أحداث كثيرة توحي بوجود رباط بين منطقتي البحيرات الكبرى والقرن الافريقي، مثلما أضحت تداعيات كثيرة توحي بأن ترسيخاً جديداً سياسياً على وشك الاكتمال هناك. وأبرز معالمه ظهور أكثر من مشروع لتحالفات جديدة، خصوصاً في أعقاب الافرازات التي أحدثتها الوقائع التي شهدتها المنطقتان في الأشهر الثلاثة الماضية، وأبرزها التوقيع على اتفاق السلام بين اثيوبيا واريتريا في الجزائر العاصمة في 12 كانون الأول ديسمبر الماضي، ومحاولة دول منطقة البحريات احياء اتفاقات العاصمة الزامبية بوساكا لايقاف حرب الكونغو الأهلية، واجتماعات طرابلس وسرت التي حاولت أكثر من مرة دفع السودان ويوغندا نحو التطبيع السياسي، وآخر تلك الاجتماعات عقد في سرت بين ممثلين لمصر وليبيا كوسيطين ومندوبين للسودان ويوغندا منتصف الشهر الماضي. آخر المحطات يشكلها اجتماع قمة دول منظمة "ايغاد" في الخرطوم في 23 تشرين الثاني نوفمبر الماضي الذي تزامن مع عودة الصادق المهدي رئيس حزب الأمة السوداني بعد أربع سنوات قضاها في العمل المعارض خارج بلاده. تلك الأحداث تتجه إلى تأكيد إعادة الترسيم، خصوصاً بعد وصول الصوماليين في جيبوتي إلى مصالحة هشة أعادت الصومال إلى حظيرة منظمة الوحدة الافريقية والجامعة العربية بعد غربة امتدت عشر سنوات. وتتجه بوصلة الأحداث أيضاً نحو السودان واثيوبيا واريتريا والكونغو ويوغندا لتثير أكثر من سؤال عن مستقبل التحالفات وآثارها، سواء على حركات التمرد أو المعارضة في أي من تلك الدول، أو على لعبة موازين القوى الاقليمية في ضوء اهتمام أكثر من دولة ورصدها لمسار تلك التداعيات وبين الدول المعنية اقليمياً، خصوصاً مصر التي تراقب بحذر مسار تلك التحالفات. حين اندلعت الحرب بين اثيوبيا واريتريا تنفس السودان الصعداء، وتردد كثيراً في أن يلقي بثقله خلف اثيوبيا احراجاً لاريتريا التي ظلت تحتضن المعارضة السودانية، وأقدمت على أغرب خطوة في الأعراف الديبلوماسية يوم قامت في 1994 بتسليم مقر السفارة السودانية لقيادة "التجمع الوطني" المعارض وقطع العلاقات مع الخرطوم. غير أن ديبلوماسية الخرطوم أخذت موقف التريث ومعه تقديم عرابين صداقة لاثيوبيا، وأيضاً تقديم بعض الدعم اللوجستي للجيش الاثيوبي الذي تمكن من اسقاط مدينة تسني الاستراتيجية في القطاع الغربي عبر التسلل من الأراضي السودانية، واحداث ضربة مفاجئة دفعت بقوات المعارضة السودانية المسلحة إلى تبادل اطلاق النار مع القوات الاثيوبية باعتبارها قوات حكومية سودانية، فأحدثت الحرب وبوقائعها الكثيرة بما فيها واقعة تسني منظومة من الوقائع قادت هي الأخرى إلى افراز واقع جديد لعبت عليه الدول الثلاث، كل منها بطريقته. ويمكن تلخيص ذلك الواقع الجديد كما يلي: سارعت الخرطوم إلى احياء بروتوكول تجاري مع اثيوبيا زار فيه أكثر من 40 مسؤولاً اثيوبياً الخرطوم وقدمت فيه الأخيرة تسهيلات كثيرة لأديس أبابا أهمها استخدام ميناء بورتسودان لخمس سنوات من غير رسوم جمركية. تقدمت الخرطوم خطوة أخرى ووقعت على ميثاق تكامل بين ولاية القضارف والولاية الحدودية الغربية في اثيوبيا قضى بحل شبه دائم للمشاكل القبلية والزراعية في منطقة الغشقا. دعوة الخرطوم رئيس الوزراء الاثيوبي ملس زيناوي في ذكرى "ثورة الانقاذ الوطني" السودانية لتمتد آثار الزيارة من بعد لأحاديث ومشروعات طموحة بينها إقامة خط للأنابيب بين البلدين