لم تتوقف جرأة الحلم عند المعماري العراقي الشاب منهل الحبوبي عند تصميم مميز لمبنى رئاسة الوزراء في العاصمة بغداد، بل في تحقيقه ما بدا إنجازاً شخصياً، عبر مسابقة ضمت عدداً من التصاميم، شاركت فيها أسماء لامعة، أبرزها المعمارية العراقية العالمية زها حديد. اللجنة التحكيمية التي اختارت عمل الحبوبي، ضمت أساتذة العمارة إحسان فتحي، رفعت الجادرجي وخالد السلطاني. ويقول الأخير عن التصميم الفائز: «تنطوي أهمية فكرة تصميم مبنى الأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي على ناحيتين، أولاهما حداثة اللغة المعمارية، وثانيتهما تساوق هذة اللغة مع راهن ما ينتج عالمياً بمستواه المميز». ويضيف : «اجتهد المعماري في تقديم مشروع غاية في الابتكار والمهنية. وآمل في أن يكون البناء رمزاً للتجديد و «الأيقونية» التى عملت دوماً على إغناء البيئة البغدادية المبنية التي افتقدنا حضور قرائنها المعبرة منذ عقود». صحيح أن كثيرين كانوا يأملون أن تطبع زها حديد ملامح عاصمة بلادها بلمسة من إبداعها المعماري اللافت، إلا أنهم عوّضوا على الأغلب «خسارتهم» بظهور موهبة عراقية جديدة، ربما تلمست «الجرأة» التي تشكل الفكرة الاساسية في معظم أعمال المعمارية العراقية الاصل، ذلك ان الحبوبي اخترق الركام الحالي الذي تعيشه بلاده، عبر تصميم ينتمي كلياً الى المستقبل، رغم انه حاول أن ينتمي الى جذور فكرية وحضارية «رافدينية» قديمة، وبما يتصل أيضاً بتاريخ بغداد، فثمة شكل «الختم الأسطواني» المستخدم فى العراق القديم، وشكل تكوين مدينة بغداد «المدورة». نكهة عراقية مميزة ويرى متخصّصون أن العناصر الحداثوية المنسجمة مع الإرث التاريخي في التصميم، كانت «المحددات الأساسية للتكوين العام للمشروع، حتى السطوح الخارجية لم تأت تكويناتها من فراغ، وإنما جاءت لتعكس اللغة المسمارية ومزيجاً من الزخارف الإسلامية، لتنقل نكهة عراقية مميزة عند رؤية المبنى، في حداثة تجعل منه منتمياً إلى عصره، وفي الوقت نفسه ناقلاً ومعبراً عن أصالة المكان الذى ينتمي إليه». أما منهل الحبوبي، فيقول إنه بحث في كثير من معالم العراق، وقدم الصور واستبعد تلك المعالم التي تكررت في حضارات أخرى. حاول الإزاحة فلم تكن مجدية، فذهب الى الفن وأظهر صوراً من فنون عراقية بحتة، لكنه شعر بأنها أهم من أن تزاح لصالح أشكال أخرى. فذهب الى الرموز واكتشف رمز الأبدية «إنفنتي» وأصله سومري، وحوّله الى تكوين ثلاثي الأبعاد، ثم أخذ شكلاً أساسياً هو المكعب ليكون خلفية له. كما اقتطع الشكل من المكعب مكوناً الفراغ ثم أخذ طبقات من الكتابة السومرية وحولها إلى سطوح ظاهرة وغائرة لتكون الواجهة. وتقول أستاذة العمارة غادة السلق عن تصميم الحبوبي اللافت في دلالاته، إن «المشروع يحمل فكراً دافعاً للأمل، وهو ما نحتاجه لتحديد ماذا نريد لمدينتا أو مدننا أن تكون، أو كيف نرى عمارتنا. وبشكل عام كيف نرى أهدافنا المستقبلية على الأقل على مستوى الثقافة». وتضيف: «كثر الحديث معمارياً عن المواد الجديدة والألوان، وهناك من يؤيّدها ومن يعارضها، ولكن كل الموضوع ماذا نريد؟ ولماذا نبني هذا الشكل؟ وبهذه المادة دون غيرها؟». وترى أن «مشروع الحبوبي قدّم فائدة منذ الآن، أقلّه في إثارة النقاش في الاوساط المعمارية حول أهمية التفكير وتحديد الأهداف من دون الانجرار وراء المواد والحرفيين المروجين لها، كذلك هو فرصة كي يرى متخذو القرارات البنائية في المؤسسات الاخرى ما معنى أن نقدم التصميم المتميز». وعن المشروع وصاحبه الشاب، كتب استاذ الاقتصاد والمفكر العراقي المقيم في ألمانيا كاظم حبيب: «فلسفة العمارة الحديثة تكمن وراء هذا التصميم المعماري، وهو عميق في مضمونه وشكله ويجسد الوحدة العضوية بينهما، كما أنه يُعتبر التجسيد السليم لاستلهام التراث الحي والتعامل معه بأدوات العلم والفلسفة المعماريين الحديثين». وأكد أنه يجمع بين الماضي والحاضر ويشير إلى استمرار الحضارة الإنسانية وتلاقحها على الصعيد العالمي». وخاطب الحبوبي قائلاً: «أنتم من تلامذة إحسان فتحي وخالد السلطاني ورفعت الجادرجي وقحطان المدفعي وغيرهم، ولكنكم في الوقت نفسه أحد تلامذة بناة العراق القديم، وأحد أساتذة العمارة في المستقبل أيضاً». وفي تقديمه للمشروع في بغداد، جذب الحبوبي الذي يعمل حالياً في دولة الإمارات العربية المتحدة، الانتباه لا لفرادة مشروعه فحسب، بل لما أنهى به مداخلته بكلمة بدت «سحرية» في وقعها على الحضور «العراق أكبر من أن نخاف عليه»، فصفق رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، مثلما كان الحبوبي حينها يترك لدموعه أن تنساب فرحاً وأشواقاً وحرصاً ومحبة لبلاده.