ليست رواية فضيلة الفاروق -"تاء الخجل"- رواية عن امرأة واحدة تؤدي دور الراوي - البطل، أو تغدو قناعاً للمؤلفة المتخفية وراءه، وإنما هي - قبل ذلك وبعده - رواية امرأة تنوب عن بنات جنسها، فتغدو موازاة رمزية لمعاناة أشكال من القمع الواقع على المرأة العربية. وتتبلور مأساة بطلة الرواية في علاقتها - بصفتها صحافية وكاتبة - بضحايا الإرهاب من الفتيات اللاتي اختطفتهن مجموعة أحالت - مثل غيرها - الدين السمح الحنيف إلى تأويلات شيطانية وتفسيرات حيوانية، لا مكان فيها إلا للشر والعداء الغريزي - والانجذاب الجنسي - للمرأة. ولذلك تصوغ الرواية مسيرة بطلتها كما لو كانت مسيرة مفرد يشير إلى الجمع، وتصل ما بين مصيرها ومصير الضحايا اللاتي وجدتهن في المستشفى الجامعي، حين ذهبت لتعد تحقيقاً عنهن، فاقتربت منهن، واقتربن منها، وأتحن لها تقديم شهادات دامية عما عانته المرأة الجزائرية على أيدي زبانية الإرهاب وأمرائه. والبداية هي الميراث المعادي والمزدري للمرأة الذي ينطوي عليه هؤلاء الزبانية، والذي يرجع إلى أصول شائهة، تولدت في أزمنة التخلف والانحدار من الماضي العربي - الإسلامي. هذا الميراث المعادي للمرأة ينبني على أقاويل مأثورة وأحاديث مكذوبة من قبيل:"إنما المرأة خُلقت من ضلع عوجاء، فإن تحرص على إقامتها تكسرها، فدارها تعش بها"وپ"إن أكثركن حطب جهنم"وپ"إنكن أهل النار"وپ"المرأة عورة"وپ"ناقصة عقل ودين"وپ"الشؤم في ثلاثة: في المسكن، والفرس، والمرأة"وپ"ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"و"إياكم وخضراء الدمن"و"أكثر ذنوب أهل الجنة في النساء"و"ما يئس الشيطان من ولي قط إلا أتاه من قبل النساء"و"لا تسكنوا نساءكم العلالي، ولا تعلموهن الكتابة"وپ"أكثروا لهن من قول: لا، فإن نعم تغريهن على المسألة". ونسب إلى ابن المقفع قوله:"إياك ومشاورة النساء، فإن رأيهن إلى أفن ضعف الرأي وغياب العقل وعزمهن إلى وهن، واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن، فإن شدة الحجاب خير لك من الارتياب". هذه الأقاويل - وغيرها أكثر منها - ظلت تنخر في جسد الحضارة العربية الإسلامية في أزمنة انحدارها، وتشيع وعياً معادياً للمرأة، واتهاماً لحضورها الأنثوي بوجه عام، وانتقلت هذه الأقاويل من المظان الدينية إلى المظان الشعبية، مؤسسة لميراث اجتماعي قمعي، ميراث يختزل المرأة في جسدها، ويختزل جسدها في حضور حيواني لا بد من قمعه وإلجامه وإخفائه. ولم يكن من قبيل المصادفة - والأمر كذلك - أن تستهل"ألف ليلة وليلة"سردها بأبيات من مثل: "لا تأمنن إلى النساء ولا تثق بعهودهن فرضاؤهن وسخطهن معلق بفروجهن يبدين وُدَّاً كاذباً والغدرُ حشوُ ثيابهن بحديث يوسف فاعتبر متحذراً من كيدهن أوَ مَا ترى إبليس أخرج دما من أجلهن ولا يخلو هذا الميراث من كبت جنسي في تقديري، ومن ثم بذرة عنف كامنة كالقنابل القابلة للانفجار عند أي مثير أو منبّه. وقد ظلت بذرة العنف هذه متواصلة عبر الأجيال، منتشرة في البيئات الشعبية الأمية أكثر منها في البيئات التي أتاح لها التعليم - خصوصاً الحديث - نظرة أكثر رحابة إلى المرأة، وإن كانت لم تخل تماماً من الموروثات السلبية المتغلغلة في الوعي الجمعي. والنتيجه هي أن تاء التأنيث أصبحت"تاء الخجل"، وأن الأنثى - في ما تفتتح به فضيلة الفاروق روايتها - محكوم