تشير الدلائل كافة الى أن افريقيا ترغب في التمسك بالحياة وتكافح من أجلها لكنها تتجه رغماً عنها الى الفناء والانتحار. ويتمثل ابرز تلك الدلائل في الحرب الدائرة بعنف غير مألوف بين اريتريا واثيوبيا، وتورط المجتمع الدولي من دون بصيرة في سيراليون، واستمرار تفاقم محرقة افريقيا في الكونغو، فضلاً عن تفجر عوامل الصراع في دول افريقية اخرى، ما يؤذن بدورة جديدة من العنف. سنقصر تحليلنا في هذه المقالة على مأساة الحرب بين اريتريا واثيوبيا، ويلاحظ ان هذه الحرب نشبت بشكل مفاجئ في اواخر 1998 بدعاوى متضاربة من الجانبين بأن كلاً منهما احتل شريطاً من حدود الطرف الآخر وظلت العمليات والاتهامات المتبادلة بطيئة حتى إنصرم القرن العشرون ودخلت هذه الحرب في سجلاته على أنها الحرب الافريقية المنسية Forgotten war، رغم أنها لم تكن منسية تماماً، إذ بادرت منظمة الوحدة الافريقية، وسط نداءات افريقية عدة بمحاولات تسويتها، ثم قدمت الولاياتالمتحدة ورواندا مبادرة مشتركة لوقف القتال، ورغم كل المبادرات استمرت الحرب، لكن وتيرتها لم تكن بالقدر الذي يفزع المراقبين، كما أنها استمرت بشكل لا يبعث ايضاً على اطمئنانهم. ثم دخلت الحرب مرحلة جديدة منذ الاسبوع الثاني من ايار مايو 2000 اتسمت بعدد من الخصائص التي ادخلتها فجأة ايضاً في دائرة الاهتمام والقلق على المستويين العالمي والاقليمي، وجعلت عامل الوقت له دلالة خطيرة، اولى هذه الخصائص كثافة العمليات الحربية وارتفاع معدل الخسائر، وثانيها اكتساح القوات الاثيوبية مواقع القوات الاريترية وسط تأكيدات من جانب اديس ابابا بأنها عازمة على حسم الصراع بالقوة بعد ما افسحت المجال لأكثر من عام لأسمرة وللمجتمع الدولي وبمادراته، وبعد ان عجزت مبادرة منظمة الوحدة الافريقية على الصمود، وثالث هذه الخصائص هو أن فرص حظر تزويد طرفي الحرب بالسلاح وتفاقم المجاعة والجفاف في البلدين بشكل مؤلم لم يؤثر على تجدد القتال بهذا القدر من العنف والانتقام والتصميم على كتابة نهايته، بل رفض اديس ابابا توقيع اي اتفاق على وقف القتال، وآخر هذه الخصائص ان تقدم القوات الاثيوبية في اراضي اريتريا اقترن بدعاوى اثيوبية مفادها أن اثيوبيا تسترد اراضيها من اريتريا، واقتراب هذه القوات من اسمرة العاصمة وسيطرتها على المواني والمدن الاستراتيجية التي يعتقد معها المراقبون انها تنذر بنية اثويبيا احتلال اريتريا رغم رفضها المتكرر لمثل هذا الافتراض. وسواء كان هدف تجدد القتال هذه المرة هو تأديب اريتريا او اسقاط نظامها او تصفية حسابات تراكمت عبر سنوات العلاقات القليلة بين النظامين، أو استرداد اثيوبيا لاراض سبق لارتيريا ان احتلتها ورفضت اعادتها، فإن اخطر هذه التداعيات على الاطلاق هو ان ينتهي الامر الى اعادة اريتريا الى حوزة اثيوبيا تحت اي شكل من الاشكال لان ذلك ينطوي على تداعيات وتعقيدات خطيرة في توازنات القوة في المنطقة ويستدعي الى دائرة التحليل القوي التي تساند كل طرف ومصالحه فلا شك ان جهاد اريتريا من أجل استقلالها والذي كان موجهاً ضد اثيوبيا وسياستها المتشددة طوال الستينات وحتى بداية التسعينات لم يكن ليثمر لولا ذلك التحالف العرفي والايديولوجي والسياسي بين حكام البلدين ضد نظام منغستو في اديس ابابا، واهم ثمار هذا التحالف الاتفاق على استقلال اريتريا من سطوة اثيوبيا، وتحرر اثيوبيا من نظام فوت عليها الكثير وكبل حركتها في إطار الحرب الباردة ولكن ذلك الزواج الجديد بين نظامي اريتريا واثيوبيا بدا للكثيرين محوطاً بشكوك الاستمرار والنجاح خصوصاً بسبب عدم التكافؤ في آثاره لمصلحة