يمكن اثيوبيا من استخدام النفط والغاز السوداني. ردت اثيوبيا في المقابل باغلاق مكتب المعارضة السودانية، خصوصاً "الجيش الشعبي لتحرير السودان" بقيادة العقيد جون قرنق وحرمانه بالتالي من عمق استراتيجي ظل يوظفه لصالح عملياته العسكرية في منطقة الكرمك والقطاع الجنوبي من الجبهة الشرقية، وهو إحدى المناطق التي تنشط فيها أعمال التمرد. محاولة اريتريا دخول لعبة التحالفات مع السودان باستضافة لقاء يجمع بين زعيم المعارضة محمد عثمان الميرغني والرئيس السوداني الفريق عمر البشير، وموازنته من باب امتلاك ورقة للضغط بالسماح لقادة "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارض بعقد اجتماعهم الطارئ في ميناء مصوع، وتلت ذلك زيارة الرئيس الاريتري أساياس افورقي للخرطوم بحثاً عن معادلة جديدة ليسابق بها النجاحات الاثيوبية مع السودان. مع مثل ذلك الواقع، أفادت الخرطوم من الحرب الاثيوبية - الاريترية، مثلما أفادت اديس ابابا من تفوقها العسكري، فأملت شروطاً صعبة في وثيقة الاتفاق الموقع في الجزائر الشهر الماضي. وبين الشروط وجود منطقة بعرض 25 كيلومتراً، وهو المدى العسكري للمدفعية داخل الأراضي الاريترية، كمنطقة منزوعة السلاح، ونشر نحو 4200 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة فيها، بما يعني خلو مناطق النزاع الحدودي من أي وجود اريتري، وبالتالي تتمتع اثويبيا بإدارتها إلى حين فراغ لجنة ترسيم الحدود في جنيف من مهمتها التي قد تستغرق سنوات عدة. وبزغ مشروع لتحالف استراتيجي بين اثيوبيا والسودان، وهو تحالف يثير قلق اريتريا، وربما القاهرة، باعتبار ان الأخيرة معنية بلعبة التحالفات من جهة، وبقضية المياه من الجهة الأخرى، ولذلك تسابق القاهرة الزمن لدفع أطراف المعارضة والحكومة السودانية للوفاء بمستحقات اتفاق طرابلس نهاية 1999 وأهمها عقد مؤتمر جامع لحل مأزق الحكم في السودان. حين شاءت الصدف أن ينجح الرئيس الجيبوتي اسماعيل عمر قيلي في جمع فرقاء الصومال في خيمة أسفرت عن قيام حكومة موقتة في الصومال للمرة الأولى منذ عشر سنوات، سارعت دول المنطقة إلى قراءة الواقع على ضوء افرازات الحرب الاثيوبية - الاريترية. ومعلوم ان دولتين هما اثيوبيا والسودان ظلتا تدعمان حركة الزعيم الصومالي محمد فرح، فيما اتجهت القاهرة لدعم منافسه علي مهدي، وذلك على رغم اختلاف الحسابات بين الخرطومواديس ابابا، فالأولى تدعم عيديد وحركته وفي ذهنها عداء الحركة للتدخل الأميركي، والثانية - اديس ابابا - تدعمه لحسابات منها صفقة سياسية يقول كثيرون إنها تقضي بالتسليم بأن أقليم اوغادين ارض اثيوبية. والشاهد ان الاتفاق الجديد جاء بالعواصم الثلاث الخرطوم والقاهرة واديس ابابا إلى خانة واحدة، قضت بدعم الحكم الجديد، ولأي منها بنوده الخفية بالطبع. وتبقى الملاحظة الغريبة: تكريس اتفاق الصومال كما هو الحال مع التحالف السوداني - الاثيوبي، لما يشبه العزلة بالنسبة إلى اريتريا التي حرمتها خلافاتها الحدودية مع جيبوتي من ابداء وتيرة الحماس والتعاطف التي أبدتها القاهرة والخرطومواديس ابابا والجامعة العربية تجاه الاتفاق الصومالي. إن اتفاقي انهاء الحرب الاثيوبية والأزمة الصومالية أفرزا واقعاً جديداً أعاد القرن الافريقي إلى الساحة دولياً واقليمياً، ويعكس الحضور المكثف من العيار الثقيل لمراسم توقيع الاتفاق بين اثيوبيا واريتريا في الجزائر، ذلك الحكم، وإلا فما معنى حضور مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية وتوقيعها كشاهد ومعها ممثل عن المجموعة الأوروبية؟ كما أن افرازات الاتفاقين اسقطت، وربما إلى الأبد، فكرة أميركا لاحتواء النظام الإسلامي في السودان بمحاصرته من اثيوبيا واريتريا، استغلالاً لتورط النظام السوداني في محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في العاصمة الاثيوبية في حزيران يونيو 1995. وهناك من يقول إنه وإذا ما كان لأميركا ان تمارس تلك السياسة مع نظام الحكم في السودان، فلم يعد أمامها إلا يوغندا، باعتبار أن الرئيس موسيفيني طرف أساسي في لعبة الصراع الاقليمية، سواء ضد نظام الخرطوم أو نظام كابيلا الذي تناصبه واشنطن العداء. وربما من مثل هذا التأويل تأتي خطوط التماس بين القرن الافريقي ومنطقة البحيرات التي تحفل هي الأخرى بوقائع كثيرة وأحداث لاحقة أفرزت تحالفات جديدة أملتها لعبة المصالح وسعي الأنظمة السياسية على البقاء. أول نقاط الاختلاف بين منطقتي البحيرات والقرن الافريقي تأتي كون الأولى، خصوصاً جمهورية الكونغو الديموقراطية، هي الأغنى بالموارد والمعادن وأهمها الماس على نطاق القارة الافريقية، ولذلك ومع مثل تلك الحقيقة جرت حرب الكونغو الأهلية التي اندلعت في 6 آب اغسطس 1998 إلى أرضها بخمس دول افريقية تضاربت لعبة المصالح فيها، ففضلت يوغندا ورواندا بحمايات الحدود والنزاع القبلي الدخول في تحالفات مع فصائل التمرد الثلاثة التي تقاتل كابيلا، فيما فضّلت ثلاث دول أخرى هي زيمبابوي وانغولا وتشاد، مساندة كابيلا عسكرياً بقوات وصلت الى عشرين الف جندي في مقابل 13 الفاً لبوروندي ورواندا. ومع ذلك فخريطة التحالفات هناك تبدو اكبر واوسع من تلك التي تستهدف الصراع الآن فهناك السودان الذي يساند كابيلا بغية محاصرة نظام موسيفيني في يوغندا، وتنسق كينشاسا مع الخرطوم لضرب حركات التمرد في يوغندا، واهمها "جيش تحرير جنوب يوغندا" وذلك كرد فعل لمساندة يوغندا للجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة قرنق، ولحركات التمرد في شمال وشمال شرق الكونغو. وهناك ليبيا التي تريد استقراراً افريقياً يمكنها من طرح مشروع الولاياتالمتحدة الافريقية". ولذلك سارعت طرابلس الى استضافة افرقاء الكونغو مثلما مهّدت لالتئمام اجتماعات ثنائية بين الخرطوم وكمبالا اكثر من مرة سعياً وراء التطبيع، ولم تخف طرابلس انها تنسق مع معهد الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر لحل النزاعات من اجل الهدف نفسه. وكان كارتر قد دشّن في نيروبي واتلانتا حيث مقر مركزه غير الربحي جولتين من المفاوضات بين كمبالا والخرطوم. وهناك القاهرة التي تلعب السياسة وتدير أوراقها من وراء الكواليس فهي تدعم مبادرة ليبيا وعينها على تطبيع يضعف حركة قرنق ويدفعها للقبول بحل سلمي لخلافه مع نظام الحكم في الشمال ووصولاً الى هدف الابقاء على وحدة السودان التي تراها القاهرة حيوية لمصالحها، وفي مقدمها قضية المياه. وفي ضوء تداعيات الحرب الاثيوبية الاريترية يمكن اعتبار حركة العقيد قرنق الخاسر الاكبر من تلك الحرب، اذ لم يتبق له من زاوية العمق الجغرافي الذي تحتاج له ميليشياته في عملية الكرّ والفرّ المعروفة غير يوغندا، وبالتالي فان فقدانه لها بالتطبيع ومحاولاته الجارية سيجعل ارض المعركة مباشرة