في الوقت الذي يسجّل فيه واقع المرأة تطوراً ملموساً في شتى المجالات، لم تزل هذه الأخيرة عرضة لأعمال عنف جسدية ومعنوية. وتحولت مشكلة العنف هذه إلى قضية عامة نوّه بها أكثر من رجل سياسي ودانها الرئيس الفرنسي جاك شيراك بحدة متوجاً يوم الثامن من آذار مارس لهذا العام، يوم ادانة ومحاربة كل أنواع العنف التي تواجهها المرأة في فرنسا، مؤكداً "أن العنف الذي يُمارس ضد المرأة، جسدياً كان أم معنوياً، هو أمر لا نتقبله وندينه بشدة وقساوة". والواقع ان المرأة في فرنسا تعاني من العنف، خصوصاً في الأحياء الشعبية حيث توجد الطبقة العاملة وغالبيتها من المهاجرين القادمين من المغرب العربي وافريقيا. ونحن إذ نتطرق إلى هذه المشكلة الحساسة، إنما نفتح جراحات قديمة خبأتها امرأة الجيل الثاني للمهاجرات، خوفاً من الفضيحة والثأر. لكن ما خبأته المهاجرة سراً، انتقل وبقوة أكبر اليوم إلى المراهقات اللواتي وُلدن ونشأن في فرنسا ودخلن المدارس الرسمية والجامعات فيها، ثم قرّرن فضح الأسرار وإعلان الحرب ضد العنف والاضطهاد. من يتحمل مسؤولية هذا العنف؟ المجتمع أم التقاليد العائلية الموروثة لمجتمع المهاجرين؟ وأين هي الدولة من كل هذا؟ لنبدأ بالتربية ولنتسلل إلى حياة عائلة مهاجرة، لنرى أن التقاليد الطبيعية التي تبدو ممارستها أمراً بديهياً في البلد الأم، تتحول هنا في مجتمع مختلط عربي أو افريقي، فرنسي إلى مفهوم خاطئ يستغله الشاب المراهق وتتحمل المراهقة نتيجته السلبية مع الطفولة الأولى. صغيرة، حددوا خطواتها: من البيت إلى المدرسة ومن المدرسة إلى البيت. ألعابها: عروس ترتدي فستاناً زهري اللون وبضعة صحون بلاستيكية. صبيّة شابة تركوها تواصل الدراسة بانتظار العريس المناسب. أما الممنوعات فازدادت: ممنوع عليها الخروج للتسلية إلا برفقة الأخ أو للقيام بنشاطات تابعة للمدرسة، كالمسابقات الرياضية والمسرحيات وزيارة المتاحف وغيرها. وإذا تعدّت الحدود المرسومة لها من قبل الأب والأخ، وأحياناً العم وابن العم، فيجدون لها زوجاً مناسباً، وحظها كبير إذا كان العريس يقيم ويعمل في فرنسا، وغالباً ما تنتهي الزيجات هذه بالطلاق. والجدير بالذكر، ان عدداً كبيراً من الفتيات المهاجرات يقبلن بالزواج المبكر هذا، إذا كان العريس يقيم في فرنسا، وذلك هرباً من الضغوطات العائلية. لنعود قليلاً إلى الوراء وندخل جانباً من الحياة والعادات اليومية التي يعيشها بتقاليدها، كل بيت مغاربي أو افريقي مهاجر. إنها عادات يومية بسيطة، لكنها تلعب دوراً كبيراً في التربية، بتفريقها بين الطفل الذكر والانثى ونظرة الأهل إليهما منذ الطفولة الأولى. في الساعات الأولى للولادة، يبحث الأهل في المولودة الأنثى عن الملامح الجميلة واتساع العينين واستدارة الوجه ولون البشرة. وفي المولود الذكر عن بنيته المتينة وحجم رأسه ونظرة عينيه واتساع كتفيه. ثم تأتي قصة البكاء للمولود الحديث، فصراخ الصبي هو تعبير عن الغضب لأن أمه لم ترضعه في الوقت اللازم، أما صراخ الفتاة فهو نتيجة ألم أو غنج ودلال كي نهتم بها. بكلمة واحدة: هو يصرخ غاضباً لأنه جائع وهي تصرخ ألماً لأنها جائعة! سلفاً تصنف الفتاة في خانة الضعف والحاجة إلى حماية، وخلال سنوات الدراسة الأولى، يستمر