اختار مسرح «دفا» الأردني الدمى ليطرحَ من خلالها أفكاراً ويبثّ رسائلَ في سياق التفاعل مع تداعيات «الربيع العربي». فقد شهد مسرح محمود أبو غريب في المركز الثقافي الملكي بعمّان أخيراً، عرضاً بعنوان «يحدث في مثل هذا اليوم»، نَصّ وإخراج حسام عابد. ومن المفترَض أن تستمر عروض المسرحية في ثلاثة عشر مخيماً وثلاث عشرة قرية، لتحقيق أهداف مسرح «دفا» للدمى في الوصول إلى المناطق الشعبية، ولردم الهوة بين الجمهور والمسرح، وفق تصريحات للقائمين على «دفا». الشخصيتان الرئيستان في المسرحية «عايش بلا هَمّ» و «مسرور أبو فرحان»، دميتان مستلهَمتان من شخصيتَي «كراكوز» و «عيواظ»، لكنهما مصمَّمتان بوجوه إنسانية معاصرة، لجهة تسريحة الشَّعر والأزياء، بعيداً عن النمط الشعبي المتعارف عليه. اندفعت الشخصيتان في أدائهما إلى الأمام، بإشراف أربعة من محرّكي الدمى هم أحمد سرور، وطارق السايس، ومحمد السعدي، وحسام عابد. ونسجَ أداءُ الشخصيتين حكايةً تدور أحداثها في «مقهى التعليلة» في الزمن الراهن، لكن المكان غير متعيّن، واكتُفي بأن تحتضنه إحدى المدن العربية، حيث يكون «مسرور أبو فرحان» صاحب المقهى، وفي سياق الأحداث، يجيء «عايش بلا هَمّ» ليعمل عنده أجيراً. وتناول أداءُ الدمى وخيالُ الظل رسائل اجتماعية طالت قيم الخير والشر في علاقات الناس في ما بينهم، والروابط الزوجية التي تتفسخ بسبب الفقر، إضافة إلى رسائل سياسية، كمعاينة ظاهرة الهجرة التي تجتاح جيل الشباب العربي بعيداً من أوطانهم، والتأشير على شيوع ثقافة الفئوية ونوازع التفرقة، وتعرية إغواءات السلطة، وإدانة وسائل الإعلام الطافحة بالإثارة على حساب المعلومة. طُرحت المشاهد واللوحات خارج تقنية الصندوق المستطيل الذي تتحرك الدمى فيه عادةً بواسطة الخيوط، فجاء الأداء على سطح طاولة مكشوفة، يحرّك كلَّ دمية ثلاثة شخوص، أحدهم يحرك رأسَها منكشفاً للجمهور، بينما يتوارى الاثنان الآخران عن الأنظار، في إفادةٍ واضحة من مسرح الدمى الياباني. الرؤية الإخراجية للعرض، الذي أشرف عليه استشارياً كلٌّ من خالد الطريفي ووائل قدورة وفادي سكيكر ومحمود حوراني وفاديا تنير وفيك لين، اتكأت في توصيل رسائله ومحمولاته على البناء السمعي، مؤسساً على الحوار الذي لم يَخْلُ من الفكاهة، حيث «الصابون السحري» في السياق الكوميدي الساخر، يتيح للمواطن غسل وجهه ليغدو صَبوحاً، فينجح بعدها مباشرة في الحصول على «فيزا» للهجرة لإحدى دول الغرب. كما تطرقت الحوارات لظاهرة تزوير الانتخابات في معظم البلدان العربية، وإشكالية مشاركة المرأة في الحياة العامة، وحكايا الشباب وأحلامهم في الهجرة هروباً من واقعهم. من جهة أخرى، سعت الرؤية الإخراجية إلى تعرية الأنظمة القائمة على الطائفية، من خلال سياقات مضامين الأغنية، مثل «أنا سنّي، ودرزي، بيوجعني، وعلوي»، وكتلك التي تحكم بالموت على المعارضين: (أنا من تحت التراب بحكي، قتلوني ما سألوني.. بس لأني بدّي التغيير)، أو تهجو سياسات إفقار الشرائح الشعبية: «الفقر يخلف فقر، واسمه فقر على اسم جده الأول فقر، ومن ثم للقبر، وليس لك إلا الصبر..»