«أنا تركية، ولو كنت عربية لشعرت بالإهانة لطرح بلدي نموذجاً للعالم العربي بعد الثورات... فهذا يردنا إلى عهود يفترض إنها ولّت ومضت». بلغة انكليزية مترددة وبكثير من الثقة بالنفس أعلنت سيدة حضرت الحلقة الأخيرة من «مناظرات الدوحة» التي عقدت في اسطنبول الاسبوع الماضي رأيها في ثيمة المناظرة التي تبحث التجربة التركية كنموذج للحكم في بلدان عربية تشهد وصول تيارات اسلامية الى السلطة عبر صناديق الاقتراع. وبحسب تلك الناشطة لا يقتصر الأمر على عودة «العثمانيين الجدد»، كما يسمى اليوم حزب العدالة والتنمية، إلى الواجهة فحسب، وإنما لاعتبارها إن النموذج الحالي لحكم هذا الحزب ليس جيداً بما يكفي للأتراك أنفسهم، فكيف لشعوب أشعلت ثورات من أجل حريتها؟ المدافعان عن وجهة النظر هذه جلسا الى يمين منصة تيم سيباستيان، مدير المناظرة التي تعرضها قناة «بي بي سي»، وهما الباحث والكاتب اللبناني حسن منيمنة والصحافية التركية إيتشه تملكوران التي فقدت عملها أخيراً بسبب ما قالت إنه مقال رأي انتقدت فيه رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. والى يسار المنصة، جلس المؤيدان لنقل التجربة التركية الى العالم العربي بصفتها «الفضلى حالياً»، وهما الصحافي المغربي أبو بكر جمعي والديبلوماسي التركي السابق سنان أولجن. وكما هي عادة برنامج «مناظرات الدوحة» الذي يفتح باب مشاركة الجمهور وتصويته، لعب سيباستيان مع ضيوفه دور محامي الشيطان لكنه وصف في مقدمته الثورات العربية ب «الفوضى التي وقعت فيها بعض بلدان المنطقة». ولم يعرف ما إذا كان استخدام تعبير «فوضى» مجرد مصادفة لغوية لوصف الاوضاع المتقلبة فعلاً في المنطقة، أم أنه يعكس رأياً صريحاً ووجهة نظر بالثورات، ولكن، يبقى ذلك تفصيل أمام مضمون النقاشات و»مرافعات» المشاركين، إن صح التعبير، الذين منحوا دقيقتين فقط لإقناع الجمهور بصوابية رأيهم. ودافعت تملكوران عن وجهة نظرها القائلة إن تركيا ليست نموذجاً يحتذى عربياً، «ولا في أي مكان من العالم» بحسبها، بالتركيز على قضية الحريات العامة وحرية التعبير. وأصرت تلك الشابة المتحمسة على تلاوة أسماء زملائها الصحافيين والكتّاب المعتقلين منذ فترات متفاوتة بسبب مواقفهم السياسية. وجهت تملكوران الاتهام الى رئيس الحكومة مباشرة، وتساءلت عما إذا كان العالم العربي يطمح الى المزيد من قمع للحريات ولوسائل الاعلام. وللقائلين بأن النمو الاقتصادي ورفع دخل الفرد التركي هو نجاح يحتسب للحكومة التركية، رد منيمنة بأن المانيا قد تشكل نموذجاً أفضل في هذه الحالة، ولا داعي لإيصال تيارات إسلامية إلى السلطة بهدف تحقيق الازدهار الاقتصادي فثمة بلدان أخرى تجمع بين نظام سياسي ديموقراطي فعلاً والرفاه الاقتصادي في آن، ويمكنها أن تكون نموذجاَ أفضل إن كان لا بد من نموذج. أما تملكوران فرفضت هذه الحجة جملة وتفصيلاً مشككة بهذا النمو أصلاً لانه أنتج تفاوتاً اجتماعياً واقتصادياً كبيراً بين المدن والمناطق الاخرى في تركيا. في الوقت نفسه، أشارت تملكوران الى إن المواطن التركي لا يعرف مصدر الكثير من الثروات المحققة والايداعات المالية المشبوهة بسبب غياب الشفافية والمحاسبة. وإذ اعتبر منيمنة أن البلدان العربية يجب أن تؤخذ فرادى وأن يصوغ كل منها نموذجه الخاص بالحكم بما يتوافق وواقعه الخاص، تخوف من أن يتمسك الاسلاميون بالسلطة ولا يتخلون عنها، فتنتقل البلدان العربية من تجربة سيئة إلى تجربة أسوأ، واصفاً «تهاون» الإسلاميين مع بعض القضايا الشائكة بأنه مجرد ادعاء يسقط