أصبح واضحاً أن دمشق، بصفتها «قلب العروبة» بالمفهوم التقليدي البائس، تريد أن تبرهن أن العرب الساعين إلى التعاطي مع أزمتها هم مجرد هواة عندما يتعلق الأمر بالمماحكة والديماغوجية. فالرسائل الحقيقية التي تريد دمشق إيصالها إلى «من يهمه الأمر» يتولاها الرئيس بشار الأسد شخصياً. وحين أطلق اتهامه للجامعة العربية، عبر «الصنداي تايمز»، ب «التدخل» في شؤون بلاده، كانت الجامعة قد فرغت من درس تعديلات طلبت دمشق إدخالها على «بروتوكول المراقبين» وانتهت إلى رفضها. لا تدويل ولا تعريب بل حل داخلي. هذا هو القرار السوري، وهو الحل المفقود منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية. أما الحديث عن «مراقبين» فكان مفيداً فقط لتمرير ما يكفي من الوقت لقتل بضع عشرات إضافية من المواطنين، كي يفهم من لم يفهم بعد أن هذا هو الموقف النهائي للنظام، وما على الذين يريدون التحادث معه إلا أن يتمثلوا بروسيا والصين وإيران و... لبنان واليمن، فيباركوا صموده وصلابته ولا يبالون بإراقة الدماء. لو لم يكن هناك منشقّون عن الجيش السوري لسعى النظام إلى إيجادهم بل إلى خلقهم، فهم الآن ذريعته للإيحاء بأن «حرباً أهلية» على وشك أن تشتعل، بعدما انتظر وتأكد أن حرباً خارجية، أي إقليمية، لا تبدو متاحة لإخراجه من عثرته الداخلية. وهو يستخدمها في كل الاتجاهات لمخاطبة أطراف «المؤامرة»، فمن جهة يقول إن واشنطن تريد هذه الحرب وتمدّ أطرافها ب «أحدث الأسلحة»، ومن جهة أخرى يأخذ التحذيرات الأميركية من حرب أهلية على أنها شهادة من العدو بأن رؤيته للأحداث كانت صائبة. ماذا عن الدعوات التي أطلقتها واشنطن، وسواها، إلى النظام «كي يقود الإصلاحات»، وماذا عن الفرص التي فتحت أمامه كي يعالج الأزمة داخلياً واختار أن يفوّتها جميعاً، ثم إذا كان يرفض أي تدخل خارجي فما هي السبل البديلة التي يملكها؟ واقعياً ليس لديه سوى تحليله الأول الذي قدّمه الرئيس أمام مجلس الشعب في ذلك الخطاب الفاشل. فبالنسبة إليه كان ولا يزال هناك خياران: إما أن تتوقف «المؤامرة» وإما أن تتوقف الانتفاضة. وإلا فإن العنف سيستمر... لوقفهما معاً. فهذا نظام يجب ألا يُزعزع أو يمسّ، ويجب أن يُقبل كما هو، بعنفه ودمويته. وهذا شعب اعتاد على الخروج للتظاهر كلما استدعته الأجهزة ليعبر عن تأييده للنظام، وطالما أنه خرج عن صمته فقد وجب إسكاته. بعد الصدمة التي أحدثها «تعليق العضوية» في الجامعة، وواجهتها دمشق بالتظاهرات الموالية وباستباحة السفارات وكأنها هي التي باتت تدعو السفراء إلى المغادرة استباقاً لاستكمال عزلها ونبذها، دخل النظام في مزاج «انتصاري» آخر، مشابه لما استشعره اثر سقوط التدويل في مجلس الأمن. إذ اعتبر أن التعريب هو في حقيقته امتداد للتدويل أو وسيلة للعودة إليه، وما دام العرب قرروا الذهاب إلى حدّ وضعه خارج الجامعة، فهذا لا يعني سوى إقفال التعريب والتدويل معاً. وفي أي حال كان النظام استعدّ لمثل هذه اللحظة منذ زمن، إذ مضت عليه أعوام طويلة وهو يمارس وجوداً شكلياً داخل الجامعة، ثم أن سياسته الخارجية الموصولة بسياسة إيران قطعت أشواطاً مهمة في الابتعاد عن الفلك العربي وصار معنياً بالاستراتيجية التي يرسمها وينفذها مع إيران، أو بما ترسمه إيران وبالدور الذي تحدده له. ففي بعض الأحيان كان عليه، كما فعل في العراق، أن يغض النظر عن «النفوذ» الذي يدّعيه أو الذي