يكتب الشاعر اللبناني الشاب جوزيف دعبول شعراً أكثر مما يكتب قصيدة في ديوانه الأول «البحر وردة الرؤيا» الصادر حديثاً عن دار النهضة العربية. وهذه الظاهرة تتبدّى بوضوح في هذا الديوان الذي لا يمكن وصفه ب «الأول» تبعاً لنضج التجربة التي يخوضها الشاعر خلاله. والنضج هنا يشمل الرؤية الشعرية والمعاناة والنَفَس الشعري في شكل خاص، ناهيك باللغة التي تهدر وتفيض جارفة كل السدود التي تواجهها. لكن ما يعتور هذا النضج هو التحرر من التقنية الشعرية التي لا يعيرها الشاعر كثير اهتمام. فالشعر لديه فعل حرية، لا يلتزم كثيراً المعايير البنائية بل هو يهدمها ليقدم نفسه بنفسه، شعراً طالعاً من العالم الداخلي، من اللاوعي والمخيلة والشعور العدمي بالوجود. ومن هنا يمكن القول إن جوزيف دعبول يقارب السورياليين في لعبتهم الخطرة من دون أن يأسر نفسه في إطارهم النظري أو الفلسفي. فهو سوريالي في انجراره وراء ما يسمى «الكتابة الآلية» التي أسسها أندريه بروتون، رائد الحركة السوريالية جاعلاً منها وسيلة لإنهاض الشعر من اللاوعي في ما يشبه الإملاء اللاواعي في لحظات يتحرر الفكر فيها من أي رقابة أو عائق. هكذا يتدفق الشعر من ديوان «البحر وردة الرؤيا» تدفقاً آلياً، لكنه لا يستسلم تماماً لمبدأ الكتابة الآلية، فهو مفعم بالتوترات والانفعالات النفسية والإرهافات، علاوة على الصور الغريبة الطابع والمنعتقة من أسر البلاغة الكلاسيكية والحاوية في صميمها حالاً حلمية قادرة على مزج العناصر ودمج المتناقضات. يقول جوزيف دعبول في أحد مقاطعه الشعرية الجميلة: «لكنني في مرآة كبيرة/ ذئب مسعور/ متهدل الكتفين/ يرتدي أسمالاً بالية/ عيناه جمرتان/ وشفتاه تتلمظان على اللحم العاري». الصورة هي إحدى ركائز اللعبة الشعرية في ديوان «البحر وردة الرؤيا». لكنها الصورة في انبثاقها النفسي اللاواعي وليس المجازي فقط. فهي لا تقف عند حدود التعريف البلاغي المعروف بل تتخطاه إلى حال حلمية تضيع فيها عناصر التشبيه أو الكناية وسواهما. الصورة هنا تبدو كأنها طالعة من قلب المخيلة المجروحة ومن عمق الهذيان المضبوط واللاوعي القاتم. فالعنوان هو نفسه صورة غريبة: «البحر وردة الرؤيا». وكما يقول الشاعر الفرنسي بيار ريفردي إن الصورة الشعرية لا تصبح حقيقية إلا عندما يتباعد طرفاها. والصور لدى جوزيف دعبول تصبّ في سياق هذه الجمالية الجديدة. ومن هذه الصور: «النهر يوغل في القدم وقدماي مسنونتان كاللهب»، أو «نسج غيوماً من لحمه»، أو «أنا المذبوح من الوريد/ من الشمس إلى القمر»، أو «عقلي سحابة مضيئة/ ويداي هرمتان». إلا أن الشاعر المتألم الذي يعيش مأساة الوجود لا يتمالك عن السخرية، السخرية السوداء والعبثية، السخرية الهجائية التي تطاول الحياة والموت والتاريخ والتي لا توفر الشاعر نفسه. ولعل سخريته من الشاعر كنموذج إنساني تمثل ذروة التمرّد الشعري والاحتجاج الوجودي. في قصيدة «الشاعر الذي ظن أنه شاعر» يرسم صورة طريفة للشاعر في مسلكه غير الطبيعي وهواجسه وأحلامه: «يرتدي معطفه الأزرق/ يضع على عينيه نظارتيه الزرقاوين/ يرى الورقة التي يود الكتابة عليها/ سماء زرقاء مرصّعة بالنجوم.../ ونثار قلمه الرصاص قصيدة تشكيلية». وفي القصيدة نفسها يقول: « أنا ذئب الشعر اللعين»، مذكراً ب «اللعنة» التي طالما طاردت الشعراء جاعلة منهم أشخاصاً مميزين، هدامين ومحتجين، رؤيويين ومتمردين، وفي طليعتهم الشاعر الفرنسي بودلير الذي جعل الشر يتفتق أزهاراً. هذا الشاعر يكتب أيضاً على «الغيوم البيض بعض الأغنيات» و «يتكلم كثيراً عن صمت الليل اللانهائي/ عن جرح الليل اللانهائي». ولئن بدا شعر جوزيف دعبول محفوفاً بالألم والمأساة والحزن أو الاكتئاب، ومسكوناً بهاجس «الدم» الذي أريق في الحرب والمجازر، فإنه لا يخلو من بعض اللطافات الشعرية ومن الغنائية الطالعة من بقايا الإحساس الرومنطيقي بالعالم ومن نار الحب التي لا يطفئها الزمن: «إنهضي جميلتي من رقادك، فالبيت أرق عليك، وحمائم السطوح تعزف أوركسترا عينيك البحريتين...» يقول الشاعر. وفي مقطع آخر: « ازرعيني في أوردة جسدك، حكمة صوفية عتيقة، قنديلاً يضاء بزيت أعماقك الروحية». يظل الشاعر المتألم والمكتئب، «طفل المملكة» الذي «يمشي على الضباب» و «ينسج إكليلاً من شجر الغيم». يكتب جوزيف دعبول كما يعيش، بل يعيش الشعر قبل أن يكتبه. وليس بمستغرب أن يهب الشعر من داخله، من القلب كما من المخيلة واللاوعي، فيعصف ويسرح في أفق اللغة والكلمات. ولعل ما يبقى على عاتق الشاعر هنا هو أن يعمد إلى ضبط هذا الشعر الهادر وإخضاعه لرقابة لغوية وتقنية، وغربلته مما يحمل من غبار وأوراق أو حجارة، كي يتجلى بجوهره النقي وأصدافه اللامعة.