في السابع من ايلول سبتمبر الحالي وقبل منتصف الليل بقليل خطف الموت سميرة بليل المناضلة والمربية في الضواحي العمالية وصاحبة الكتاب الشهادة والاتهام "في جحيم المنعطفات" الذي اثار ضجة واسعة لدى صدوره منذ حوالى العامين واصبحت مؤلفته رمزاً لتعرية العنف الجسدي والاغتصاب اللذين تتعرض لهما فتيات الضواحي العمالية في باريس. في اليوم التالي سار موكب يضم نحو الف شخص بملابس بيضاء اللون، متوجهاً نحو مقبرة المشاهير في ضاحية بيرلاشيز حيث دفنت ابنة الجزائر سميرة بليل بالقرب من كبار المشاهير في فرنسا والعالم من رجالات الادب والفن والسياسة، وهو تقدير واعتراف بشجاعة الراحلة بليل. رافقت الموكب شخصيات سياسية وادبية مرموقة اضافة الى وزيرة التضامن والشؤون النسائية في فرنسا نيكول اولين ونائبة رئيس بلدية باريس آن هيدالغو ومجموعة كبيرة من رفيقات الدرب في جمعية "لا عاهرات ولا خاضعات" وفتيات كثيرات سبق وتعرفن اليها، واتخذن منها رمزاً للتمرد على الوضع المأسوي في المجمعات العمالية الباريسية والخروج من سلطة الشارع نحو حياة افضل. عاشت سميرة حياتها القصيرة التي بدأت باضطهاد وعنف داخل المنزل ثم خارجه، وفي منعطفات المدينة العمالية حيث عاشت وعرفت اهانات الاغتصاب والعنف الجنسي والابتزاز والتهديد والصمت الكامل لما حدث ويحدث. لكنها خوفاً، تمرداً او يأساً تقدمت بشكوى ضد عمليات الاغتصاب معربة عن استعدادها للشهادة امام المحكمة ضد مغتصبها وادخاله السجن على رغم خوفها الكبير من الانتقام. وبعد حياة تشرد وعنف وتعاطي مخدرات والنوم في الازقة ومرافقة عصابات صغيرة، ثم تلقي علاج جسدي ونفسي في عدد من مستشفيات الامراض النفسية، خرجت سميرة من هذا الجحيم عبر الكتابة. وقبل موتها بعامين اصدرت احدى دور النشر المعروفة كتابها الشهادة والاتهام لمجتمع ذكوري لا يرحم، وكسرت بذلك جدار الصمت للمرة الاولى في فرنسا على عمليات الاغتصاب والعنف، وعلى حالة الرعب التي تعيشها فتيات المجمعات الشعبية في الضواحي وتزيح في الوقت ذاته الستار عن العقلية الخاصة بالعصابات المحلية الصغيرة التي تتشكل في البداية لدوافع اللهو والتسلي وتنتهي بالانحراف والانحلال الاخلاقيين والاعتراف بسلطة الاقوى. ومن خلال كتابها "في جحيم المنعطفات" فتحت بليل نافذة امل امام اعداد كبيرة من الفتيات خصوصاً صغيرات السن، عن امكان الخلاص والخروج من سلطة هذا المجتمع نحو مستقبل افضل. كما قدمت ايضاً لكل واحدة منهن عوناً كبيراً وسنداً يعتمد عليه من خلال مشاركتها الفعالة منذ تأسيس جمعية "لا عاهرات ولا خاضعات" الناطقة باسم فتيات الضواحي الشعبية وامضت سميرة ساعات على جهاز الهاتف تحادث الفتيات، مسدية النصح ومعها رقم هاتفها الخاص واستعدادها للرد على المكالمات في اي وقت خصوصاً في حالات اليأس التي تسيطر على الفتيات بعد عمليات الاغتصاب او العنف. مثال للتمرد والامل قد نتساءل عن السبب الذي خصت به الدولة الفرنسية تلك الفتاة العربية الاصل، باهتمامها الكبير، اولاً من حيث اختيارها المقبرة، وثانياً من حيث تمثيل السلطات الرسمية اثناء التشييع والكلمات التي حيت شجاعة سميرة والتزامها باسم هيئات واحزاب سياسية فرنسية وسواها، وثالثاً الاهتمام الاعلامي الواضح في اهم الجرائد ووسائل الاعلام الفرنسية، ويعود السبب على الارجح الى مشكلة العنف في مجمعات الضواحي الشعبية الذي تحاول السلطات الحد منه من خلال التوصل الى حلول لمشاكل البطالة. وطرحت مسألة العنف الجنسي والبحث عن حلول لايقاف انتشارها بشكل سريع وفعال، منذ حوالى السنتين عندما حرقت فتاة وهي حيّة لرفضها تحرشات احد الشباب والخروج معه. وجرت تظاهرات عدة آنذاك مطالبة السلطات الرسمية القضاء على عصابات الاحياء هذه ووضع حد لعمليات الاغتصاب والاعتداءات. واستغلت مجموعة من السيدات والشابات القاطنات في هذه المجمعات الشعبية في مناسبة يوم المرأة العالمي، لتنظيم تظاهرة ضخمة ظهر فيها للمرة الاولى شعار اسم الجمعية المذكورة آنفاً، والتي انتمت اليها سميرة بليل لاحقاً. وكانت قد اصدرت كتابها منذ اشهر قليلة وبعد ايام من حرق الشابة سوهان، واثر هذه التظاهرة التقى رئيس الوزراء