أثار مهرجان «آت» الثالث، بعروضه المسرحية وورش عمله وبرامجه الفنية، أسئلة تتعلق بتواري النمط التقليدي للمهرجانات الرسمية والخاصة وتراجعه، لمصلحة ظهور صيغ جديدة في الحراك المسرحي. وطرح المهرجان، الذي أقيم على مسرح البلد في عمّان، سؤال الجندر وعلاقته بالهوية الجنسية. وتناولت العروض مفاهيم الانتماء والوطن والأمة والنسوية، فضلاً عن تسليط الضوء على البنى المسرحية، التي جاءت في هذا المهرجان مفككة، كنتاجٍ لورش أقيمت خلاله، بمعنى أنه لم يكن هناك نص مسرحي بالمعنى الكلاسيكي أو الحديث، وإنما قُدِّمت لوحات ومشاهد واسكتشات غير متسلسلة برابط سببي وزمني، حتى إن كتيّب المهرجان عرّف النشاطات بأنها «عروض قيد الإنشاء». يأتي في هذا السياق ما تناوله عرض «في (male)» لعلاء السمان وشيماء شكري من مصر، والذي نهض بتشكيل مشاهده ولوحاته أداءٌ جسدي راقص بارع لكليهما، لجهة إخراج الفعل الداخلي وإيقاعية الحركة الخارجية لأطراف الجسد، في سياق نسج حكاية عاطفية، فيما كان الحوار غير واضح تماماً من حيث مخارج الحروف، وهذا ما أشار إليه كثير من المشاهدين أثناء العرض. أما عرض «حلزونة» لشيماء شكري، فقد رصد حالات نفسية واجتماعية عشية التحولات الكبرى في مصر، والتي بدأت إرهاصاتها في ميدان التحرير. واتكأت الرؤية في العرض على ربط الصياغة الفنية بالفضاء الزمني للأحداث. وتعمّقَ ذلك بصرياً بالتسارع المتزايد لمؤشر الساعة في خلفية المسرح، انسجاماً مع تطور الأحداث الذي جسّدته مشاهد فيديو للحراك الشعبي المصري، بلغة تعبيرية راقصة «حلزونياً»، ظهرت من خلالها الهوية السينوغرافية للمدينة. «تحولات» هو العرض الثالث قيد الإنشاء، من أداء نسرين نجار (فلسطين)، وإخراج السوري فادي سكيكر، وكان نتاجاً لورشة عمل مكثفة خلال أيام المهرجان، حاول فيها طاقم العمل طرح معادل أدائي لقضايا متعددة، مثل: الانتماء للوطن-الأمة، النسوية والتغيير. اتكأ العمل على تقنيات «مسرح الفعل» لتطوير دلالات المعنى، من خلال التقاط المخرج لأداء النجار العفوي في سرد حكاياتها الشخصية في الناصرة والعيساوية ورام الله، وقيامه بعد ذلك بتطويره في سياق رمزي، وتحقيقه بدفع الممثلة في حركة دائرية، لتوفير التخزين للطاقة الداخلية قبل أن تفجرها دلالات متسارعة في طرح المعنى الذي انطوى عليه الحوار. وقدم المجلس الثقافي البريطاني في عمّان، فرقة «آيدل موشن» التي نهضت بورشة عمل بعنوان «طرق الابتكار»، إذ تناوب ثلاثة من أعضائها على تقديمها باستخدام التمارين والتقنيات ذاتها التي استُخدمت لابتكار مسرحية «الأفق المتلاشي» التي شاركت في المهرجان، والتي تتضمن الدمى والتجسيد، خصوصاً إعطاء الكتل الثابتة دلالات تحويلية، إذْ إن الحقائب تحولت إلى خزائن، بينما ظلت كتلٌ كالطائرات تطرح المعنى الأيقوني لها نفسه. ورشة عمل من جهة أخرى، تضمن البرنامج المجتمعي «صوتي حكايتي» ورشة عمل أشرف عليها لانا ناصر وفادي سكيكر، بمساعدة بان المجالي ونبيل مرار، وتناولت «الإسلاموفوبيا» في ذهن العالم الغربي بعد مجريات الربيع العربي، ومعلومات عن