أوله قتلٌ وآخره قتل. عام ثورات «الربيع العربي» السلمية، حصد حكاماً متسلطين طوّعوا الشرعيات جمهوريات استبداد. تهاوت رؤوس، لكن ثمار الحرية ما زالت أبعد بمسافات دماء من ساحاتها... من القاهرة إلى صنعاء، من طرابلس حتى بغداد التي تنأى عن «الربيع» بداء الرياح المذهبية، وقصور تصفية الحساب. لم يفرح العرب بعد، وقد يدّعي جورج بوش الذي غزا العراق، فضلاً في زرع بذور «الربيع» بإطاحة ديكتاتورية صدام. لكنه بالتأكيد، يتذرع بضعف الذاكرة ويتناسى ضربة الحذاء التي ساوت بين المحتل والديكتاتور. يتناسى إطلاق العنان لروح الثأر، وتغذية شرايين الحقد في العراق برعاية مذهب الحصص. قد يدّعي باراك أوباما أن عهده هو الذي رعى تنفيذ مشروع الجمهوريين ل «الشرق الأوسط الكبير»، بدعم رياح الديموقراطية، والتخلص من عبء حلفاء يكرهونها بالفطرة... ويتجاهل أن واشنطن التي باغتتها نار الانتفاضات في الشارع العربي، إنما اقتنصت فرصة، مثلما قناصة أنظمة طاردوا المحتجين في ميادين لم تكن تعرف سوى الركود القاتل تحت عيون المخابرات. تبنت أميركا استراتيجية المصادفة بعدما انكشف عجز أوباما عن تنفيذ أي وعد للمنطقة. 2011 أوله قتل وآخره دماء، ولكن ألم تثمر «ثورة 25 يناير» و «ثورة الياسمين» وانتفاضة ليبيا وحربها؟ كما أميركا، أي حزب وأي تنظيم عربي قد يدعي الفضل في إطلاق الشرارة أو تحويلها مداً جارفاً لجمهوريات الرعب. هو ايضاً ركوب لموجة تحطيم «باستيل» العرب، الجاثم منذ استقلال بلدان، استقلت «شرعياتها» الحاكمة عن كل عدالة وحرية، باسم المعركة الأم، فلسطين. خانوها عشرات المرات، أفلسوا مع القومية وأفلسوها، حاربوا بطواحين اليسار بعدما انهارت امبراطورية الشيوعية، وإذا بالبعث انحطاط لا ينهض إلا بتغييب الذات البشرية. كأنها أضاحٍ، عشرات القتلى معدل يومي في عام الثورات العربية. معركة المصير مع عدو «وطني» في الداخل، حتى إذا كسب الشباب انقضّت الأحزاب على الحصص. الشهداء منهم، ودولة الثورة منها. فلتجرِّب، بالديموقراطية، أميركا جاهزة للاعتراف، وأما حيث ينقلب سحق الثورة حرباً على كل الطوائف غير المحصّنة بظلال «القائد»، فذاك ربيع إسرائيل الممانِعة لسقوط «باستيل» العرب... مهما كذبت. وإن كانت حرية الاختيار والانتخاب الهادئ في تونس يبشّران بعقلانية التجريب والمحاسبة للإسلاميين بعدما انتقلوا من المنافي والسجون الى السلطة، فالحال أن غليان مصر مع حرب النوايا، وإهمال المعارضة في اليمن احتواء مرارات الشباب، وتفاقم أزمة الميليشيات في ليبيا، لا تتيح كثيراً من الأمل بأن دولة الثورة في شمال افريقيا واليمن ستحط مرساتها قريباً في دساتير ومؤسسات ديموقراطية... لا تتيح بعد خيوطاً كافية للثقة بأن غدَ الربيع لن يكون ممانعة «مدنية» لدى الحاكم الثائر إزاء كل ما يخدش سلطته. ولكن، ألا نستحق مجرد أمل بانهيار ما بقي من «باستيل» العرب؟... أن نتآمر على تشاؤمنا المَرَضي، المديد منذ روّضَنا الحكّام على الصمت، والتلذذ بالمهانات، ومقايضة كرامتنا بالخبز والستر؟ ألم نشارك بعضهم جريمة قتل تاريخ العرب لعقود سمّوها سنوات المواجهة مع العدو الإسرائيلي، لنصحو فجأة على إبادة حريتنا وإنسانيتنا، واختراع عشرات الأعداء في كل وطن... وصلب «العملاء» وجلد الآخر ليل نهار؟ يحق لنا كشف حساب عن إهدار أجيال، وتضليل عقول وتهجير أدمغة، وتدمير مجتمعات بامتيازات طبقة السلطة، وبالتمييز من كل نوع، إلا في ما يساوي المرأة بالرجل، في واجب الصمت! وأما السؤال عن هوية الذين يدمّرون المؤسسات بحرائق الغضب في مصر، فإن كان لا يفترض عناءً في البحث عن جوابه، فالأجدى بشباب «الربيع» وأحزابه صد حملة تدمير الدولة، والتي تتقدم تحت غبار حرب النوايا مع العسكر. بين 2011 و2012 يبقى السؤال هو ذاته: لمصلحة مَن تحطيم صورة الجيش في بلد بحجم مصر التي ستظل المحك لتحصين ربيع العرب، إذا نَجَت؟ لا يعفي ذلك العسكر من كشف حساب بأخطاء باتت أكبر من جناية، مثل كشوف العذرية لناشطات في ميدان التحرير، فيما مهمتهم وضع مصر على مسار دستوري للثورة. «في ربيع» العرب سقط كل المحظورات، وإن كان 2012 يستكمل مخاض ثورات، وتسابقُه سُحُب حروب مذهبية في العراق قد تغيّر خريطته، فوجود تركيا كذلك على عتبة أزمة سورية، ووعيد إيران في مضيق هرمز إذا خنقتها العقوبات، لا يعدان إلا بالمفاجآت الكبرى.