اريتريا، فقد تحولت اثيوبيا طوعا الى دولة حبيسة وتركت لاريتريا موانيها على البحر الاحمر خصوصاً مصوع، ولم يكن ذلك ليثير الجدل ما دام الوفاق تاماً بين البلدين وموانئ اريتريا لاتضن على اثيوبيا بكل تسهيلات الدولة الساحلية الحليفة. ثم بدأ التحالف بين النظامين في التآكل بسرعة عجيبة حتى لم يتمكن المراقبون من تسجيل الكثير من مظاهر هذا التآكل، فلا نزال نذكر مساندة اثيوبيا الصلبة لدعاوي اريتريا في جزر حنين اليمنية، واحتلال قوات اريتريا لهذه الجزر بالقوة وطرد القوات اليمنية منها الامر الذي نظر اليه يومئذ على انه تحرش من جانب اثيوبيا - اريتريا بدعم من اسرائيل او غيرها ضد اولى بوابات العالم العربي المهمة وهي اليمن، ثم اصبح الانقسام فالشقاق العربي - الافريقي لهذا الصراع لولا حكمة اليمن وتدخل مصر وفرنسا واتفاق اليمن واريتريا على التحكيم الذي اسفر عن تأكيد حق اليمن في الجزر وقبول اريتريا له، خلال التحكيم على حين بدأت الحرب بين اريتريا واثيوبيا، وأدى ذلك الى ظهور افتراضات مختلفة منها ان بعض الدول العربية تساند اريتريا وهي التي شجعتها على التحرش باثيوبيا، ومنها ايضاً ان مسارعة اريتريا الى قبول حكم التحكيم وتنفيذه بمجرد صدوره ثم تحسن العلاقات اليمنية - الاريترية ارتبط ببدء الصراع بين اسمرة واديس ابابا، وبدا للبعض كأن هذا الصراع هو استئناف للصراع العربي الاسرائيلي في ساحات اخرى غير غريبة حقاً عن ميادين هذا الصراع في الماضي ودوائره الاستراتيجية في المستقبل على اساس ان مدخل البحر الاحمر سيظل قضية استراتيجية مهمة، وان حصول اسرائيل على تسهيلات في موانئ اريتريا المقابلة للساحل العربي جزء من هذه القضية. ومن جهة اخرى لوحظ تغير ادوار اثيوبيا واريتريا في الصراع داخل السودان وحوله، ودخول اريتريا بسرعة طرفاً في الصراع بين الحكومة والمعارضة التي تحول بعض اجنحتها السياسية الى معارضة عسكرية وتهديد الجيش السوداني ومواقعه من ناحية اريتريا، ما زاد عبء الصراع على حكومة الخرطوم واضاف الى اثيوبيا واوغندا جهة جديدة مستقلة ذات تأثير مباشر في الصراع من جانب اريتريا، ولذلك فإن تحسن العلاقات السودانية الاريترية لم يرتبط هذه المرة بتحسن علاقات الخرطوم بأديس ابابا كما كان يحدث دائماً، وإنما السبب تقارب الحكومة والمعارضة السياسية في السودان. ولا شك لدينا ان تفاقم الصراع بين اريتريا واثيوبيا وفشل المساعي المكثفة لوقف القتال الذي يهدد بأقصى احتمال وهو سقوط نظام اسمرة او ضم اريتريا الى اثيوبيا وضع افريقيا في موقف بالغ الحرج، فضلاً عما تسببه هذه التطورات من تعقيد للاوضاع في القرن الافريقي وفي الصومال والسودان، بل ان هذه التطورات قد تؤدي الى تعقيدات لاثيوبيا نفسها ونظامها وتركيبها الاجتماعي بخاصة في ضوء تردي الاوضاع الاجتماعية والانسانية والاقتصادية وتدفق اللاجئين والمشردين عليها. والسؤال الآن ماذا يجب عمله لوقف المزيد من هذه التداعيات الخطيرة ؟ هل يمكن انتظار خطر توريد الاسلحة للطرفين، أم يتطلب الامر تحذيراً صارماً لاثيوبيا بأن يكون هناك خط احمر لتقدمها حتى لا يسقط نظام اسمرا، وأن يرغم الطرفان - بشكل ما على التفاوض أياً كانت نتيجته من الناحية السياسية في ضوء وقف فوري وحازم للعمليات التي يهدد استمرارها احداث تغييرات اقليمية وسياسية واسعة لا يمكن تدارك آثارها في المستقبل؟ أياً كان شكل الترتيب او الاجراء الذي يجب ان يتبع لوقف القتال، فإن استمرار الصراع ينذر بكارثة جديدة في افريقيا، ويؤكد ان عوامل الفناء تتفوق في افريقيا على عوامل البقاء. * كاتب مصري.