عندما أثقل مجلس الأمن الدولي ليبيا بعقوبات مفتوحة الأفق بتهمة تبني الإرهاب سياسة لها والقيام بعملية «لوكربي»، قامت حفنة من الليبيين بالعمل الدؤوب داخل ليبيا ومع الدول الكبرى - وفي طليعتها بريطانيا والولاياتالمتحدة – لشراء استمرارية النظام بمباركة الدول الغربية، من خلال صفقة متكاملة شملت التعويضات لأهالي ضحايا طائرة «بان اميركان» التي تفجرت فوق لوكربي وشملت التعاون التام في ملف الإرهاب، وكذلك تخلي ليبيا عن اية طموحات نووية وتفكيك المنشآت إنما من دون الإقرار بدور ليبي في لوكربي ومع الإصرار دوماً على براءة عبدالباسط المقرحي المدان في العملية الإرهابية التي أودت بحياة 270 شخصاً. كانت تلك صفقة تجارية وسياسية مفيدة للنظام في ليبيا، إذ أقبلت الدول على التحبب الى العقيد معمر القذافي بلا مساءلة عن نوعية النظام، والأهم ان ليبيا تمكنت من صفقة أخرجتها من عقوبات فرضها مجلس الأمن كان يبدو الخروج منها شبه مستحيل. وهذا تماماً عكس ما فعله العراق بقيادة الرئيس السابق المخلوع صدام حسين إذ انه رفض الاستفادة من زخم المبادرة وأبقى العراق رهينة نظام متعال اعتمد سياسة «التقطير» نقطة بنقطة فهدر فرصة صفقات لربما أنقذت العراق من أقسى وأشمل وأكبر نظام عقوبات فرضه مجلس الأمن على اي دولة. الفارق الأساسي بين العراق وليبيا تحت العقوبات لا يقتصر على شخصية صدام حسين الذي كان له حس ملكية قاطعة للبلد مختلف عن حس معمر القذافي. الفارق ان ليبيا اليوم «تخرّجت» من تهمة الإرهاب بعدما سلّمت كل ما لديها من معلومات عن الجيش الجمهوري الإرلندي الى بريطانيا وباتت تتحدث بلغة إنشائية تتباهى فيها، الى حد ما، بإرهاب من نوع آخر – بمعنى دب الرعب في قلوب قادة الغرب عبر أسباب تجارية ونفطية. اما العراق فإنه استُخدم ساحة للحرب على الإرهاب ولإسقاط صدام حسين بذريعة امتلاك أسلحة الدمار الشامل، إنما هو الشعب العراقي يدفع يومياً ثمن حروب الإرهاب عبره وعليه، وما زال تحت عقوبات الأمر الواقع بموجب الفصل السابع من الميثاق. اليوم، ان إيران تحيك سياسة تستبق وتتناول العقوبات وتهم الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل بصورة مختلفة عن النموذجين العراقي والليبي. فالنظام في طهران استفاد من ملفي ليبيا والعراق وهو عازم على المساومة والمقايضة - بعنف أو بخفة - بحسب ما تقتضيه حاجة استمرار تربع النظام الحالي على السلطة. وهذا يدعو الى تنبه وحذر كبيرين لدول المنطقة بالذات في الجيرة العراقية وفي فلسطين ولبنان وكذلك مع الحليف السوري لإيران لأن طهران ستلعب أوراقها بحنكتها المعهودة. وهذا يستلزم من الغرب، لا سيما من إدارة باراك أوباما، والرأي العام الأميركي، التمعّن في تداخل الأحداث في منطقة الشرق الأوسط وقراءة الترابط بين العقوبات والإرهاب وأسلحة الدمار الشامل في صفحات الصفقات والمقايضات والحروب الآتية. في البدء، ان غضب اهالي ضحايا طائرة «بان اميركان» في محله، اذ ان إطلاق سراح المقرحي رأفة به بقرار من وزير العدل الاسكتلندي وكيفية استقباله في طرابلس اعادا إحياء تلك الجريمة الإرهابية البشعة بغض النظر عن صفقة التعويضات. كان في وسع السلطات الليبية وعائلة القذافي ان تعقد صفقات تجارية مع بريطانيا أو اسكتلندا أو أي كان، وأن تعمل نحو الإفراج عن المقرحي إيماناً منها ببراءته، إنما من دون ان تجعل من استقباله مناسبة احتفائية إما للتمركز زعامة أو إبرازاً وتثبيتاً لمواقفها التي تزعم ان ليبيا بريئة من لوكربي. فأهالي الضحايا لا يستحقون الانتقام ل «البراءة». عبدالباسط المقرحي مدان امام العدالة بتعاون ليبي. لعله كبش الفداء ولعله الإرهابي الذي