وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    «موديز» ترفع تصنيف السعودية إلى «Aa3» مع نظرة مستقبلية مستقرة    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إزاحة القناع الافريقي عن الذات الثورية الاثنية . الكونغو : القبيلة تنازع دولة كابيلا
نشر في الحياة يوم 09 - 09 - 1998

دولة ما بعد الحرب الأهلية في افريقيا تنتج دائماً ثواراً يمارسون السلطة وينقصهم طبيعة رجل الدولة. كذلك في جميع حالات الدول الافريقية التي حكمها ثوار تمخضوا من رحم النضال المسلح كان شكل الدولة ومفهوم الديموقراطية مختلفاً فيها عما يدور بخلد "الديموقراطيين" تتماهي الدولة "الجديدة" أو السلطة مع الفقه الثوري للجماعة المسلحة المنتصرة تحالفاً كان أم حزباً.
نلاحظ أيضاً ان الدولة غب انتصارها المسلح كسبت كل الانتخابات والأشواط الديموقراطية التي أقيمت أي ان دولة الثوار صادرت الهامش السياسي للمعارضة. انها تخضع لادبيات قاموسها الثوري ووحدات مقاتليها هم المواطنون المثاليون. انها لا تخضع لعامة الشعب الذي تقول المعارضة بتمثيله. لذلك نجحت تجربة دولة زيمبابوي ويوغندا وارتريا واثيوبيا في التغاضي عن النداءات الغربية لاقامة التعددية كما فعل ايضاً كابيلا لكن من دون ان يعطيه الغرب هامش الحركة الذي يريده كابيلا عريضاً مثل رقعة الكونغو.
في الكونغو - كنشاسا بعد حوالى 15 شهراً من انتصار التحالف الديموقراطي لتحرير الكونغو على نظام المارشال موبوتو في أيار مايو 1997، قاد كابيلا البلاد في اعتبار ان حركته الطليعية واقليمه كاتنغا احدى الشرعيات الثورية. أرادها حكومة لشعب الكونغو الديموقراطي عبر هذه الشرعية الى تاريخ موعد الانتخابات المضروب في نيسان ابريل 1999. لكن بيزيما كاداها وزير خارجيته من أصول رواندية توتسوية أراد ان يكون رجل رواندا القوي مثل بول كاغاميه نائب رئيس رواندا رجل موسيفيني القوي هناك وبالتالي كان أعضاء حكومة كابيلا من الأصول التوتسوية يجعلون من حكومته حصان طروادة حتى إذا دنت ساعة الصفر خرجوا في وقت حاسم لقتله كما اغتيل استاذه الروحي باتريس لوممبا، حتى يمكن محاصرة الثورة في الكونغو من قبل الآباء الروحيين الجدد في يوغندا ورواندا وتصبح الكونغو أرملة "ثورية".
نجاح تجربة حكم أقلية التوتسي المسلحة في رواندا التي عملت على اقصاء غالبية الهوتو وضرب حلفها الاقليمي والدولي وعماده موبوتو وفرنسا صعب تصديره الى الكونغو من دون حرب طويلة الأجل بما انقلبت فيها سهام التوتسي الى نحورهم.
كان تاريخ الأولى دائماً يعول على محو ذاكرة الخصم الهوتوي عبر الابادة والتطهير العرقي المعاكس. لكن تاريخ التجربة الوطنية في الكونغو عميق الجذور فشلت "كليبتوقراطية" 32 عاماً من حكم المارشال موبوتو في استئصاله. هكذا يقول "الزائيرون" نحن زائيريون أو كنغوليون وهكذا ليس كما الحال في رواندا او بروندي التي صارت فيها غلبة الاثنية المسلحة اللاغية لغريمها الاثني نسخاً لمواطنة "الغير" الاثني وبالتالي انتهى المطاف الاثني الى طائفية اثنية واحدة لا ترى الا اسقاطات ذاتها الأقلية في هامش كبير تقعده الاحادية. لذلك فإن الهجوم المسلح لثوار البانيا مولونغي التوتسي في شرق الزائير اختلفت أجندته السياسية هذه المرة عن سابقتها. انه الآن يخطط لأسر الدولة خلف قناع الذات الاثنية الأقلوية وهذا هو الهاجس النفسي الذي يؤرق التوتسي فارس افريقيا الجديد في عصر التحرير الثاني الذين سبق لهم أن أبيدوا نتيجة السياسات الطائفية للغالبية الهوتو. ها هم الآن عبر الدعم الأوغندي يقعون في الخطأ القاتل الذي اقترفه الهوتو من قبل عام 1994. هكذا تتضخم عقدة الأقلية مختلطة بالهاجس الأمني مما يجبر التوتسي في الخروج عن مقرهم الرواندي فاتحين مثل قصة "دون كيشوت".