التفريق في تربية الأطفال. عندما ينال الصبي علامات سيئة ويفشل في استيعاب دروسه، يعود السبب كونه كثير الحركة لأنه ذو حيوية كبيرة فلا يهدأ أو هو بالطبع كثير الذكاء فقط لو ينتبه قليلاً في المدرسة. أما الفتاة التي تنال علامة سيئة ولو في مادة واحدة فقط، فهي مسكينة تقوم بجهد كبير، لكنها قليلة الذكاء وعقلها صغير فهي انثى. وكثيرات من الفتيات اعتبرن أنفسهن قليلات الذكاء حتى في ما بعد سن المراهقة، وبعضهن لم يستعدن الثقة بالنفس إلا في سنوات النضج. تقاليد الجيل الأول نتحدث هنا عن الجيل الجديد للمرأة والفتاة المهاجرة، مغاربية كانت أم افريقية. هذا الجيل الذي وُلد وشبّ في بلد الهجرة، ولم يستطع بعد، التخلص من قيود التقاليد والعادات التي تكبله وتشل تطوره الفعلي، فهذا الجيل لم يصنع العنف ولم يتقبله، لكن العنف أتاه من جيل الشباب الذكور نفسه، والذي يعاني بدوره وبطريقة مختلفة من تقاليد ورثها وفسرها على هواه وسخرها لعنف ترفضه التقاليد الموروثة اياها، والتي هاجرت مع المهاجرين الأوائل وترسخت جذورها مع الزمن في بلاد الهجرة حيث تحولت إلى درع واقٍ يحمي الجيل المهاجر، من الانخراط الكلي والانصهار في حضارة وتقاليد ينكرها مجتمعه الأصلي. أول ما سعت إليه المهاجرة هو تحقيق مكانتها في عائلتها ومجتمعها المحلي. هذه المكانة تعني احترامها وتقديرها. في المقابل، عليها دفع ثمن احترامها غالياً، ولتحقيقه يجب القبول ببقائها في مكانها الطبيعي أسوة بجدتها وأمها من قبل، أي أن تكون فقط زوجة وأماً واختاً تسهر على راحة جميع أفراد العائلة. وما قبلت به المهاجرة الأولى، رفضه الجيل الحالي. رفضت فتاة اليوم الاحترام المقدم لها على طبق من التبعية والخضوع، حتى في حال عملها في الخارج ومساعدتها المادية للعائلة. ونادراً ما استطاعت الفتاة المغربية أو الافريقية المهاجرة كسر مفهوم التقاليد، إلا عن طريق الزواج، أي الهروب من المنزل الأبوي. ويزداد عدم المساواة حدة وتضييق الحصار على حرية المرأة المهاجرة في الأوضاع الاقتصادية الحالية ونسبة البطالة العالية المتفشية في أوساط المهاجرين. بالطبع لا يمكن أن تنتج التقاليد والتربية وحدها هذا العنف الذي تعاني منه الشابة المهاجرة، عنف وصل في الأشهر الأخيرة إلى ذروته وانتهى بموت صبية حرقاً في إحدى ضواحي باريس العمالية، على يد مجموعة من المراهقين. التربية والتقاليد لا تكفي لإنتاج العنف، علينا أن ننظر إلى المجتمع والمحيط الذي يعيش فيه أبناء المهاجرين… وإلى الأحياء الشعبية بمبانيها المعلبة، وقبل كل شيء إلى غياب سياسة اجتماعية تستوعب مشاكل المراهق، وتقدم له حلولاً للفشل الدراسي الذي يبعده عن مقاعد الدراسة ويرميه في الشارع حيث الفراغ والملل والرفقة السيئة. للمرة الأولى استجمعت الشابات المهاجرات شجاعة كبيرة، وتظاهرن ضد العنف والاضطهاد اللذين تتعرض لهما المرأة بشكل عام. معهن ويداً بيد سارت الأمهات المهاجرات يساندن الفتيات وينادين: لا للعنف… لا للخضوع والاضطهاد وعود واحصاءات أعلنت نيكول اميلين، الوزيرة المكلفة ملف المساواة بين الرجل والمرأة في ميدان العمل، عن انشاء لجنة وطنية للمساواة، وأكدت التزامها بالدفاع عن حقوق المرأة ومقاومة كافة أنواع العنف التي