، أو ترصد تبخر أحلام الشباب بفعل السياسات التي تحاصرهم بالبطالة وتقيد حرياتهم: «هاجر إذا بدّك هاجر، إوعا تهاجر خلّيك هون..». واختار الألحانَ المرافقة لهذه الأغنيات: طارق الجندي، وأحمد بركات، وحسام عابد، والموسيقى لمعن السيد، وناصر سلامة، وأحمد بركات، ويعقوب أبو غوش، وآلاء تكروري، وعدي الشواقفة، وعبد دخان، ورولا البرغوثي. وفي البناء البصري، بدا المظهر الخارجي للدميتين اللتين صممتهما برجيت دورنز، يوحي بأنهما من لحم ودم، وقد أقنعتا المشاهدين، وبخاصة أداء أحمد سرور في حواراته التي وقّعها بصوته من خلف دمية «مسرور أبو فرحان»، من خلال حالة الإيهام التي ظلت قائمة في المسرحية. ومن جهة أخرى اتسمت المشاهد الجمالية لشخوص خيال الظل التي صممتها د. ميادة قشوع، بألوانها المتقلبة، تبعاً لمناخ كل مشهد، ما ساهم في التناغم وتعزيز مرامي الأداء لكلٍّ من الدميتين. المخرج حسام عابد قال ل «الحياة» إن الفكرة بدأت باستعادة «كراكوز» و «عيواظ» من الماضي ليرصدا ما يجري في العصر الحالي، و «جعلهما يندفعان إلى الأمام على المسرح، بفعل عناصر مفعمة بالصراع، تعالق أداؤهما بها». ورداً على ما ذهب إليه متفرجون من أن التطرق للعنصر النسائي في الحوار بشأن الانتخابات جاء مقحماً، أوضح عابد أن هناك تعمّداً بعدم وجود شخصية نسائية على المسرح، «لنؤكد أن هناك مجتمعاً ذكورياً له موقف من المرأة، ويتبدى ذلك في نسب مشاركتها الضئيلة في الترشيح للانتخابات». وبيّن المخرج أن تصميم شخصيتَي «كراكوز» و «عيواظ»، باختيار أزياء معاصرة لهما (قميص وبنطال) بدلاً من زيّهما الشعبي، جاء بهدف «التساوق مع البيئة الاجتماعية الراهنة، وليكونا أكثر تأثيراً وقرباً للمتلقي». وبحسب عابد، فإن (k.v.i.n.f.o)، وهي منظمة دنماركية غير حكومية، تولّت دعم هذا العمل بمبلغ «يغطي تكاليف المواصلات»، لذا فإن التعويل على بطاقات الدخول «لتغطية جزء من التكاليف التي تَطلّبها إنجاز هذه المسرحية». وعن طبيعة الدميتين المستخدمتين، أوضح السوري فادي سكيكر، أن فكرتهما مأخوذة من «البودلكو» الياباني، الذي يعتمد الأداء فيه على ثلاثة محركين لتحريك دمية واحدة. وتحدث سكيكر عن أهمية هذا العرض بقوله: «إنه يمثل رجوعاً للفعل الأدائي البديل من النصوص الأدبية المتعارف عليها، وقد اتسم العرض بالحيوية بفعل أن الدمى كانت تبني فعلاً مرافقاً للأغنية». ورغم إظهار المجتمع ناكراً للمرأة بالمفهومَين الاستشراقي والفرانكوفوني، خارج التوظيف الدرامي، ورغم هيمنة العامية في الحوارات وكلمات الأغاني، إلا أن العرض آتى أُكُلَه بقوة، عبر إيصاله ما يخيم على جيل الشباب من قلق وحيرة، وما يمور به من خيبات أمل، وما يصيبه من انكساراتٍ في ظل عجزه عن تحقيق أبسط طموحاته.