انشطار دول جنوب افريقيا حول ماهية المخاطر التي تحدق بالكونغو ودولهم من جراء الهجمة التوتسوية أفرز الى الواقع الافريقي انشطاراً جديداً بوجهين مثل وجه يانوس في الميثولوجيا الاغريقية.
خيار عسكري اتخذته زيمبابوي بقيادة روبرت موغابي وانغولا بقيادة دوس سانتوس، تؤازر هذا الخيار الرامي الى دعم كابيلا في وجه الهجمة التوتسوية وقاعدتها الاقليمية في يوغندا، ناميبيا وقائدها الماركسي القديم سام نجوماً وكذلك زامبيا - حكومة تشيلوبا النقابي السابق التي تجاور حدودها الشمالية الغربية تخوم كاتنغا حيث يحتمي كابيلا وسط عشيرته في لوبومباشي.
انغولا يغض مضجعها انتصار الطلائع التوتسوية يقوي غريمها الثائر الحرون وأكبر لوردات الحروب في افريقيا جوناس سافيمبي الذي ألحق الأذى بحكومة سانتوس على أيام المارشال موبوتو الذي فتح كل منافذ الزائير لايصال شحنات السلاح الى "يونيتا" لقلب الطاولة على جارته الماركسية إبان الحرب الباردة.
ها هو سافيمبي يعود الآن مستفيداً من خلط أوراق اللعبة في المنطقة أكثر عنفواناً متحالفاً مع متطرفي الهوتو الروانديين حلفاء موبوتو، وبقايا فصائل موبوتو ليعلن في صلف وفاة اتفاق السلام المعقود بينه وبين حكومة أنغولا الذي رعته أميركا وروسيا والبرتغال. لذلك رفضت انغولا قبول ديبلوماسية نلسون مانديلا، وارسلت قواتها العسكرية لقطع خط امدادات ثوار البانيا مولونغي في مدينة كيتونا في جنوب غربي الكونغو، وهي إذ تفعل ذلك انما تدافع عن نظامها في لواندا لتطويق "الارهاب" التوتسوي الذي يريد "زعزعة استقرار دول جنوب افريقيا بدءاً من شرقها".
روبرت موغابي أحد أهم حلفاء كابيلا وضع ثقل بلاده خلف الكونغو مميزاً موقفه عن جنوب افريقيا التي اتهمت بارسال الأسلحة ابان الثورة ضد موبوتو الى رواندا.
زيمبابوي تنافس جنوب افريقيا للعب دور اقليمي وتريد حماية مصالحها الاقتصادية وعقودها مع حكومة كابيلا المقدرة ب 200 مليون جنيه استرليني. ونجحت جهودها في انشاء نوع من التوأمة السياسية بينها وبين أنغولا في الشمال في اعتبارها دولاً ذات بأس عسكري من اجل ايقاف تقدم الفيلق الاثني المسلح الذي يخدم مصالح رواندا ويوغندا. لذلك ترابط طائرات سلاح الجو الزيمبابوي في مطار زائير على رغم ما أحدثه ذلك الالتزام من انتقاد معارضي موغابي إلا أنه لم يزده إلا اصراراً. كذلك عززت أنغولا وحداتها التي بلغت 2000 جندي كان لها الفضل في ضرب مؤخرة الثوار وحصرهم بين كنشاسا حيث ترابط قوات كابيلا وبين المدن الواقعة على قبالة المحيط الأطلسي بوما ومتاري وكيتونا حتى وصف أحد الديبلوماسيين الغربيين واقع الثوار ب "الساندوتش التوتسوي".