فور تسلمهم السلطة. الى يسار المنصة كان من ينظر الى التجربة التركية بصفتها قصة نجاح ديموقراطي واقتصادي حملت البلاد إلى الاضطلاع بدور اقليمي وثقل سياسي يحسب حسابه. وأرجع أبو بكر جمعي أسباب قابلية تطبيق النموذج التركي في البلدان العربية الى التقارب الثقافي والديني والتاريخ المشترك، مقللاً من أهمية تعامل تركيا مع قضايا مطروحة اليوم على بساط البحث في بلدان الثورات العربية، مثل الاقليات الدينية والعرقية وبعض المكتسبات الحقوقية التي كانت حققتها الانظمة السابقة في بعض المجالات كما في تونس مثلاً. وضرب جمعي مثالاً على ذلك التقارب الثقافي، الاقبال المتزايد على المسلسلات التركية التي مدت جسوراً جديدة بين تركيا والبلدان العربية. صورة السلطنة وأثارت تلك الطروحات استهجان الحاضرين على أكثر من مستوى. فالتاريخ المشترك الذي ذكره جمعي، يعيد صورة السلطنة العثمانية الى الأذهان، وهي صورة يرفضها اليوم العرب والاتراك على حد سواء. فهي لا تحمل معنى الندية والمشاركة التي أرادها جمعي من ضرب مثله، وإنما تنطوي على تاريخ سلبي فيه الكثير من «العنصرية المتبادلة»، وهو ما واجهته به تملكوران، ما اضطره الى الاعتراف بأن المغرب، أي بلده، لم يعرف حكم العثمانيين! أولجن من جهته، اختصر تأييده نقل التجربة التركية الى العالم العربي ب «أن العرب أنفسهم يقدمون هذا الطرح ويسعون اليه وليس الاقتراح تركياً»، مضيفاً انه لو لم تكن تركيا بلداً ديموقراطياً لما كانت هذه المناظرة لتعقد فيه أصلاً. وأولجن، الديبلوماسي السابق والباحث في معهد كارنغي (اوروبا) حالياً، لم ينف التقصير التركي في بعض النواحي الحقوقية، خصوصاً في ما يتعلق بالقضية الكردية أو الاعتراف بمجازر الارمن وغيرها من المسائل الشائكة التي تتفادى أنقرة الخوض فيها، لكن ذلك ليس كافياً برأيه لئلا تكون التجربة التركية «خطوة اولية» على الاقل، تنطلق منها البلدان العربية باتجاه صوغ تجاربها الديموقراطية الخاصة. أما أن تكون عيون السلطنة القديمة نفسها معلقة بأوروبا ومتجهة نحوها، في سعي دؤوب للانضمام اليها، فمسألة لا تستحق التوقف. تلك كانت الاجواء العامة في مناظرة اسطنبول، التي صوّت الجمهور لمصلحة ثيمتها بواقع 59 في المئة باعتبار تركيا ليست نموذجاً يحتذى عربياً مقابل 41 في المئة رفضوا تلك الفكرة، لكن نقاط بحث كثيرة طرحتها تلك المناظرة تستحق التوقف. أولى تلك النقاط كانت المخاوف من وصول تيارات إسلامية الى الحكم في البلدان العربية وتمسكها فيه على حساب بقية أطياف المجتمع، خصوصاً أن تلك الاحزاب التي بقيت خارج اللعبة السياسية تكتسح اليوم صناديق الاقتراع من المغرب إلى مصر مروراً بتونس وربما سورية لاحقاً. وأول «التطمينات» التي تعلنها للقائلين بإنها ستكون أكثر تشدداً بعد وصولها الى سدة القرار هو «انظروا الى النموذج التركي». رأي «الاخوان» السوريين وعن الحالة السورية حيث التهويل من سقوط «نظام علماني» لمصلحة الاخوان المسلمين، التقت «الحياة» الناطق الاعلامي باسم «الاخوان» السوريين، باسل حفار المقيم في إسطنبول، فقال: «تجربة الاخوان السوريين بنيت في الخارج وليست لدينا قاعدة فعلية في الداخل، بعكس مصر حيث التنظيم يعمل منذ سنوات، وحتى تونس لديها تجربة مختلفة على هذا الصعيد، لذا نحن ما زلنا بحاجة الى لملمة أنفسنا وتنظيم صفوفنا ولم نحسم أمرنا بالمشاركة في الحكم بعد سقوط النظام السوري». ورأى حفار أنه يمكن الاستفادة من التجربة التركية في كثير من الجوانب، لكنها قد لا تشكل نموذجاً