الفرنسي جان بيار رافاران بعض المسؤولات عن الجمعية وعدهن بتقديم المساعدة والقيام بالاجراءات اللازمة للحد من عمليات العنف في الضواحي الشعبية. من هنا أتى الاهتمام الكبير بسميرة بليل، التي كشفت اسم مغتصبها، وهو أحد زعماء عصابات الضواحي. تبنت الدولة الفرنسية سميرة الرمز والمثال والمناضلة واتخذت منها سلاحاً ذا حدين، لمساعدة الفتيات والوقوف ضد العصابات المحلية. اما المعركة التي خاضتها سميرة على مدى سنوات، فكانت بداية ثورة اجتماعية يجب ألا تهمد، حسب قول نائبة رئيس بلدية باريس والتي التقت سميرة مرات عدة. ولدت سميرة بليل في 24 تشرين الثاني نوفمبر 1972 في الجزائر، وحتى الخامسة عاشت في حضانة عائلة بلجيكية، ثم التحقت بوالدها الذي يعمل في مصنع للكرتون المقوى وأمها التي تعمل في الخدمات المنزلية القاطنين في ضاحية سان دوني الشعبية. وفي الرابعة عشرة من العمر عام 1987، لم تعد تتحمل عنف الوالد الذي سبق وعرف السجن، ولا تجاهل الأم وخضوعها لهذا العنف، فهربت من البيت للمرة الأولى ثم عادت اليه، لكنها كررت عمليات الهروب لاحقاً، الأمر الذي أسبغت عليها سمعة الفتاة المتحررة وبمعنى آخر، أي بالمفهوم العام هناك، الفتاة السهلة التي تقبل بكل شيء. وعرفت سميرة الخيانة الأولى في حياتها ولم تفهمها جيداً في البداية، وذلك عندما وافق رفيقها، من دون علمها، تقديمها الى شاب آخر بارز في عصابات الحي الصغيرة. وقام هذا الأخير باغتصابها للمرة الاولى ثم اعتذر منها وراح يلاطفها، فاكتفت بالصمت ولم تعرف ماذا تفعل. لكنه عندما أقدم على اغتصابها ثانية، أدركت ما ينتظرها، فثارت وأسرعت بتقديم شكوى بعدما طرحت قضيتها في دائرة الشرطة وأكدت استعدادها للشهادة ضد من اغتصبها ومن يقف معه وشرح ما يحدث في الحي. لكن المحامية التي ترافعت عنها، مجاناً، نسيت ابلاغها بموعد المحاكمة ولم تستطع الشهادة، فكان ان حكم على مغتصبها بالسجن ثماني سنوات فقط. وفي الحي حيث تسكن، أصبحت سميرة نكرة، فهي الواشية التي كسرت حاجز الصمت وسلمت شاباً من زعامات العصابات المحلية الى العدالة. كما سربلت نفسها وعائلتها بالعار فكان عليها التزام الصمت. ولم يسامحها أحد على ما فعلت، ولم تفهم والدتها السبب الذي دفع بابنتها الى الشكوى. وتبرأ منها الجميع وابتعدوا عنها. فقررت اتباع سياسة البقاء في الظل خوفاً من الانتقام والكلام القاسي الذي يرميها به الجميع. وأصبحت الحياة مستحيلة حتى في المنزل، فغادرته بحثاً عن عمل والعيش منه، ولم يكن الأمر سهلاً على شابة وجميلة. فدخلت من دون أن تشعر في حياة الشارع المليئة بالعنف والسرقات، والتنقل من مأوى عام الى آخر، كما تنقلت من عمل بسيط الى آخر. ومع هذه الحياة القاسية عرفت كل أنواع عنف الشارع وتجارة الجنس والمخدرات والنوم في الأزقة. وبعد اصابتها بحالة صرع، تم نقلها الى المستشفى، وخرجت منه لتعود اليه مرات عدة، وانتهت أخيراً في احد المستشفيات الخاصة بالانهيارات العصبية، حيث تم علاجها كما يجب. وبعد انتهاء العلاج شرعت سميرة في الكتابة تخلصاً من الغضب والحقد والتمرد والعنف التي تشعر بها تجاه العالم. وضعت ثورتها في كتاب وعبرت فيه عن نظرتها وموقفها من المشاكل والأحداث التي هدمت حياتها. وسردت فيه قصة حياتها وأحلامها في الخروج من جحيم المجتمع في الأحياء الشعبية والسعي نحو مستقبل أفضل. كل هذا أعطى ثماراً، لأنها لم تلعب دور الضحية البريئة. لقد اتهمت نفسها كما اتهمت الآخرين، وشرحت الأسباب. وأكدت انها على استعداد لادانة مغتصبها وادخاله السجن مرة أخرى حتى ولو دفع حسب القانون دينه الى المجتمع، وكانت سميرة ممن يخافون صعود موجة التعصب واستغلال الدين لاغراض سياسية. وفي المحاضرات واللقاءات الكثيرة التي قامت بها خلال الأعوام القليلة الماضية، أكدت انه لا يجب القاء تهمة الانحراف على شبان الأحياء الشعبية، فمنهم فئة تقوم بالكثير من المبادرات في تحسين مستقبلهم، وليس صحيحاً ان كل شاب في تلك المناطق هو سيء الأخلاق ويغتصب الفتيات. وعملت سميرة مربية اجتماعية في ضاحية شعبية قبل أن تصاب بمرض السرطان وتنتهي حياتها بسرعة وهي لم تزل في الثانية والثلاثين من عمرها