مع الجيش السوداني وتمكين الاخير من امتلاك زمام المبادرة في ادارة المعارك مستقبلاً. في زخم ذلك الصراع يخطئ من يعتقد بأن واشنطن كانت غائبة او انها بلا منظور تجاه قضية الصراع في البحيرات والقرن الافريقي، فأميركا ظلت هناك منذ ان اختارت اولبرايت في 1998 كمبالا محطة ثانية لها في افريقيا وضمن خمس محطات اختارتها، ومنذ اختيار الرئيس كلينتون ايضاً في نيسان ابريل 1998 لكمبالا محطة ثالثة بعد داكار واكرا قبل ان يختتم جولته بجنوب افريقيا. وفي يوغندا استدعى كلينتون 16 رئيساً افريقياً هرعوا للقائه عدا روبرت موغابي رئيس زيمبابوي والرئيس السوداني عمر البشير. وكان هدف التظاهرة لدى الادارة الاميركية تعميد موسيفيني رئيساً من وزن خاص، فيما قالت اولبرايت في كمبالا التي حشدت لها المعارضة السودانية ثقلها ان النظام السوداني هو "جحر الأفعى" في المنطقة ولا بد من القضاء على ذلك الجحر. لكن الواضح ان ريح البحيرات ومعها القرن الافريقي لم تأت بما تشتهي سفن واشنطن، إذ أسفر صراع القرن الافريقي عن تحالف جديد بين الخرطومواديس ابابا مثلما اسفر صراع البحيرات عن انهاك آلة الحرب اليوغندية بعد تعمدها المشاركة بعشرة آلاف مقاتل داخل الكونغو، فقبلت على مضض مشروع التسوية الذي قادته زامبيا والقاضي بانسحاب القوات الاجنبية والتمهيد لنشر قوة سلام من الاممالمتحدة مثلما حدث بين اثيوبيا واريتريا. وهناك من يقول الآن ان الضغوط تتزايد على موسيفيني من اجل التطبيع مع النظام السوداني بعد ان شهد الانفراجات المتلاحقة في علاقة الخرطوم بالاتحاد الاوروبي ووصولها لمراحل التعاون مع نمور آسيا ومعها الصين ودول الجوار خصوصاً مصر واثيوبيا وليبيا. لقد وازنت واشنطن بين صراع المصالح بينها وبين فرنسا في منطقة البحيرات حيث النفوذ الفرنسي في الكونغو وبوروندي ورواندا وافريقيا الوسطى وتشاد، وبين صراعها مع النظام السوداني وخلافاتها مع نظام كابيلا في الكونغو، ففضلت ان تكون موجودة على الاقل لترصد وتملك فجاء تراجعها عن قطع العلاقات وسحب ديبلوماسييها من الخرطوم وايفادها لممثلها الدائم في الاممالمتحدة ريتشارد هولبروك لزيارة القرن الافريقي ودول منطقة البحيرات في حزيران يونيو الماضي. ويمكن القول في المقابل ان واشنطن وبطرقها الديبلوماسية المعروفة وتعاونها مع حلفائها في المنطقة واعطائهم حرية التحرك نيابة عنها في ما لا يمس مصالحها القومية ربما تسعى في المستقبل القريب لتوسيع تحالفها مع اثيوبيا على رغم تحالف الاخيرة مع السودان والاقتناع بشرعية كابيلا ومن ثم الضغط على حليفها القديم موسيفيني، وتعليق مسألة احتواء او اسقاط النظام السوداني انتظاراً لجهود القاهرة في تسوية الشأن السوداني. وتبدو واشنطن مكرهة على ركوب مثل هذا الخيار، فالخرطوم نجحت في استضافة قمة دول "ايغاد" في تشرين الثاني الماضي، واستقبلت المعارض الصادق المهدي، ولعلها تلك النشوة هي التي جعلت الفريق البشير يخصص مساحة كبيرة من خطابه لمهاجمة اميركا وكأنه يذكّرها بعبارة "جحر الافعى" الذي استقبل نفس القادة الذين دعتهم اولبرايت لدفنه وحذّرتهم من التعامل معه! لهذا يمكن القول ان سيولة الاحداث في منطقتي البحيرات والقرن الافريقي تؤهل المنطقة لتحالفات فيها رابحون وخاسرون. ولا تخلو بالطبع من مغامرين او مرشحين لتقديم التنازلات مُكرَهين لا أبطالاً كما حدث لواشنطن نفسها