لا يستحق الرأفة به التي حظي بها وهو يقارب الموت نتيجة مرض السرطان. إنما ما لا يزال يتردد حول لوكربي هو السيناريوات التي تشير اساساً الى ايران التي ارتبط اسمها بالانتقام لطائرة إيرانية مدنية أسقطتها الصواريخ الأميركية بعملية استهدفتها عمداً. هناك سيناريوات عن شراكة ايرانية – ليبية – سورية بمشاركة من «الجبهة الشعبية – القيادة العامة» التي يرأسها احمد جبريل في تنفيذ تلك العملية. قد تتكشف لاحقاً حقائق «لوكربي» لجهة مَن ارتكب تلك الجريمة الإرهابية، ولجهة مَن أبرم صفقات الصمت والتغطية على حقيقة ما حدث ولجهة مَن أوحى بسياسة حذقة لليبيا اسفرت عن نموذج التعاون مع العدالة الدولية حفاظاً على النظام الحاكم، ثم تنفيذ الوعد بإخراج المدان من سجنه. ومرة أخرى، لعل المقرحي حقاً «صدفة» أو كبش فداء ولعله بريء حقاً كما يزعم. لعله يوماً يكشف عما يعرفه ويقول ما هي اسباب سحبه استئناف الحكم ولعله يساعد في كشف الحقائق. الأرجح انه لن يفعل، فمصالح السكوت تغلب احياناً على فوائد الإفصاح، وحكاية ليبيا ليست حصراً من نسيج محلي. إن الغرب، في هذه الحكاية، هو الشريك الكامل في صفقات الازدواجية، فلا داعي لحروب القيم المستعارة لأي من اللاعبين. إنما بالأهمية ذاتها في مسألة لوكربي هو اللامعروف – سورياً كان أم إيرانياً. وهنا تكمن اخطار التظاهر بخدمة العدالة ومخاطر الخوض السطحي في معارك «الإرهاب» الحقيقي منها والمصطنع. العراق ضحية الوقوع في حرب الإرهاب التي استدعاها الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش عندما قرر غزو العراق انتقاماً من إرهاب 11 أيلول (سبتمبر)، والإرهابيون لبوا دعوة بوش. ما فعله الإرهاب بالعراق جاء ايضاً بمساهمة محلية وطائفية وبمساهمة جيرة العراق، السورية والإيرانية كما الخليجية. سورية صدّرت الإرهاب الى العراق عندما شرّعت حدودها امام المتطوعين للانتقام من الولاياتالمتحدة الذين خاضوا معها حرب الإرهاب. وإيران صدرت الإرهاب الى العراق عندما بعثت ميليشياتها للفتك بالعراق من اجل المصالح الإيرانية. وكثير من المتطوعين في «القاعدة» وأمثالها ذهب من الدول الخليجية والأردن ليلعب دوره في حرب الإرهاب في العراق. رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي اتهم بعض دول الجوار العراقي بالوقوف وراء التفجيرات الأخيرة التي ضربت بغداد ومدناً أخرى وقتلت أكثر من مئة واستهدفت وزارات الدولة بما فيها وزارة الخارجية. حكومة المالكي بدورها متهمة بالتقصير الأمني، والمالكي بالذات لاقى الانتقادات حتى من وزير الخارجية هوشيار زيباري. وهناك معارك لافتة بين وزير الدفاع عبدالقادر العبيدي ووزير الداخلية جواد البولاني، كما ان رئيس جهاز الاستخبارات العراقية المستقيل، الجنرال محمد الشهواني يشن حملة إعلامية على المالكي ليتهمه بالسماح بتقويض المؤسسة الاستخبارية الوطنية والسماح للجواسيس الإيرانيين بالعمل بحرية واختراق المؤسسة الأمنية بلا مراقبة وبكل حرية. وفي الوقت ذاته، تم تشكيل «ائتلاف» شيعي من دون المالكي وحزب «الدعوة» مع بدء التحضير للانتخابات المزمع عقدها في كانون الثاني (يناير) المقبل. وأدى هذا التطور الى التساؤل إن كان سيؤدي الى تعميق الطائفية في العراق أم سيدفع المالكي الى تحالفات مع السنّة وربما مع الأكراد، مما يقوي مراكز العلمانية السياسية، ويضعف النفوذ الإيراني في العراق. على رغم ضعف الحالة الأمنية، فإن الانتخابات المقبلة ستُجرى وستأتي على الأرجح بوجوه جديدة الى البرلمان العراقي وبتغيير ملحوظ في الخريطة السياسية العراقية. فالشعب العراقي يريد الأمن والطمأنينة. لذلك، على الأرجح سيصوّت من