قبل عشرين عاماً هربت من العراق بسبب قصيدة كتبتها ضد الديكتاتور صدام حسين وتوجهت إلى دمشق حيث فصائل المعارضة العراقية وعملت معها من أجل إسقاط الديكتاتورية وبناء نظام ديموقراطي كنا نحلم به طيلة أربعين عاماً. اليوم أهرب مرة أخرى من العراق بعد أن تسلمت هذه المعارضة زمام السلطة ووضعت اسمي في قائمة اغتيال الكفاءات بسبب مقالات تنتقد الأوضاع المزرية التي تحصل في البلد. لم يتغير الأمر كثيراً، غير أن العدو الواحد والمعروف قد تناسل ولم تعد له ملامح ولا حدود ويقتل لأسباب كثيرة وأحياناً بلا أسباب حتى. كثيرون من المثقفين العراقيين عادوا بعد التغيير ظناً منهم أن الأمور ستستقيم بغياب الديكتاتورية، لكن الكثير منهم عاد أدراجه بعد أن وجد أن من المستحيل عليه العيش مع الكاتم والمفخخات والميليشيات والتكفيريين وانعدام الكهرباء وقلة الوظائف. القلة القليلة الباقية من هؤلاء المثقفين فعلت المستحيل من أجل البقاء في البلد وتحملت كل المصائب لكنها لا تستطيع أن تتحول إلى كبش فداء لساسة فاسدين لا يتورعون عن فعل كل سوء من أجل مصالحهم الخاصة. اليوم لم يبقَ سوى عدد قليل من المثقفين العائدين يحسبون على أصابع اليدين ومنهم من يفكر بالعودة إلى المنفى مرة أخرى بعد أن أصابه اليأس الكامل من تحسن الأوضاع السياسية والأمنية وهذا هو بالضبط ما تريده بعض الجهات التي تتمتع بنفوذ في العراق. لا مكان للمثقف الليبرالي في هذا البلد وإذا أراد البقاء عليه أن يختار بين الصمت أو الولاء لأحد الأحزاب التي توفر له الوظيفة والحماية أيضاً. الحزب الوحيد الذي يمكن المثقف الليبرالي أن يتعاطى معه هو الحزب الشيوعي العراقي، لكن هذا الحزب لا يمتلك ميليشيات ولا أموالاً ، وكل ما يستطيع تقديمه للمثقف هو الدعم المعنوي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع في بلد يسير فيه كل شيء بالعكس أو إلى الوراء حيث تحول الخطأ إلى قاعدة في مجتمع وصل إلى الحضيض، فحتى الفقراء فيه تحولوا إلى لصوص. لا توجد في العراق حكومة أو دولة، بل هناك سلطة لديها نفوذ وميليشيات، وهذه السلطة موزعة بين عدد من الأحزاب التي لا تخفي ولاءها إلى جهات خارجية هي المتحكم الحقيقي بأمور البلد. الجهات الخارجية تخطط والعراقيون ينفذون أجنداتها، وإذا تعذر عليهم التنفيذ فإن هذه الجهات تقوم بالتنفيذ أمام أنظار الجميع من دون خوف أو وجل. في ما يتعلق باغتيال الكفاءات أو تفريغ البلد منها ومن خبراتها هناك أكثر من جهة سنّية وشيعية كلها راديكالية تكفيرية وتتبع أجندات خارجية هي الأخرى متصارعة فيما بينها. تضم قائمة الكفاءات المفكرين والمثقفين وأساتذة الجامعات والأطباء والإعلاميين وضباط الجيش الكبار في جهازي المخابرات والاستخبارات وغالباً ما تنفذ هذه الاغتيالات بالمسدس الكاتم وفي كل الأوقات، إذ إن الجهات المنفذة تتمتع بخبرات كبيرة ونفوذ وطرق يصعب التكهن بها بحيث يبدو أي شخص في متناول يدها ولا تستطيع أية قوة منعها من تنفيذ مخططاتها. يروي ضابط في جهاز الاستخبارات: «قام بتحذيري شخصياً من الاغتيال» أن المنفذين لديهم معلومات دقيقة عن الكثير من «الكفاءات» الذين تم اغتيالهم والسبب كما يقول هو اختراق الأجهزة الأمنية من قبل الأحزاب المتنفذة بالسلطة والتي تنفذ تلك الأجندات الخارجية من أجل إبقاء البلد في حالة من الفوضى والرعب. ما يثير الالتباس أكثر هو حين تقوم جهة ما معارضة للحكومة باغتيال أحد الأشخاص المحسوبين عليها من أجل الإيحاء إلى الآخرين بأن الحكومة تقف وراء ذلك ولا أحد يعرف كم كبش فداء راح ضحية هذا الصراع، خصوصاً من الإعلاميين والمثقفين كما هي حال المفكر كامل شياع والمفكر قاسم عبد الأمير عجام والمخرج المسرحي هادي المهدي والمئات من الصحافيين والإعلاميين. لا تتورع جهات تنتمي إلى طائفة ما عن تصفية شخصيات من طائفتها تعارضها ولا تختلف عن ذلك الجهات الأخرى. ويتردد في الشارع العراقي بقوة قول «الشريف وحده هو المستهدف» ما يعني أن المواطن العراقي الشريف هو الوحيد المستهدف من قبل الجميع والباقين إما قتلة أو لصوص أو مرتشون وفي أحسن الأحوال فاسدون. يتهم الكثيرون من الناس الحكومة وأكثر من ذلك رئيس هذه الحكومة بالانفراد باتخاذ القرارات، لكن من يراقب الأوضاع بعيون فاحصة فسيجد أن كل القادة الذين يشتركون في حكم العراق يتمتعون بهذه الصفات وأكثر، خصوصاً في ما يتعلق بتصفية الخصوم والكفاءات وتحميل الحكومة وزر هذه التصفيات. جميع الأحزاب لديها ميليشيات مسلحة تستطيع أن تستعرض قواها في الشارع وأن تصل إلى أية بقعة تريدها من دون أن تستطيع الحكومة إيقافها وغالباً ما تكتفي بالشجب. المثقف العراقي يقتل مرتين، مرة في زمن الديكتاتور لأنه معارض ومرة في زمن التغيير لأنه لا يريد أن يتنازل عن انتمائه وهويته الوطنية.