تواجهها. سيتم انشاء لجان تهتم بإعانة ومساعدة المرأة التي تتعرض للعنف أو لمن هي بحاجة إلى أي نوع من المساعدة. إضافة إلى تأمين رعاية سيكولوجية في مخافر الشرطة. كما ستقوم الدولة الفرنسية بنشر كتاب يتحدث عن الاحترام بشكل عام واحترام المرأة خصوصاً. أخيراً تدل الاحصائية الوطنية الوحيدة عن أعمال العنف والاغتصاب التي تمت في فرنسا عام 2001 ان هناك امرأة واحدة من كل 10 تعرضت لأعمال عنف جسدي من قبل زوجها. وان 12 في المئة من مجموع النساء تعرضن لعملية اغتصاب قبل عمر العشرين سنة. أما مجموع عدد عمليات الاغتصاب فهو يقارب المئة ألف، وقد رفعت 8700 امرأة فقط دعوى ضد المغتصب. الأم العراقية ماذا يبقى في الذاكرة مع مرور السنوات؟ سؤال طرحته بكل أنانية على نفسي، كي أهرب من أخبار وصور الحرب على العراق التي احتلت غرف البيت وسكانه. فتحت النافذة على ذاكرتي، دخلت تلافيفها ورحت أبحث في الأعماق. قلت في نفسي: من دون شك سأنتصر على أخبار الحرب، من دون شك ستعود بي ذاكرتي إلى لحظات فرح وسعادة، إلى طفولتي وصوت أمي وألعابي، ثم حبي الأول وأمومتي الأولى وأول كلمة لفظتها ابنتي. هنا غصّ قلبي ودمعت عيناي. كلمة ابنتي الأولى كان صوتاً يشابه صوت اطلاق الرصاص، كان كلاماً يحمل كل معاني الحروب لطفلة، كلمة ابنتي الأولى في زمن الحروب، لم تكن ماما أو بابا، بل طع… طع… طع…. خذلتني ذاكرتي السعيدة، وكأنها ترفض التواطؤ مع هناء مزيف لهروب من الواقع. والواقع اليوم هو حرب العراق، أي الموت لشعب يرغب في الحياة. خانتني ذاكرتي الفرحة. اعتذرت منها وعدت أفتش بكل شجاعة في ذاكرة حاولت وأردت بكل قوة نسيان تفاصيلها. عدتُ مرغمة إلى التواريخ التي تعيش في ذاكرتنا حتى نهاية العمر. هذه التواريخ لا نتعلمها ونحفظها غيباً، ولم تذكرها كتب التاريخ. هي ليست سوى تراكم للحظات معينة وفي وقت معين لفرح كبير أو لحزن كبير أو لغضب وخوف ورعب كبير. وفوجئت برائحة البارود والموت والدمار التي تعشش في ذاكرتي. ذاكرتي مليئة بالدماء. بحثت عن الموت البسيط، الهادئ على فراش، على الموت الآتي في وقته لأن زيت قنديل الحياة قد نفد. هذا الموت لم أجده، ولم أجد في تلك الذاكرة إلا الموت قتلاً: حروب أهلية وقتل على الهوية. جثث مشوهة وأجساد ممزقة. قصف وقصف مضاد. رائحة الملاجئ ورائحة الشوارع المقفرة والمليئة بالدمار. أطفال يبكون ونساء يبكين وحزن جماعي يعم البلاد العربية. شكراً لذاكرتي فقد أعادتني إلى دنيا الواقع. تربعتُ في حزني ورحت اتساءل: ماذا سيبقى في ذاكرة المرأة العراقية؟ تلك التي أرغمتها الحرب على الولادة المسبقة خبر يؤكد، ان أكثر من امرأة عراقية حامل في شهرها الأخير، قررت الولادة المسبقة خوفاً من الولادة المفاجئة اثناء عمليات القصف، ثم ماذا سيبقى في ذاكرة أطفال العراق، وماذا ستكون الكلمة الأولى لطفل عراقي في الشهور الأولى لحياته؟ قد ننسى يوماً تاريخ سعادة ما، وقد نهرب يوماً إلى ذكرى لحظات فرح. لكن ما من سعادة ولا من فرح يستطيع أن يمحو من ذاكرتنا تواريخ القهر والحزن. أنحني أمام ألم الأم العراقية وحزنها، وأفهم اليوم أكثر لماذا نجد هذا الحزن في الأغنية العراقية. افتح ذاكرتي على شريط الحزن العربي وأغني معها أغاني عراقية.