تعاد وتكرر في هذه الأيام أنباء جماعة أممية من المقاتلين الشيشانيين والجورجيين والعرب وغيرهم بقيادة رسلان غيلايف هائمة على وجهها، اغلب الظن، داخل شعاب الجبال المطلة على البحر الاسود في رقعة محصورة بين روسياوجورجيا وابخازيا. وتضاربت الآراء حول منشأ الجماعة وهويتها واهدافها وتعدادها. وقال بعضهم انها ائتلاف ثنائي من المجاهدين الشيشانيين والانصار الجورجيين يحاول ان يفتح جبهة شيشانية ثانية ضد الروس، في رواية، ويسعى الى اعادة ابخازيا المارقة الى حظيرة جورجيا، في رواية اخرى. وذكرت رواية ثالثة ان رسلان غيلايف تلقى من جهة لم يكشف النقاب عنها امراً باحتلال مدينة سوخومي عاصمة ابخازيا ومدينة سوتشي عاصمة روسيا الجنوبية ومنتجع الرئيس فلاديمير بوتين. وتؤكد التحريات التي نقبت في جيوب القتلى والتحقيق مع الاسرى ان الجماعة مكونة فعلاً من ابناء شتى الأمم والأقوام، عرضت بطاقاتهم الشخصية على الملأ، فكان بينهم اذربيجانيون وعرب واوكرانيون وغيرهم، ما عزز الفرضية القائلة إنهم بالأصل فرق من المقاتلين فروا من الشيشان قبل اكثر من عام و"استوطنوا" وادي بانكيس في جورجيا وقاموا من هناك بطلعات وهجمات على الشيشان وجورجيا سواء بسواء. إلا أن الدنيا ضاقت بهم تحت الضغوط الدولية والروسية التي تعرضت لها حكومة تبليسي كانت تتغاضى عن وجودهم في اراضيها بادئ الامر، وبفعل تلك الضغوط سلّمت 16 شخصاً منهم الى السلطات الروسية، ثم جاءت الحرب الاميركية على الارهاب فطار النوم من عيونهم وراحوا يبحثون عن مخرج. لجأوا في البداية الى شعاب كودور التي لها مدخل واحد من جهة جورجيا ولا مخرج لها. فاعتصموا في جبل يسمى رأس القند. وقررت حكومة تبليسي، حسب الرواية الثانية، ان تستفيد منهم فأسندتهم برجال من قواتها من اجل "تحرير" ابخازيا. والاخيرة، كما هو معروف، بقعة اسلامية مسيحية فيها افضل واجمل مصايف البحر الاسود، وكانت في العهد السوفياتي اقليماً يتمتع بالحكم الذاتي ضمن جمهورية جورجيا. إلا أنها اعلنت استقلالها قبل عشر سنوات، ولم يعترف بها احد، فدخلت حرباً ضروساً ضد الجورجيين وطردتهم من المصايف الجميلة وظلت تحاربهم حتى توسطت دول الكومنولث السوفياتي في صلح لا يزال قائماً من الناحية الرسمية بينها وبين جورجيا منذ سنين عدة. ورابطت هناك قوات روسية مع مراقبين عسكريين من الاممالمتحدة للفصل بين الطرفين وتأمين مستلزمات الهدنة، إلى ان اشتعل فتيل الحرب من جديد قبل ايام وشاركت فيها طائرات مجهولة الهوية قيل انها ابخازية، فيما يتصور كثيرون ان ابخازيا لا تمتلك سلاحاً جوياً وقيل انها جورجية، كونها تأتي من جهة تبليسي وتعود في الاتجاه نفسه. ومضت جورجيا الى ابعد من ذلك في توظيف الموقف لمصلحة مطالبها القديمة بسحب القوات الروسية من ابخازيا بدعوى تأييد هذه القوات للانفصاليين، على أن تحلّ محلياً قوات دولية للامم المتحدة واقطار منظمة التعاون والامن الاوروبي. وامهلت تبليسي الروس فترة ثلاثة اشهر