الشق الافريقي الآخر تقول رواندا ويوغندا التي تطمحان الى بسط الحزام الجغرافي الذي يدين سياسياً لأقلية التوتسي الى أكبر مدى بدءاً من قاعدته في كمبالا وموطئه الحالي في كيغالي حيث يمثلان منها رأس الرمح الاثني صوب الرقعة الافريقية في الجنوب بعد أن أحكم قبضته على كنشاسا وسيطر على مدار الكونغو الشرقي في اقليم كيفو ويزحف في محاذاة الحدود التنزانية نحو جنوب الكونغو مستفيداً من حياد مانديلا السابق وديبلوماسيته المرنة. بالطبع كلما عوّل مانديلا على سوق الأطراف المتنازعة الى طاولة الحوار الذي لا يريده حملة البنادق، كانت زيمبابوي وأنغولا تمضيان قدما فيما سماه مراقب "استخدام القوة الخالصة في طرازها الافريقي العتيق". ولسان حالهم أي بنادق يجب أن تقف أولاً. أليست هي بنادق التوتسي الروانديين... لأن البادئ أظلم.
هكذا انجرت افريقيا بثقلها العسكري والبشري والاقتصادي في قناة الأقلية - الطائفة التي أرادت ان تكون أمة بقوة السلاح.
اشكالية أخرى، هي عندما أعرب بزبمونغو الرئيس الرواندي الحالي عن أطروحته ابان الصراع الرواندي - الزائيري قبيل سقوط موبوتو قال "ان اقليم كيفو تابع لرواندا وسيادتها".
الآن ردد حوالى 60 ألف من عناصر البانيا مولونغي التوتسي حينما أنشبت المنية أظفارها في علاقة الهوى القديم الذي جمع بينهم وثوار السيمبا الزائيريين في معارضة موبوتو منذ ان لاحظ ذلك غيفارا عام 1965.
في رسالة عاصفة وقعها قادتهم قال البانيا مولونغي لكابيلا انهم يسيطرون على الاقليم وسوف لن ينصاعوا الى أوامره التي طلبت اليهم الخروج منه وتوزيع قواتهم العسكرية الى عدة مناطق. انهم يلتزمون "أرض" التوتسي التي بقوا فيها قرابة قرنين.
أضحت كيفو وطناً لهم بالقرب من حدود الوطن الأم. وإذا أدركنا ان الاقليم يتفاعل مع الفضاء الثقافي والاقتصادي باتجاه شرق افريقيا لا سيما يوغندا وتنزانيا ورواندا وبروندي بعيداً عن كنشاسا.
فشلت الفرانكوفونية في اطارها الثقافي صهر التباين الاثني، ان أخطر أنواع العلاقات التي عرفها الانسان حتى عصره الحداثوي هي علاقة الانسان بالأرض التي من أجلها يثور ليكون قاتلاً أو مقتولاً. وان هذا الفضاء الجغرافي المليء بالهضاب والوهاد فلحه الأجداد القدامى في القرن الثامن عشر ليسيطر عليهم أحفادهم "عسكرياً" واقتصادياً في نهايات القرن العشرين.
