذي في شركة «بي بي» لورد براون إجراء دراسة حول مستقبل تمويل التعليم الجامعي التي تقوم عليها السياسة الجديدة جزئياً. وقال زعيم حزب العمال إيد ميليباند في مقابلة مع محطة إذاعية بعد التظاهرة الطلابية الثانية في لندن إنه تمت «استمالته» للمشاركة في التظاهرة والمثول أمام المتظاهرين والتوجه إليهم بكلمة، إلا أنه أضاف: «أظن أنني كنت أقوم بشيء آخر حينها». وبرز الانقسام في صفوف قيادة حزب العمال حول دعم فكرة فرض ضريبة تدريجية، مع العلم أنّ وزير المال حينها ألان جونسون عارض فرض ضريبة مماثلة. وقد تغلّب دعم ميليباند من أجل فرض ضريبة تدريجية، غير أنّ الحكومة لفتت إلى أن فرض ضريبة تدريجية قد يجعل المتخرجين يدفعون على مرّ فترة زمنية مماثلة المبلغ نفسه الذي سيسددونه بموجب اقتراحات الحكومة». * صحافية بريطانية