لعل أول ما يمكن أن يقال عن فيلم «عدو المسيح» للارس فون تراير هو أنه من الأفلام التي تثير أكبر قدر من سوء التفاهم لدى المتفرجين عند المشاهدة الأولى على الأقل. ذلك أن صاحبه وضع فيه من الالتباسات، في الموضوع كما في الأسلوب الفني وفي المرجعية الأسطورية، ما يفيض عن قدرة أي متفرج عن ادراك كل ما فيه منذ تلك المشاهدة. لا نعني بهذا أنه فيلم صعب، بل نعني ان ميزاته وأبعاده هي من التشابك والتداخل، والتسارع، بل أكثر من هذا: هي من المباغتة، بحيث ان المتلقي يرمي سلاح إدراكه في نهاية الأمر ويقرر أن يشاهد ما يدور أمامه في ظاهره، تاركاً ربط كل هذا الى مشاهدة أخرى. طبعاً قد يكون هذا الوصف مبالغاً بعض الشيء. لكنها تجربة عبّر عنها عدد من النقاد والمتفرجين الذين عادوا بعد صدمة المشاهدة الأولى السلبية، الى مشاهدة الفيلم مرة ثانية – خلال عرضه في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي – كي يلتقطوا جوهره. لكن هذا لا يعني أن الفيلم الذي عاد به لارس فون تراير، الى مسابقة «كان» بعد غياب أربع سنوات منذ عرض «ماندرلاي»، فيلم ذو موضوع معقد، بل على العكس. تعقيد «عدو المسيح» يكمن في التفاصيل وهنا يصدق، وفي شكل حرفي ذلك القول الذي يفيد بأن «الشيطان يكمن في التفاصيل». حكاية الفيلم بسيطة: رجل، يعمل محللاً ومطبباً نفسياً، وزوجته الشابة يفقدان ابنهما الطفل خلال المشهد الأول في الفيلم، حين يسقط من النافذة وهما يمارسان الحب – سنعتقد في البداية أن أياً منهما لم يتنبه الى صعوده الى النافذة وسقوطه، لكننا سندرك لاحقاً ان الوضع غير هذا، ما يجعل الموضوع كله ينبني من حول هذا الالتباس -. يمر الزوجان، ولا سيما الزوجة، بمرحلة ألم شديد. إذ تدخل الزوجة المستشفى غير واعية، ثم خلال فترة، تفيق بالتدريج وتعي ما حصل، فيتحول الألم الى حداد وحزن عميقين، وهذان سرعان ما يتحولان الى يأس ينتهي الفيلم اليه. وبين بداية الحداد والنهاية، يحدث أن الزوج يصطحب زوجته الغارقة في حزن – سندرك لاحقاً أنه نابع من الندم -، الى كوخ جبلي لهما يقع في غابة نائية ويطلقان عليه اسم «عدن» مثل جنة آدم وحواء. هناك في تلك الغابة، في ذلك الكوخ، يعيشان حدادهما الذي يحوله الزوج الى فترة نقاهة للزوجة يحاول خلالها أن يطببها سيكولوجياً، بينما تنقلب هي في شكل جذري: تتأرجح بين ندمها من ناحية (لأننا سنكتشف ذات لحظة مسؤوليتها عن مقتل الطفل. إذ انها في الحقيقة كانت شاهدته يعتلي النافذة، لكنها لم تتمكن من اللحاق به، إذ كانت في تلك اللحظة بالذات قد بلغت نشوتها، ولذا ستعتبر نفسها مسؤولة، وكذلك ستحمل المسؤولية، ضمنياً لزوجها)، وبين ما تتصوره من اكتشافها ان زوجها، أصلاً، لم يكن يحبها وأنه الآن يتعامل معها بصفتها حالة للمعالجة، من دون أية نظرة إنسانية أو تعاطف حنون. وهكذا، إذ تعي هذا كله، تقرر الانتقام من الزوج، ومن نفسها بالتالي، من كينونتهما معاً، من قدرتهما على ممارسة الجنس... وربما من وجوده نفسه أيضاً. وهذا الجانب هو الذي يشغل النصف الثاني من الفيلم، ما يجعل هذا الأخير يبدو فيلم رعب وصراع، مع انه في الحقيقة يتجاوز هذا بكثير. مراحل الألم يطغى على النصف الثاني من «عدو المسيح» بعد دموي، وصراع بين شخصين، وأجواء طبيعية قاتمة تذكر بأفلام الرعب الدموية. ومن المرجح أن لارس فون تراير قد ركز على هذا كله، الى درجة صار معها ثانوياً، ذلك الجانب الآخر، الخفي المرتبط بأساطير القرون الوسطى والبعد الديني والميتافيزيقي الذي يحفل به الفيلم. فنحن أعلاه تحدثنا عن المراحل الثلاث التي مرت بها الحكاية منذ مقتل الطفل حتى نهاية الفيلم: مرحلة الحداد، ثم مرحلة الألم فمرحلة اليأس. وآن الأوان هنا للتوقف بعض الشيء عند هذه المراحل، التي جعل لارس فون تراير كلاً منها فصلاً، من ثلاثة فصول حزينة الإيقاع اضافة الى المقدمة والخاتمة المستقلتين واللتين تدور كل منهما على ايقاع موسيقي مأخوذ من أحد أوراتوريات هاندل. أما الفصول الثلاثة، والتي وضعت لها عناوين قبل كل فصل، فقد قدمت متتالية، وكأنها ثلاثة فصول من مسرحية. واللافت هنا هو أن لارس فون تراير، لم يخف سر «لعبته» الشكلية هذه، فهو في واحد من مشاهد الفيلم يجعل بطله