قابلاً للاستنساخ. وبهذا المعنى، رأى حفار إن بعض الجوانب التي يمكن التعلم منها تكمن في القدرة الادارية الكبيرة والحفاظ على مدنية الدولة والازدهار الاقتصادي. وقال: «الاسلاميون يدركون جيداً أن تركيا ليست بلداً إسلامياً، إنما نظامها علماني يديره اليوم حزب إسلامي نجح في الحفاظ على السلطة لأكثر من 7 سنوات، وهو بهذا المعنى نموذج ناجح لتركيا ويمكن التعلم والاستفادة منه، لكن، لا يمكن نقله كما هو الى بلد مثل سورية نظراً لخصوصيات كل بلد». مسألة أخرى استحوذت على النقاشات وهي الدراما التركية وانتشارها العربي على اهتمام كثير من الحاضرين على هامش المناظرة، خصوصاً لجهة اعتبار تلك المسلسلات صورة واقعية للمجتمع التركي ترغب السلطة في تسويقها. هي صورة بيئة منفتحة ومحافظة في آن، تتفاوت شخصياتها بين طبقة رجال الاعمال الفاحشي الثراء أو طبقة وسطى قد يطمح المشاهد الى التمثل بها وقصص حب تدور على خلفية مشهدية جميلة. ولا شك في ان تلك المسلسلات شجعت نوعاً جديداً من السياحة ودفعت بشركات تنظيم الرحلات الى إدراج مواقع تصوير المسلسلات ضمن قائمة الاماكن التي يجب زيارتها. وهي على العموم زيارات تلقى رواجاً كبيراً لدى السياح العرب لتركيا الذين يحجزون دورهم مسبقاً في هذه الرحلات ويعيشون للحظات بين اروقة منازل أبطالهم وغرفها. «لكنها لا تعكس واقع الحياة في تركيا ولا طبيعة العلاقات فيها»، تقول إحدى العاملات في شركة «وورنر براذرز» الشهيرة في الانتاج السينمائي والتي حضرت المناظرة. وأوضحت: «هي مجرد سلعة أنتجت لإرضاء زبون، أي المشاهد في هذه الحالة، لكنها لا تمثلنا ولا تمثل واقع حالنا... حتى نجومها هم ممثلون ثانويون عندنا». أما المحطة التي حملت كماً كبيراً من التناقضات والمعايير المزدوجة في تقويم السياسات فكانت القضية الفلسطينية واضطلاع تركيا بدور قيادي في الإعلان عن رفضها الممارسات الإسرائيلية، اضافة الى رعايتها أسطول الحرية خلال حصار غزة. وتعتبر تلك المواقف مصدر إلهام للكثير من الشعوب العربية التي ترى في رئيس الوزراء التركي نموذجاً للقائد الشجاع والعادل. لكن، في الوقت نفسه، يتغاضى هؤلاء عن حجم التبادل الاقتصادي والعسكري مع اسرائيل، كما لم يتوقفوا عند خبر سحب أنقرة دعواها القضائية ضد قادة إسرائيليين لقتلهم الناشطين على متن العبارة، بعدما كانت تركيا اشترطت اعتذاراً رسمياً وعلنياً من اسرائيل. وللمفارقة، أن نشر الخبر تزامن مع يوم المناظرة من دون أن تقدم تل أبيب أي اعتذار! ولا شك ان من غير المنصف النظر الى التجربة التركية بصفتها قصة نجاح مطلق أو فشل مطلق، فهي نتيجة سنوات من الممارسة الديموقراطية التي لم تختبرها الشعوب العربية منذ عقود وبدأت للتو تخطو خطواتها الاولى فيها. وإذ يتم الحديث اليوم عن «تجربة تركية» أو «نموذج تركي» في ادارة الحكم، فالمقصود في الواقع تجربة «العدالة والتنمية» كحزب ديني إسلامي في السلطة. وبهذا المعنى ربما يعتبر «العدالة والتنمية» نموذجاً للتيارات الاسلامية في المنطقة، التي قبلت أولاً بالمشاركة في الانتخابات، ولكن، وكلما نظرنا الى تركيا، ننسى أن الحزب الديني يحكم تحت سقف جمهورية علمانية وقوانين مدنية وليس تحت سقف الشريعة الإسلامية. فهل ستؤسس الثورات العربية جمهوريات علمانية أو على الاقل مدنية، تتيح وصول أحزاب دينية الى السلطة من دون أن تشكل تهديداً لبقية المواطنين وحرياتهم؟ تلك هي المعضلة الفعلية المطروحة على «النهضة» التونسية، و»الحرية والعدالة» المصري، وربما على الإخوان السوريين.