أن تواجه حكومة عبد الإله بن كيران المغربية معارضة خصومها السياسيين، فالقضية لا تزيد على تحصيل حاصل. ذلك أن اللعبة الديموقراطية لا تكتمل من دون وجود معارضة تراقب الجهاز التنفيذي وتتصيد فرص إطاحته ديموقراطياً. لكن أن تنبعث أصوات معارضة من داخل الائتلاف الحكومي ومن جهات غير محددة الملامح، فإن ذلك يفيد بمعاودة إنتاج المخاوف التي كادت تتحول إلى برنامج سياسي في الصراع الدائر. وإذ يقر المفكر المغربي عبدالله العروي بما عرف عنه من رزانة في التحليل واستيعاب الحقائق التاريخية أنه لا يرى أثراً لمسحة إسلامية في تجربة الحكومة الحالية، فإن ذلك يقلل كثيراً من حدة المخاوف، بخاصة أنه يعاود التأكيد أن حكومة الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي لعام 1998 كانت تأسرها نزعة الائتلاف الوفاقي لحيازة الغالبية. الأمر نفسه سينسحب إلى حد كبير على الحكومة الحالية التي خرجت من رحم اقتراع تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. المثير في التجربة ليس انفراد «العدالة والتنمية» بصدارة الواجهة. فقد حدث الشيء نفسه مع الاتحاد الاشتراكي في وقت سابق، من غير الإطناب في المخاوف. وربما أن الفارق بين التجربتين أن حكومة بن كيران تستند إلى مرجعية دستورية أكثر تحرراً، فيما حكومة اليوسفي سعت إلى تغيير أكبر من قدراتها الدستورية والإجرائية واستسلمت لوفاق بلا أفق. تكرار سيناريوات متقاربة في زمن مغاير، يكشف إلى أي حد لم يتخلص العقل السياسي المغربي من هواجسه، وأقربها أن مناهضي التغيير لم ينسحبوا من الساحة. بل إنهم يتدثرون في كل مرة بعباءات وأقنعة تنشر ثقافة الاستسلام والردة. وإذا كانت خطة التناوب استنفدت أغراضها، من دون أن تحقق أهدافها، فلأن مصادر متاعبها كانت تأتي أيضاً من داخل التجربة ومن محيطها. وقتها تردد كثيراً أن الحكومة تدار بأكثر من رأس، وأن تيار المحافظين من الأركان الأمنية الخفية بقيادة وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري يضع العصي في عجلات التقدم. فيما أن جمع شتات غالبية حكومة من أصناف متباينة الولاءات والانتسابات حتّم نوعاً من التعايش، على حساب الانجازات. وكانت النتيجة أن اليوسفي ضجر من حزبه ومن التزاماته ولاذ نحو الاعتزال. في تجربة المئة يوم من عمر حكومة بن كيران، ارتفعت نبرات الضجر. ذهب وزراء إلى التلويح بالاستقالة، وتشابك آخرون داخل مربع تنازع الاختصاصات. وتحول الشارع بدوره إلى ميدان صراع، على خلفية تراجع الوعود وتناسل الاحتجاجات. فيما تفرقت الرؤى إزاء أفضل السبل لتأمين مسار إصلاحي من دون أعطاب. هل كان الأمر متوقعاً؟ أم أن وتيرة السرعة التي انطلقت بها الحكومة من أول محطة كانت أكبر من الاستيعاب. حتى الآن لا شيء يوحي أن الحكومة خرقت قواعد الانضباط إزاء المهام المنوطة بها. قد تكون غالت في التلويح بفتح ملفات الفساد وتمكن وزراؤها ذوو الانتماء الإسلامي من السيطرة على المشهد الحكومي في مقابل تردد شركائهم في الائتلاف. وقد تكون استخدمت سلاح التصريحات أكثر من جرأة القرارات. لكن ذلك لا يعني أنها أبلغت رسالتها وكفى. ففي السياسة لا معنى للنوايا التي لا يرافقها العمل. كما أن الحكومة مطوقة بأمانة الثقة التي حازتها عبر صناديق الاقتراع، فإن شركاء «العدالة والتنمية» الذين اختاروا دعم التجربة ليسوا في حل من أنهم سيتقاسمون ثمار النجاح أو مرارة الفشل. لكن المشكلة لا تنبع من تداعيات وفاق الإكراه الذي جعل الحزب الإسلامي يقبل أن يشاركه بعض خصومه السابقين في تجربة الحكم. وبالقدر الذي اعتبر هذا التطور مؤشر انفتاح يكاد يلغي ما سبقه من أحكام ومواقف، ظل الانفتاح محدوداً لا يتجاوز الإطار العام. لكنه في الوقت ذاته يغاير متطلباته عند اندلاع أقرب أزمة أو خلاف. لم يتغير شيء كثير في المعادلات السياسية في البلاد. فالحكومة التي كان يفترض أن تقر القطيعة مع التردد وأنواع الصعوبات التي تعتري المسافة الفاصلة بين الرغبة والقدرة لا تزال تتصرف وكأنها حزب معارض. والمعارضة لم تغير من أسلوبها في التعاطي والإشكاليات المطروحة. ثمن رهان قادم، يبدو أنه يؤثر بقوة في مسار التجربة، فالبلاد على موعد مع انتخابات البلديات والجهات والغرفة الثانية في البرلمان. وبالتالي يصح الاعتقاد بأن المنافسات الانتخابية لا تزال تلقي بظلالها على المواقف في انتظار أن يتعلم الجميع أن التطبيع مع الهاجس الانتخابي يكمن في استحضاره في الأفعال وليس التمنيات. ولعل أبرز مشاكل الحكومة الحالية أنها واقعة في شكل أو آخر في دائرة ضوء الميول الانتخابية.