يملكه فعلاً، أو أن يرضى حتى بتقاسم غير متكافئ للأدوار، كما في لبنان، حيث كان له الدور الأول. ناهيك عن خسارة جزئية متوقعة لورقة فلسطينية - من خلال حركة «حماس» - من دون أن تخسرها إيران، أقلّه حتى الآن... إذاً، فقد أدركت الأزمة النظام وهو منسلخ تماماً عن الأجندة العربية، وبالتالي فليس لديه ما يخسره منها خصوصاً إذا غدت، كما يراها، «مطيّة للمؤامرة». في الأعوام الأخيرة لم يعد هناك ما يربط سورية بالعرب سوى إقبال أعداد معتبرة من السياح إليها، فضلاً عن استثمارات عربية مهمة تدفقت على البلد في محاولة غير مجدية، كما اتضح، لاستمالة النظام والحدّ من ارتمائه كلياً في أحضان إيران. ثمة مرحلة جديدة تبدأ في الأزمة السورية، ولعل النظام استعد لها بإضافة سلاح آخر إلى ترسانته، أنه الحرب الأهلية. فالتحذير منها والتظاهر بالسعي إلى منعها، وفي الوقت نفسه بذل ما أمكن لجعلها حقيقة معاشة، تبدو عناصر الوصفة الأخيرة لردع أي تفكير في تدخل خارجي. هناك عمليات حصلت أخيراً ونسبت إلى المنشقّين، الذين أكدوها ثم نفوها، وتبين أن طرفاً ثالثاً نفذها. وهذا الطرف ليس غريباً أو مندسّاً بل انه على الأرجح صنيعة النظام. ويتوقع المعارضون ازدياد العمليات المشتبه بها، بالإضافة إلى اغتيالات لا تركز على فئة أو طائفة معينة بل ترمي إلى التخلّص من أشخاص بعينهم وإلى خلط الأوراق وحقن المجتمع بالمخاوف والشكوك لإدخاله نهائياً في منطق النزاع الأهلي، بمختلف أبعاده الطائفية والمذهبية. فقد يكون الوقت حان كي تعيد الأجهزة السورية إحياء الخبرات التي استخدمتها في تأجيج الحرب الأهلية في لبنان، لكن هذه المرة على الأرض السورية. انه السيناريو الجهنمي، سيناريو ستبدو معه جرائم الشهور الماضية مجرد تسخين لما سيكون. بل سيناريو يستند فيه النظام إلى «مشروعية» وهمية لإحكام إغلاق البلد ووضع كل ترسانته النارية في غمار حرب أهلية يزكي أوارها فيما هو يرفع شعار صدّها ومقاومتها، وتحت هذا الشعار يفتك كما يشاء، بل يفعل كل ما يتخيّله مناسباً حتى لو كان «دويلة آمنة» لا يتصوّر لنفسه مستقبلاً من دونها. في حال لبنان كانت سورية اتخذت لنفسها عام 1976 مهمة تحت غطاء مزدوج، عربي ودولي، ل «إنهاء الحرب الأهلية ومنع مشاريع التقسيم». أما في حال سورية فليس هناك أي تصور عمّن يمكن أن يتولّى مهمة كهذه. لذا تصاعد أخيراً الحديث عن «منطقة عازلة» أو «ملاذ آمن»، ما يتطلب بالضرورة حظراً جوياً، أي قراراً من مجلس الأمن وتدخلاً دولياً ما، لا تزال ملامحه غامضة حتى عند تركيا. كان المسعى العربي، وربما لا يزال، إطاراً يؤمّن دوراً للنظام السوري أولاً للانخراط في عملية «حماية المدنيين»، ثانياً لإدخال الأزمة في مسار «حوار وطني»، وثالثاً - وهو الأهم - لتأمين فرصة تاريخية للنظام كي يساهم في وضع حدّ للانزلاق إلى الحرب الأهلية بدل أن يبدو مندفعاً إلى استدعائها. لكن سلبية النظام حيال وقف العنف أو الشروع في الحوار لم تبقِ للأطراف المهتمة سوى الرهان على المعارضة ومساعدتها على تنظيم صفوفها وتوسيع تمثيلها وتوحيد أهدافها وبرنامجها السياسي تمهيداً للاعتراف بها بديلاً من النظام الذي تؤكد استعداداته العسكرية خصوصاً في المناطق الشمالية الشرقية أنه لم يعد، على المديين المتوسط والبعيد، معنياً بكل الشعب بل بفئة منه، ولا بكل الأرض بل برقعة ساحلية محددة منها. * كاتب وصحافي لبناني