عليها حتى من قبل أن تولد باللعنة المتوارثة والنظرة المستريبة، منذ العائلة، ومنذ المدرسة، ومنذ التقاليد، كل شيء عنهن تاء للخجل، منذ أسمائهن التي تتعثر عند آخر حرف، ومنذ العبوس الذي يستقبلهن عند الولادة، ومنذ الجدة التي ظلت مشلولة نصف قرن من الزمن إثر الضرب المبرح الذي تعرضت له من أخي زوجها وصفقت له القبيلة، وأغمض القانون عنه عينيه. بعبارة أخرى، منذ الجواري والحريم، والحروب التي تقوم من أجل مزيد من السبايا، إلى الحاضر الذي لم يتغير فيه شيء سوى تنوع وسائل القمع وانتهاك كرامة النساء. ولذلك تهرب بطلة"تاء الخجل"من أنوثتها، وتهرب ممن تحب لأنه علامة على تلك الأنوثة، وتظل على نقيض من رجال العائلة، منطوية على نفورها الذي يتزايد مع الوقت. وحتى عندما تميل إلى الكتابة فهي تكتب بدافع لا يخلو من أقوال جي كار الذي ذهب إلى أن المرأة تعشق السرد لأنها تقاوم به صمت الوحدة. ولذلك مالت إلى صخب الكتابة الذي يكسر قضبان الداخل التي انطوت عليها ويجعلها تنضم إلى الكاتبات اللائي ينادين بالحياة. وكما كانت شهرزاد تواجه التراث المتراكم المعادي للأنثى، والذي انفجر مع عنف شهريار بالقص الذي كان انتزاعاً للحياة من براثن الموت، تقاوم بطلة فضيلة الفاروق العنف الذي استند إلى تبريرات دينية زائفة، وتنتزع الأمل بالسرد الذي يعني قدرة المقاومة وحيوية مبدأ الرغبة الذي يتمرد على شروط الضرورة. والمقاومة تبدأ بالكتابة التي ترصد فظائع التطرف الديني الذي كانت أكثرية ضحاياه من النساء اللائي عانين قمعاً مضاعفاً بسبب الميراث الاجتماعي المنحاز ضدهن، والتأويلات الدينية الشائهة التي جعلت منهن حبائل الشيطان. ولذلك أصبحن منطقة جذب لزبانية التطرف الديني وأمراء الإرهاب الذين أضافوا أضعافاً مضاعفة إلى العنف الذي أنتجته البيئة الجبلية القاسية التي نشأت فيها البطلة، البيئة التي تترصد الحب بعيون الريبة، والأصدقاء الذين يعلنون رفضهم لعلاقة الحب الوليدة بين البطلة وحبها الأول الذي سرعان ما ينتهي، ولا تبقى منه سوى ذكرى حلم عذب، لم يتحقق ولم يصمد في مواجهة الظروف المعادية. وتلجأ فضيلة الفاروق إلى التوثيق لتؤكد ما جرى للمرأة الجزائرية من خطف واغتصاب أصبحا استراتيجية حربية. وتنقل إعلان الجماعات الإسلامية المسلحة في أحد بياناتها الذي يؤكد ضرورة قتل أمهات وأخوات وبنات الزنادقة اللواتي يقطنّ تحت سقف بيوتهن أو يمنحن المأوى لهؤلاء، وتتضارب أرقام الضحايا، لكنها تظل تلفت الانتباه وتوجع الوعي بحجمها الذي يفوق خمسة آلاف حالة في أقل من ثلاث سنوات، ما بين 1994 و 1997 . ولا يتردد أمراء الإرهاب بإصدار الفتاوى التي تبيح سبي نساء المسلمين المخالفين، بوصفهن نساء كفار خارجين على الملة، تحل أموالهم ونساؤهم لأولئك الذين احتكروا الإسلام، وكفَّروا كل مختلف عنهم أو معهم أو مغاير لهم. والنتيجة هي هذه الفتوى المرعبة في استرقاق السبايا، وتنظيم العلاقة الجنسية بينهن والمجاهدين الذين افتروا على الإسلام، واغتصبوا باسمه الحياة والشرف. ووحدهن المغتصبات يعرفن معنى انتهاك الجسد، وانتهاك الذات، ووصمة العار، والانتحار الذي لا بد من أن يعقب ذلك خوفاً من القتل على أيدي الأهل، ووحدهن عرفن الفتاوى التي أباحت الاغتصاب للسبايا المخطوفات اللائي يغدو مصير كل منهن مرهوناً بمشيئة الأمير التي لا ترد: "الأمير هو الذي يهديها. لا يقبّلها إلا من أهديت له، وبإذن من الأمير. لا تجرَّد من الثياب أمام الإخوة. لا يجوز النظر إليها بشهوة. لا تُضرب من الإخوة، بل ممن أُهديت له، فعليه أن يفعل بها ما يشاء في حدود الشرع. إذا كانت سبية وأمها. دخلت على أمها، فلا يجوز أن تدخل على ابنتها. إذا وطأها الأول فلا يجوز وطؤها إلا بعد أن تستبرئ بحيضة، وتجوز المداعبة مع الغزل. إذا كان الأب وابنه لا يجوز الدخول على نفس السبية. إذا كانت سبية وأختها، لا يجوز الجمع بينهما مع مجاهد واحد". وقد حرصت على نقل الفتوى كاملة من الوثائق التي استعانت بها فضيلة الفاروق في روايتها تأكيداً للعنف الوحشي الذي مورس على السبايا من الفتيات والنساء اللاتي اختطفن واغتصبن، وأجبرن على ممارسة كل ما يدمر الروح قبل انتهاك الجسد. ولذلك تحكي واحدة من السبايا المحررات قائلة بلغتها المباشرة إلى بطلة الرواية - الكاتبة الصحافية: "هل تعرفين ماذا يفعلون بنا؟ إنهم يأتون كل مساء ويرغموننا على ممارسة العيب. وحين نلد يقتلون المواليد، ونحن نصرخ ونبكي ونتألم وهم يمارسون معنا العيب، نستنجد، نتوسلهم، نقبّل أرجلهم ألا يفعلوا ذلك ولكنهم لا يبالون". وتحكي بطلة"تاء الخجل"- من حيث هي كاتبة وصحافية - تجارب عدد من الفتيات الضحايا اللواتي لقيتهن في المستشفى الجامعي، بعد تحريرهن، حين طلب منها رئيس التحرير أن تكتب عنهن، وعما لاقينه على أيدي زبانية الظلام. وكن ثماني فتيات، قُتلت منهن واحدة، ذبحاً، لأنها رفضت الرضوخ للأمير. وكانت قريبة راوية التي انتهى بها الأمر إلى الجنون بسبب ما عانته وشاهدته. وكانت إحدى البنات مثلها في الوعي بوقع ما جرى على جسدهن وأرواحهن، وقد حملت سفاحاً، وطلبت من طبيب المستشفى أن تُجرى لها عملية إجهاض، ورفض الطبيب لأنه لا يملك الصلاحيات، فالقانون يمنعه، والروتين الحكومي الفاسد يعوقه، فينتهي الأمر بالفتاة إلى الانتحار، خصوصاً أنها لا يمكن أن تعود إلى أسرتها، أو تقبلها أسرتها، وهي مثلومة الشرف؟! أما أكثر الشهادات وجعاً فهي شهادة يمينة. وهي الفتاة التي تنتسب إلى موطن البطلة - الراوية، وتفرح بها لأنها كانت تحلم - سدى - بزيارة أحد من أهلها، وكان أبوها أنكر أن له ابنة حين علم بعودتها للمرة الأولى، ورفض استقبالها في حال خروجها من المستشفى، حفاظاً على شرف الأسرة المزعوم. وتحكي يمينة للبطلة ما جرى لها، أثناء معاناتها من النزيف الحاد بسبب الإجهاض الوحشي الذي تعرضت له، والذي مزّق أحشاءها، ونعرف من الحكي أنها كانت في الرابعة عشرة من عمرها عندما أخرجها أبوها من المدرسة، ولم يقبل أن تدخل الثانوية ذات النظام الداخلي، فالبنات لا يغتربن عن منزل الأسرة حتى ولو كان طلب العلم هو المبرر. ولكن سرعان ما جاء الإرهابيون، وأحاطوا بالأسرة، وأخذوا الفتاة، غير عابئين بالأم التي توسّلت إليهم، وقبَّلت أرجلهم، فضربها أحدهم بكعب بندقية على رأسها، وسقطت مغشياً عليها. وحين تدخّل الأب، قال له أحدهم:"ابنك التحق بالطاغوت الجيش وهذا جزاؤك لأنك تركته"، ودافع الأب بأن ذلك بسبب الفقر فبصق عليه ابن أحد الجيران الذي انضم إلى جماعات التكفير، وأخذوا معهم يمينة التي كان عليها أن تُغتصب، وتُجهض، وتُعاني من النزيف الذي أودى بحياتها في النهاية، ودفع البطلة التي تعاطفت معها واتّحدت بمشاعرها إلى أن