أظهر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مزيداً من الاهتمام بالأوضاع الاقتصادية الصعبة في بلاده، واجتمع للمرة الثانية في غضون أيام مع عدد من رجال الأعمال على مائدة إفطار أقامتها رئاسة الجمهورية أول من أمس، في أعقاب اجتماع عقده السيسي مع عدد محدود من رجال الأعمال بعد إفطارهم على مائدة أقامتها القوات المسلحة. وبدا رهان السيسي الكبير على رجال الأعمال في الحصول على دعم مالي لإقامة مشاريع وخدمات من شأنها تحسين مستوى معيشة الفقراء، في ظل العجز الكبير في الموازنة العامة للدولة الذي يشير إلى عدم قدرة الحكومة على إنفاق بلايين من موازنتها على مشاريع من شأنها احتواء أثر الإجراءات التقشفية. وكانت الحكومة رفعت أسعار المحروقات والكهرباء بنسب كبيرة. ووفر تقليص الدعم نحو 51 بليون جنيه، ليبلغ عجز الموازنة نحو 250 بليوناً بدلاً من 300 بليون في موازنة مبدئية رفض السيسي توقيعها. وسعى السيسي إلى تبرير تلك القرارات في خطاب وجهه إلى الشعب أوضح فيه أن ديون مصر «بلغت حداً خطيراً» بوصولها إلى نحو 1.9 تريليون جنيه. وكان السيسي أطلق صندوق «تحيا مصر» لجمع تبرعات للدولة، وأعلن تبرعه بنصف ثروته وراتبه فيه. وزار بنكاً حكومياً وأودع فيه مبلغاً لم يتم كشفه، وحض المصريين على التبرع فيه. وبدا غاضباً من رجال الأعمال في آخر خطاب وجهه لمناسبة ذكرى حرب العاشر من رمضان (حرب تشرين)، حين تحدث عن صندوق «تحيا مصر». وظهر من خطاب السيسي أن رجال الأعمال لم يتجاوبوا بالقدر الكافي مع مبادرته. وقال: «بالنسبة إلى القادرين ألن تقفوا إلى جانب مصر؟ إياكم أن تتصوروا أنني سيكفيني 10 ولا 20 ولا 50 بليون جنيه. لا. لازم يكون فيه بلايين كتيرة تحت يدي علشان أعمل مشاريع للشباب». وبعد هذا الحديث، التقى السيسي رجال الأعمال مرتين، وبعدها بدأ الإعلان عن تبرعات بالبلايين لمصلحة الصندوق، فبعد اجتماع بين الرئيس وعدد من رجال الأعمال استمر أكثر من 4 ساعات، أعلن بضع رجال أعمال ممن شاركوا في الاجتماع بتبرعهم بنحو 6 بلايين جنيه. وقال ل «الحياة» رجل الأعمال أحمد بهجت الذي شارك في الاجتماع، إن «تعويل الرئيس على رجال الصناعة والتجارة الوطنيين في محله». وأضاف أن «الرئيس أكد أنه لا إجبار على أحد في هذا الصدد، ونحن من جانبنا تحدثنا عن رؤيتنا لكيفية الاستفادة من هذا الصندوق. هناك من أشار إلى أن يُشرف الرئيس على إدارته وتحدد الدولة المشاريع التي تنفق عليها منه بعد تبرع رجال الأعمال بالأموال، ومن رأى أنه من الأفضل أن يُنفذ رجال أعمال مشاريع تطلبها الحكومة تحت مظلة الصندوق». وشارك في لقاء السيسي نحو 50 من رجال الأعمال، في حضور رئيس الوزراء إبراهيم محلب ووزراء الصناعة والتجارة والمشاريع الصغيرة والمتوسطة والتنمية المحلية والدولة للتطوير الحضاري والبترول والثروة المعدنية والإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية والكهرباء والطاقة المتجددة والمال والاستثمار. وقال الناطق باسم الرئاسة إيهاب بدوي إن الرئيس أكد أن «الرؤية الاقتصادية لمصر تقوم على أساس اقتصاد حر وسوق حرة، في شكل واع ومسؤول يأخذ في الاعتبار الحاجات الأساسية لمحدودي الدخل، بهدف تحسين أحوالهم وزيادة مواردهم تعظيماً للطبقة المتوسطة ككتلة رئيسة في المجتمع، إذ ستكون لمصر تجربتها الاقتصادية الخاصة التي ستبنى بسواعد أبنائها». وأوضح أحمد بهجت أن «الرئيس تحدث عن دور رجال الأعمال والصناع في ضبط الأسعار في السوق بعد القرارات الأخيرة، لتقليل آثارها على الفقراء». وبدا من حديث السيسي لرجال الأعمال أن صندوق «تحيا مصر» سيكون مخصصاً للمشاريع التي تهم الفقراء، إذ قال الناطق الرئاسي إن «الصندوق معني بدرجة كبيرة بدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى تطوير المناطق العشوائية والفقيرة، ومكافحة ظاهرة أطفال الشوارع». وبعد لقاء السيسي مع رجال الأعمال، عقد محلب وعدد من الوزراء ورجال الأعمال اجتماعاً أكد فيه محلب أن الصندوق «سيُساهم في رفع مستوى معيشة المواطن والقضاء على الفقر والنهوض بالاقتصاد المصري، من خلال تمويل مشاريع في كل المجالات التي تمس المواطن». وطلب عدد من رجال الأعمال خلال الاجتماع وضع تشريع خاص بالصندوق لفصله عن موازنة الدولة، وعدم ضم الأموال التي ستضخ فيه إلى الموازنة من أجل تخفيض عجزها. وظهر أن الحكومة ستلجأ إلى موارد أخرى لتقليل عجز الموازنة، إذ أصدر السيسي أمس قراراً بقانون بتحويل 10 في المئة من جملة الإيرادات الشهرية للصناديق والحسابات الخاصة إلى الخزانة العامة للدولة. والصناديق الخاصة واحدة من ألغاز الاقتصاد المصري، إذ إن إيراداتها وحجم أموالها غير مُحدد، لكن التقديرات تدور حول مئات البلايين، وهي صناديق تخص مؤسسات رسمية وسيادية وأمنية ووزارات تُضخ فيها بعض إيرادات تلك المؤسسات ولا تخضع لرقابة أجهزة الدولة ولا تُضم إلى موازنتها. وكان منشور صدر من وزارة المالية بعد الثورة بضم 10 في المائة من إيراداتها إلى الموازنة «حتى لو كان ذلك مغايراً لما هو وارد في لوائحها المعتمدة»، وهو المنشور الذي حوّله السيسي إلى قانون، ربما لضمان تنفيذه. وقال مسؤول حكومي ل «الحياة» إن صندوق «تحيا مصر» سيشكل مجلساً لإدارته برئاسة رئيس الجمهورية وعضوية الوزراء المعنيين وشيخ الأزهر وبطريرك الأقباط وعدد من رجال الأعمال، ولن تُضم أمواله إلى موازنة الدولة، «بل ستُستخدم في تمويل مشاريع ستعجز الموازنة عن تمويلها». ولفت إلى أن «هناك أفكاراً في شأن ضم الأموال التي جمعت في بعض الصناديق مثل صندوق 30 يونيو إلى صندوق تحيا مصر». وتم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة تضم وزراء وعدداً من رجال الأعمال لوضع تصور متكامل لاستراتيجية عمل الصندوق وتحديد رأسماله وأنشطته والمشاريع التي سيعكف على تنفيذها. وأوضح السيسي لرجال الأعمال أن «الحكومة ستقوم في الفترة المقبلة بإصلاحات تشريعية تخص الاستثمار». وطلب منهم، وفق بيان الرئاسة، «تحسين أحوال العاملين لديهم، خصوصاً في ما يتعلق بالتأمينات الاجتماعية والصحية مع إمكان استيعاب وتوظيف 10 في المئة سنويا من طاقة العمالة لديهم». وقال: «قبل التفكير في الاقتراض من الخارج أو الاعتماد على المساعدات المالية، يتعين علينا تعبئة مواردنا الذاتية، واضطلاع كل طرف مصري بمسؤوليته إزاء الوطن». لكن السقف الذي حدده السيسي ب 50 بليون جنيه بدا مرتفعاً، إذ أعلن كبار رجال الأعمال تبرعاتهم التي لم تتخط 6 بلايين فقط. لكن رجل الأعمال أحمد بهجت أوضح أن «الأمر يتخطى ما يتم الإعلان عنه من تبرعات، إذ سيشهد الصندوق عملاً مؤسسياً في المرحلة المقبلة، وستكون هناك مشروعات يُنفق على تنفيذها رجال أعمال، فيما سيتبرع آخرون بالأموال». وفي حين يرى خبراء أن التعويل على التبرعات لتحسين مستوى الأداء الاقتصادي ليس مجدياً، اعتبر رئيس الوزراء السابق والخبير الاقتصادي علي لطفي أن التبرع للاقتصاد «شيء جيد»، وقال ل»الحياة»: «حين يتبرع أثرياء لديهم أموال لدفع الاقتصاد، فهذا أمر جيد، ولا يُضر الاقتصاد. فكرة التبرع واردة في كل النظم الاقتصادية». لكنه أضاف أن «التبرع قطعاً ليس كافياً لتنمية الاقتصاد. لا يجب أن نعتمد على التبرعات وحدها بل يجب أن يكون الاقتصاد نفسه منتجاً ونعتمد على مزيد من الادخار والاستثمار... التبرع إضافة لا يجوز الاعتماد عليها كلياً». ورأى أن صندوق «تحيا مصر» يختلف عن سابقيه، إذ «سيأخذ بعداً مؤسسياً هذه المرة وسيضم رجال ثقات في عضويته لطمأنة المتبرعين، كما أن أمواله ستُنفق على المجالات التي من شأنها رفع مستوى معيشة الفقراء، مثل التعليم والصحة، وإقامة مشروعات للتشغيل. وأرى أن تلك هي الطريقة المثلى للإفادة من هذه الأموال». وتوقع أن يتخطى رأس مال الصندوق السقف الذي حدده السيسي. وقال: «من أعلنوا عن تبرعاتهم عدد محدود جداً من كبار رجال الأعمال، لكن في مصر عدد كبير من التجار الذين يمتلكون ثروات تؤهلهم للتبرع، لكنهم ليسوا مصنفين كرجال أعمال كبار».