عادت وقلصتها الى شهر واحد لكي يخلوا قاعدتهم العسكرية في ابخازيا، كما اعلنت انسحابها من الكومنولث صدر قرار من البرلمان الجورجي بهذا الخصوص ثم عادت، بعد اشتداد القصف الجوي، لتقول انها ستتريث حتى يتم لقاء بين الرئيس الجورجي ادوارد شيفاردنادزه ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، خصوصاً ان بوتين عالج المسألة، على الصعيد الاعلامي، بدهاء جعل شيفاردنادزه يتراجع بعض الشيء. فقد اعاد الى الاذهان موقف روسيا الحريص على وحدة اراضي جورجيا، ما يعني انه لا يؤيد انفصال ابخازيا عنها، واكد ان قوات حفظ الامن الروسية ستخلي قاعدتها هناك. الا ان بوتين حمّل شيفاردنادزه بصورة غير مباشرة مسؤولية الاوضاع في المنطقة منوهاً بأن الاخير كان سياسياً فاعلاً في الاتحاد السوفياتي وان المشاكل القائمة اليوم هي من تركة ذلك الزمان. من جهة اخرى، ابدى رئيس الوزراء الابخازي هنري جيرغينيا اسفه ل"رخاوة" الموقف الروسي بعدما كان يعلّق آمالاً كبيرة على دعم القوات الروسية لرجاله الذين يقاتلون رجال رسلان غيلايف منذ أيام عدة. وكان جيرغينيا اعلن سابقاً انه سيطلب موافقة روسيا على انضمام ابخازيا اليها او بسط حمايتها على الاراضي الابخازية في ما لو تمادت تبليسي في "عدوانها". الا ان المعارضة الابخازية الموالية لتبليسي رفعت صوتها هي الاخرى. وندد تماز نادرشفيلي رئيس البرلمان الابخازي في المنفى بالموقف الروسي وقال ان موسكو تكيل بمكيالين عندما تعتبر الشيشانيين المطالبين بالانفصال إرهابيين، فيما تعتبر الانفصاليين الابخازيين مناضلين في سبيل الحرية والاستقلال. والسؤال المطروح: هل تستطيع جورجيا ان تضم ابخازيا بالقوة في ما لو فشلت المحادثات المنتظرة بين شيفاردنادزه وبوتين؟ التاريخ ما بعد السوفياتي يقول إن جورجيا حاولت ذات مرة ان تقوم بشيء من هذا القبيل،. ففشلت فشلاً ذريعاً. ففي عام 1992 عندما تسلمت تبليسي حصتها من التركة السوفياتية اسلحة وآليات الفرقة الروسية العاشرة المرابطة آنذاك في قاعدة اخالسيخ اجتاحت الدبابات والمدرعات الجورجية مدينة سوخومي وشرعت بالتحرك صوب غاغرا أقرب مدينة الى العاصمة الابخازية. إلا أن المتطوع الابخازيين نهبوا مستودعات السلاح في مدينة غوداوتا وقاوموا "الغزاة" حتى هزموهم. وطبق الانصار الابخازيون تكتيكاً بارعاً ساعدتهم فيه التشكيلات الشيشانية بقيادة شامل باساييف، واستولوا على اكثر من اربعين دبابة ومدرعة باتت في ما بعد نواة لتشكيل وحدات الجيش الابخازي. وحتى نهاية الحرب في ايلول سبتمبر 1993 كان الابخازيون استولوا على 70 مدرعة واكثر من 80 مدفعاً من مختلف العيارات و5 راجمات صاروخية و42 هاوناً بالاضافة الى المدافع المضادة للطائرات وكميات هائلة من الذخيرة. ولا تزال كل تلك الاسلحة تحت تصرف الابخازيين. وتفيد المعلومات غير الرسمية ان لديهم الآن 35 دبابة و70 ناقلة مدرعة و80 مدفعاً وست طائرات و20 من مختلف السفن والقوارب الحربية، وتتألف