يكتشف في عليّة الكوخ نسخة من لوحة «المتسولين الثلاثة» تعود الى القرون الوسطى في فنون الشمال الأوروبي. ومن يعرف تاريخ الفنون في تلك المرحلة، يدرك أن رسامين كثراً، عبّروا عن الموت من خلال خرافة المتسولين الثلاثة الذين يرمز كل واحد منهم الى الأعمدة النفسية الثلاثة التي تشكل المصير البائس للإنسان: الألم والحزن واليأس. بل ان لارس فون تراير، واكب مع وجود هذه اللوحة، تلك الحيوانات الثلاثة التي يجابهها الزوج في الغابة: الغزال، رمز الحزن، والثعلب، رمز الألم، والغراب رمز اليأس. ان كل واحد من هذه الحيوانات يظهر ذات لحظة، ثم يكرر ظهوره في لعبة تكاد تكون تفسيرية للّوحة التي نجد ما يماثلها لدى جيرونيموس بوش أو بيتر بروغل وغيرهما من رسامي الحياة والهواجس الشعبية في القرون الوسطى وبدايات عصر النهضة. والحقيقة أن هذا البعد، الذي شاءه فون تراير، ترميزياً في فيلم يمكن القول إن أموراً كثيرة فيه تبدو ترميزية (من تسمية الكوخ ومحيطه «عدن»، الى رمزية الحيوانات، الى رمزية الاسم نفسه الذي يحيل الى الشرير الذي يحكم جزءاً من الوجود ويناهض السيد المسيح، رمز المحبة في البشرية)، هذا البعد هو أساس الفيلم، وهو الجانب التجديدي فيه، إذ ندر- منذ الدنماركي دراير، والسينما التعبيرية الألمانية -، أن حضرت الميتافيزيقيا في فيلم الى هذا الحد، لكن المشكلة تكمن في أن مخرج «عدو المسيح» غلّف موضوع فيلمه هذا بطبقات متعددة، بعضها منطقي، وبعضها يغالي كثيراً في أبعاده، ولا سيما القدر الكبير من الدماء والأذى وأذى الذات، والمشاهد الجنسية التي يمكن القول انها في أحيان كثيرة تدنو من الفضيحة – على الأقل في رأي كثر من الذين كتبوا عن الفيلم -. ويمكن ان نقول هنا ان هذا المخرج الاستفزازي، كان في إمكانه ألا يخوض لعبته على هذا الشكل، لكنه فعل. وإذ فعل، يصبح من الملائم عدم لومه على هذا، بل الانتظار فترة قبل الحكم على عمله، كما ينبغي أن تكون عليه العادة دائماً مع أفلام من هذا النوع. آفاق جديدة لكن الذي حدث مع «عدو المسيح» هو أن الأحكام أطلقت عليه، وبسرعة شديدة. فمن ناحية هو «فيلم إباحي» (وهو ليس كذلك حتى وإن كانت مشاهد الجنس والعري فيه مفرطة)، وهو فيلم «معادٍ للمرأة» (وهو ليس كذلك، أيضاً، وإن كان ثمة، في الظاهر، ما يوحي بأن المرأة، في هذا الثنائي، هي الأكثر «شراً» والأسرع مبادرة في تحديد لغة الصراع، فيما يبدو الزوج مسالماً راغباً حقاً في شفاء زوجته، وعلى الأقل حتى اللحظات التي لم يعد فيها قادراً على احتمال الألم الجسدي الذي تسببه له، والإقصاء المرعب الذي تسببه له ولها معاً. فالحقيقة ان ما فهم من ان لارس فون تراير، يقصد بالعنوان انه الاسم الذي يطلقه على الزوجة، ليس صحيحاً. حيث ان الشر والعنف اللذين تبديهما، ليسا أكثر من رد فعل على ما تعتقد أنه تعامل زوجها معها... وهو ما يوحي به في الوقت نفسه هذا الزوج، على رغم كل عقلانيته وعقلانية مهنته، هو الذي يعيش المجابهة اليومية مع عناصر الطبيعة، ولن تظهر الحيوانات الثلاثة التي تحدد وتيرة ظهور معالم الألم والحزن واليأس الا امامه.... ترى أفلا يمكننا بدلاً من اتهام الفيلم، هنا، بأنه معادٍ للمرأة – وهو اتهام دائماً ما ووجهت به سينما لارس فون تراير، ظلماً، ولا سيما بالنسبة الى أفلام له كانت في جوهرها مناصرة للمرأة مبررة أفعالها، بأن ظل الرجل... أو ظل الإنسان عموماً، كان في خلفيتها («تكسير الأمواج»، «راقص في الظلام» والجزآن الأولان من ثلاثية «الولاياتالمتحدة») - أفلا يمكننا ان نقول ان موقف لارس فون تراير، الذي قد يكون مختفياً في ثنايا «عجقة» الفيلم «غير المجدية» في رأي كثر هو موقف ضد «تفاهة» الجنس البشري عموماً، وليس ضد المرأة أو الرجل في شكل خاص؟ مهما يكن من أمر يبقى ان هذا الفيلم، ومهما قيل فيه لدى المشاهدة الأولى، ومهما كان من حجم استفزازية بعض مشاهده ومجانية بعضها الآخر، فيلم سيثير السجالات أكثر وأكثر... فاتحاً أبواب السينما، كدأب فون تراير دائماً، على آفاق تحليل وإدراك جديدة، للعلاقة بين الإنسان والدين، الإنسان والأسطورة، والإنسان والحزن... ولم لا نقول أيضاً: الإنسان والجنس بصفته، كاثوليكياً على الأقل، خطيئة دائمة؟