حقوق الإنسان وقضايا المرأة. وشارك في الورشة شباب من مركز الرواد الخاص ومركز الأونروا تتراوح أعمارهم بين 17 و24 سنة، طُلب منهم البحث بأنفسهم في قضاياهم الحياتية، ومن ثم عرضها درامياً على المسرح. أما عرض «في خزانة في كل بيت»، الذي قدّم نتاجاً لورشة أشرفت عليها اللبنانية لينا أبيض، فقد جاء نَصُّه مُركّباً ليروي قصص شخوص تحاكي أحداثاً واقعية، لجهة المسكوت عنه اجتماعياً بشأن علاقة المرأة الشرقية بالرجل، والقوانين والضوابط الاجتماعية، كما لمّحت إلى تداعيات الربيع العربي، غير مترددةٍ في هجاء النظام العربي الرسمي والشعبي كليهما. وبدت الحوارات بمثابة الأداء الأساس في طرح تقنيات الممثلين، لجهة تكثيفها واختزالها في البناء الصوتي للعرض، كي يتواصل معه المتلقي وفق تجربته المعاشة. ونجحت الرؤية الإخراجية في توظيف حكايات الشخوص التي أشارت إلى معانٍ إنسانية وقيم وجودية، خصوصاً عند موت والدة الشخصية التي قدّمها رفيق ناصر الدين. واللافت في العرض، التوظيف الدرامي لجماليات السينوغرافيا، وتحديداً لكتلتَي الخزانة المتموضعة على يمين المسرح مجسّدةً فضاءات شتى، وفق سياق تطور الأحداث، وثوب زفاف العروس على يسار المسرح، الذي رافق تطور الأحداث في اشتماله على مكانس ودمى أطفال... وسوى ذلك من كُتَل وإكسسوارات رسخت علاماتُها المرأةَ العربية بوصفها ضحية، وفي كونها خادمة للزوج والأولاد والحماة. إحدى مشاهدات العرض التي اشترطت عدم نشر اسمها، خشية رد فعل زميلاتها «المسرحيات المثقفات»، قالت ل «الحياة»: «هذا العرض يعيد إلى الأذهان مسألة التعامل مع قضايا المرأة التي ما زالت تراوح مكانها، وبخاصة في المسرحية المدعومة من المراكز الأجنبية، عبر تصوير المرأة المحلية كأنها تعيش في العصر الحجري، من دون الأخذ في الحسبان القفزات الكبرى التي حققتها المرأة والنجاحات التي أحرزتها في الميادين المختلفة». وكان المهرجان قد افتُتح بمسرحية «الأفق المتلاشي» التي قدمتها فرقة «آيدل موشن» البريطانية، وتضمنت استعراضاً تأسس في الشكل على سرد القصص المتداخلة وفق أسلوب «الروي»، وانطوى على أساليب مبتكرة في التجسيد والسينوغرافيا القائمة على استخدام حقائب السفر، وتوظيفها درامياً في اللوحات والمشاهد، إضافة إلى استخدام الدمى والخرائط والطائرات الورقية التي تشابكت دلالاتها الإيحائية مع هذه القصص. والتقى الجمهور، في اختتام التظاهرة، لانا ناصر في عملها المونودرامي «حقيبة حمراء في غرفة المفقودات»، الذي نالت عن نصه جائزة «إتيل عدنان» للكاتبات المسرحيات العربيات العام 2011، وتتأسس الرؤية فيه، على تجسيد المرأة ضمن ثلاث رؤى: بوصفها أنثى أولاً، وعربية ثانياً، ومسلمة ثالثاً. وأُوّلت هذه الرؤى مسرحياً، لجهة فقه اللغة، وموقف المجتمع، ونظرة الغرب التي تقع عادةً في فخ التنميط. وعُرضت المسرحية بمزيج من العربية والإنكليزية والفرنسية. واللافت في تجربة الناصر كما يتبدّى في هذا العمل، هو ذلك البحث المتواصل في دواخل المرأة العربية، والسعي الدؤوب الى نبش مكنوناتها والكشف عن هواجسها.