القوة المسلحة النظامية في جمهورية ابخازيا من 5 آلاف شخص معظمهم من الكوادر القيادية، ذلك ان الجيش يعتمد اكثر على قوات الاحتياط. فلدى كل رجل من السكان في سن التجنيد قطعة من السلاح الخفيف مع ذخيرتها، ومعظمها من غنائم حرب 1992 - 1993. وفي حال الاستنفار يتضخم الجيش ويصل تعداده الى 40 - 50 الف رجل ممن لديهم خبرة قتالية لا ريب فيها. واللافت ان موسكو لم تزود تبليسي بالسلاح بعد تجربة العام 1992 المريرة. الا ان الولاياتالمتحدة واليونان وتركيا واوكرانيا ساعدت جورجيا في بناء قواتها المسلحة. واقوى ما فيها سلاح الجو: 7 طائرات "سوخوي 25" و3 مروحيات قتال "ميغ 24"، و4 مروحيات نقل "ميغ 8" بالاضافة الى 14 مروحية هدية من الولاياتالمتحدة. والى ذلك ثمة حوالي 70 دبابة و180 مدرعة و75 مدفعاً مجروراً و15 راجمة صاروخية و21 هاوناً. وفي العام 1998 اعتمدت الولاياتالمتحدة 27 مليون دولار للقوة البحرية الجورجية المكونة من سرب من القوارب الحربية السريعة 10 قوارب ويصرف المبلغ على بناء السفن العصرية في حوض باتومي وعلى الاكاديمية البحرية التي افتتحت اخيراً. ومن هذه الناحية تكون جورجيا متفوقة على ابخازيا، ما يوفر للانصار الجورجيين فرصة الوصول الى سوخومي من شعاب كودور ومواصلة القتال تحت تغطية بحرية فاعلة. وعلى الرغم من ذلك فإن حظ القوات الجورجية في قهر القوات الابخازية ليس وافراً. ذلك لان العداء لجورجيا مستفحل الآن لدى سكان ابخازيا ولن يحصل الجورجيون على دعم محلي بينهم. ولعل الجورجيين باتوا يدركون هذه الحقيقة، فتغيرت لهجة الرئيس شيفاردنادزه بعد اولى بوادر المقاومة من جانب الابخازيين، فأخذ يشدد على التفاوض والحل السلمي من دون اعتراف بالاستقلال او الحكم الذاتي الواسع لابخازيا ضمن الدولة الجورجية. وما يقلق حكومة ابخازيا هو استعانة تبليسي بخدمات القائد الميداني رسلان غيلايف فلماذا جاء والى اين يمضي؟ العسكريون الابخازيون واثقون من ان مقاتلي غيلايف الشيشانيين جاؤوا إلى ابخازيا بإيعاز مباشر من شيفاردنادزه. والدوائر الامنية الابخازية تعتقد ان هدف غيلايف الآن ليس سوخومي ولا سوتشي، وانما الجسر على نهر كودور الذي يشطر ابخازيا شطرين، وكذلك مطار دراندي على مقربة منه. ففي حال استولى رجاله على الجسر لن يتمكن الابخاريون من عبور النهر وسيتكبدون خسائر جسيمة. اما المطار فيمكن تشغيله في غضون ساعات. واذا احتلته مروحيات الجورجيين فإنهم يقطعون المطار ومعه الشطر الشرقي من ابخازيا عن المركز، ومن هناك يمكنهم الزحف على العاصمة سوخومي. والى ذلك الحين تظل الحرب الجديدة في القوقاز مستعرة، وتصعب الاحاطة حالياً بكل مضاعفاتها واسقاطاتها. لكن المحللين الروس يعتقدون ان موقف بوتين الذي اعلن ان النزاع الابخازي الجورجي قضية داخلية تخصّ جورجيا وحدها يمكن ان يفجّر القوقاز الجنوبي بأسره، ذلك لأنه يترك الحبل على الغارب ويطلق أيدي شتى القوى المتصارعة في المنطقة لتفعل ما تشاء.