اجل التغيير. القيادات العراقية من امثال آية الله السيستاني تشجع على التصويت وطنياً وليس طائفياً. والمالكي نفسه يفهم تماماً ان التغيير في الديناميكية السياسية يفرض عليه إما ان يكون مالكياً جديداً أو ان يكون في العراق رئيس وزراء جديداً، كما قال احد المطلعين على الملف العراقي. كل هذا، الى جانب التجربة العراقية الانتخابية، يضع النظام في ايران في خانة القلق. فالنظام يدرك ان هناك في العراق من يريد لجم النفوذ الإيراني، وأن هناك في إيران من يقتدي بالتجربة العراقية في ميدان الديموقراطية وينتفض في الساحة الإيرانية ضد النظام. وهنا يبرز السؤال الأهم: هل سيؤدي الوضع الراهن الى المزيد من التدخل الإيراني في العراق وإلى المغامرة من اجل تعزيز النفوذ لدرجة المغامرة بالنفوذ؟ أو هل ان النظام الإيراني واع لمعنى المزيد من اللاإستقرار في العراق وعواقبه وإفرازاته على ايران، لا سيما امام العزم الأميركي على مغادرة العراق في التاريخ المتفق عليه في 2011؟ الجمهورية الإسلامية في ايران قد يكون لها رأيان حول العراق، على نسق انقساماتها في الصراع الداخلي، إنما ما سيؤدي الى لجم ايران وكبح جماح تخريب العراق كوسيلة لاحتوائه والهيمنة عليه هو خوف الجمهورية الإسلامية الإيرانية من تفشي اللاإستقرار او التشرذم العراقي على حدودها الى درجة النيل من النظام، لا سيما ان النظام الإيراني قلق من الداخل في أعقاب طريقة تعامله مع الانتخابات الإيرانية وخائف من الخارج بسبب الملف النووي واعتزام الغرب على تعزيز العقوبات عليه للأسباب النووية وكذلك لأسباب ذات علاقة بتهمة استخدام الإرهاب في مختلف البقع، بما في ذلك في العراق ولبنان. النظام الإيراني سيصعّد بحنكة وحكمة وبحسابات مدروسة في المرحلة المقبلة، لكنه على الأرجح، لن يجرؤ على المغامرة الكبرى. وهذه فرصة لكل المعنيين ان يستفيدوا كل بما في مصلحته. العراق يستفيد لو تبنى استراتيجية الاتكال على النفس، امنياً بصورة رئيسة، ولو قرر ان السيف الذي يُسلّط عليه من جيرته الإيرانية – وكذلك السورية، جاهز ليكون ذا حدين إذا اتخذ العراقيون حقاً قرار الاستقلال واحترام الذات وبناء الدولة. فالعراق ليس معرّضاً كما ايران، لسوط العقوبات وتهمة صنع الإرهاب وتصديره والتشكيك بسعيه وراء امتلاك السلاح النووي، وبالتالي، ان ايران في وضع أسوأ على الصعيد الدولي. على الصعيد الداخلي، ان مآسي العراق وصلت الى نهاية الطريق، اما خلافات ايران فإنها في مطلع المأساة الداخلية. كذلك مقارنة مع سورية، فإن العراق ليس محطة استرضاء كما هي دمشق اليوم لأمثال فرنسا وبعض الأوروبيين والعرب وبعض الأميركيين ايضاً، إنما العراق ما زال اليوم في مقدم الاستثمارات الأميركية والدولية من اجل تعافيه وإطلاقه الى مستقبل افضل. فهو خاض معاركه وخاض العالم معاركه فيه، وفي وسعه اليوم شق طريقه بعيداً من الإرهاب والعقوبات والسلاح المحظور ولو شاء، ان العراق قادر ان يضع حدوداً لجيرته كي تكف عن محاولات تحويله مستعمرة او ساحة نفوذ، إنما عليه ان يشاء. ففي نهاية المطاف، ان إيران ما زالت في عين العاصفة وهي ما زالت لدى البعض في قفص الاتهام بتبني الإرهاب سياسياً بما في ذلك داخل العراق وفي مسألة لوكربي. سورية ايضاً ما زالت تحت الرقابة وفي الامتحان ليس فقط نحو العراق، شأنها شأن إيران، وإنما ايضاً نحو ملفات يعتبر البعض انها تدخل في خانة التورط في عمليات وفي سلسلة اغتيالات سياسية في لبنان. وطالما لم تُقفَل أبواب العدالة، لا يمكن سورية أو إيران الاسترخاء في أحضان الدفء والأمان والطمأنينة لأن الزمن يخبئ المفاجآت. وليست كل المفاجآت على نسق مفاجأة المقرحي.