تقرر مغادرة الوطن الذي تحوّل إلى مقبرة، خصوصاً بعد أن أدركت بوعيها الموجع أن الخطف والاغتصاب أصبحا استراتيجية حربية منذ 1995 وأداة للصراع الدموي بين الجماعات الإسلامية المسلحة والمجتمع الأعزل. ولكن لم يخل قرار الخروج والرحيل من معنى الاحتجاج الذي انطوى على ضرورة فضح ما جرى ونشر الشهادات الموجعة لما حصل. وقد فعلت فضيلة الفاروق ما حلمت بطلتها بأن تفعله فلم تسكت على ما حدث، وانضمت إلى أمثال خالدة مسعودي المناضلة النسوية الجزائرية التي أصدرت - بالفرنسية - كتاباً عنوانه: "امرأة واقفة". ولكننا - بعد أن ننتهي من قراءة شهادات فضيلة الفاروق الموجعة - يعيدنا المشهد الأخير في الرواية إلى بقية المشاهد التي قادت إليه، ونعيد النظر إلى البدايات في ضوء النهايات، ونكتشف أن الدودة في أصل الشجرة، وأن الجرثومة قائمة في الوعي الجمعي الذي انطوى على"تاء الخجل"وظل مبقياً على أشكال التمييز المجحفة ضد المرأة. وهل هناك فارق كيفي - في النهاية - بين اغتصاب راوية أو يمينة واغتصاب الفتاة التي رأينا عرسها خلال السرد، وشهدنا قميص نومها الدامي الناطق بالجريمة؟! وهل هناك فارق كبير في الوحشية بين الأمير الذي ذبح الفتاة التي لم تطعه والأب الذي ألقى بطفلته - وهي في الثامنة من عمرها - من فوق"جسر سيدي مسيد"لأنها اغتصبت من رجل في الأربعين، أحدب وقصير، يقطن في الحي نفسه، وله دكان صغير يبيع فيه الحلوى، يغلقه على الفتاة البريئة التي لا يسمع أحد صرخاتها أثناء فعل الاغتصاب الوحشي. ولا فارق جذرياً بين هذا المغتصب والأب الذي يرمي ابنته - بدعوى الشرف - من فوق الجسر ليتمزق جسدها على الصخور، متظاهراً بأن فتاة في الثامنة من عمرها انتحرت؟! لا فارق فعلياً بين الأب الوحشي والمغتصب الحيوان وأمير الإرهاب الذي يمارس فعل العنف نفسه على الأنثى المقهورة المحكوم عليها - أبداً - بتاء الخجل والعار. وأخيراً، ما الفارق الجذري بين نهاية أمثال راوية ويمينة وأمثال كنزة - صديقة البطلة - التي كانت تعمل في المسرح، وتقع في المفارقة الموجعة بين من يصفقون لها في المسرح، ليلاً، بعد العرض، ويصفونها بأنها عاهرة، نهاراً، فضلاً عن الأطفال الذين يرشقونها بالحجارة لأنها سافرة، فتقرر هجر المسرح والعودة إلى موطنها الأصلي والزواج، ولكن الزواج لم يكن سوى انتحار مذعن للتقاليد الجامدة نفسها واغتيال بواسطتها في الوقت نفسه؟! إن كنزة وريما نجار وراوية ويمينة نماذج تتحد بهن البطلة - الراوية - الروائية - الصحافية في راوية فضيلة الفاروق، وهن يتحولن إلى مرايا موضوعة بزوايا متعددة لنرى عبر صورها المتجاوبة السياقات التي تتفاعل والشهادات الموجعة فتؤدي إلى نهاية رواية"تاء الخجل"التي كانت آخر رواية قرأتها في سلسلة الأعمال الإبداعية الجزائرية التي وقف أصحابها ضد الإرهاب باسم الدين، ولا يزالون يقاومونه بفضحه وتعريته وتقديم الشهادات الموجعة الدالة على بشاعته. لكن رواية فضيلة الفارق تتميز عن سابقاتها بأنها رواية امرأة وصرخة موجعة لأنثى تستفز وعينا الذكوري، وتتولى تعرية انحيازه ضد تاء الأنوثة التي أصبحت - بتواطئنا مع ثقافة التخلف الموروثة وسكوتنا عليها - تاء للخجل الذي ينبغي أن نشعر نحن به قبل بطلة رواية الكاتبة الواعدة والصحافية الجسورة التي لم أقرأ لها - للأسف - سوى هذه الرواية - الصرخة.