وبرهن البانيا مولونغي انهم أجدر بحقوق المواطنة التي حرموا منها حينما حملوا السلاح مقاتلين مع كابيلا ليضربوا مثلا الى الكونغوليين بأنهم أتلفوا المهج رخيصة لاطاحة موبوتو رمز الشقاء الكونغولي. فما هي اذا اجندة السياسة التي تكرس حرمانهم من "قدسية" الانتماء للوطن الذي عجز مواطنوه عن تحرير الحرية فيه من الاعتقال الموبوتوي لأكثر من ثلاثين عاماً ونيف، الى ان تصدروا مقدمة الطلائع الثورية في ربيع كيفو الساخن عام 1996؟
رواندا بول كاغاميه كانت تنظر غرباً نحو كيفو منذ اطاحة الهوتو وتصفية حكم الرئيس هابياريمانا حليف موبوتو وفرنسا، حيث مخيمات مليون لاجئ من الهوتو تشرف عليهم كتائب الانترا هاموى المتطرفة. ونسبة لتاريخ التحالفات المتأرجحة مع كنشاسا اضطر بول كاغاميه وزير دفاع رواندا يومذاك تنظيم عملية تطهير عسكري واسع في أيلول سبتمبر 1996.
فاضطر حوالى 700 ألف من اللاجئين العودة الى رواندا بينما اختار حوالى 300 التوجه سيراً على الأقدام قبالة شواطئ المحيط الأطلسي فقضى حوالى ثلثيهم. لذلك كل تجمع أو اختراق هوتوي لنقاط التماس الحدودية يستفز الاحساس الأقلي لحكومة التوتسي في رواندا. وهذا ما فشلت في كبحه حكومة كابيلا، فارتدت بنادق التطهير الآلية للتوتسي صوب كنشاسا بعد أن طالت رواندا عمليات الجيش الرواندي السابق مرتكبا عدة مجازر.
وعبر الحدود مع أوغندا يشكو عرابها موسيفيني من عناصر تحالف القوى الديموقراطية الأوغندية المعارضة التي ينشط فيها مقاتلون من اثنيات شتى مع غلبة العناصر الأصولية الاسلامية التي كثفت من عملياتها العسكرية نتيجة ارتخاء الرقابة الأمنية لحكومة كابيلا متخذة قواعد لها داخل أراضي الكونغو وتدعمها "الجبهة الاسلامية" في الخرطوم. لذلك تحول اقليم كيفو في شرق الكونغو الى ساحة خلفية لتصفية حسابات سياسية من جيران الكونغو منذ أكثر من عام بحجة ملاحقة معارضي الأنظمة في يوغندا ورواندا وبروندي.
قوس الأزمة الافريقية الراهنة يضع عدة تساؤلات ازاء مستقبل الأوضاع في منطقة وسط وجنوب القارة. فهناك الحروب الأهلية الضارية في أنغولا وجنوب السودان والتنافس المميت بين التوتسي والهوتو الذي ارتكز على قواعد مسلحة وتاريخ دموي وهناك كيفو التي تعتمل فيها الآن جذوة الانفصال بلوغاً الى حرب الكونغو الراهنة التي توسع المدار الجغرافي للحريق الممتد رويداً رويداً نحو عمق الجنوب الافريقي مبدلاً التحالفات القديمة ومثيراً سخائم جديدة أكثر مما كان قائماً أصلاً. وهناك الحكومة المترنحة في افريقيا الوسطى كامتداد طبيعي لقبيلة موبوتو التي تنوشها العواصف السياسية.
استطاع كابيلا المحاصر ان يشل انطلاقة التوتسي المتوثبة الى السلطان وخصوصاً كنشاسا وثروات الكونغو، ونجح أن يخلق من الوهن السياسي حين انفض تحالفه القديم المنسوج في شرق القارة، فزاعة لاثارة مخاوف دول الجنوب الافريقي. ان رماح التمرد التوتسي لا تريد رأسه وحده في هذا الموقع المتفرد لا سيما حزام كنشاسا ولواندا وهراري.
الأحداث الراهنة انشأت حلفاً عسكرياً وسياسياً تقوده زيمبابوي وأنغولا ويدور في فلكه الكونغو برازافيل وزامبيا وناميبيا. وربما وقفت الجبهة الاسلامية مع هذا الحلف لأن أهدافه الرامية الى تقزيم النفوذ الأوغندي لن تفوت حسبان الخرطوم لا سيما عقب الضربة الأميركية وبالتالي ربما يفتح كابيلا حدوده مع يوغندا لجيش الجبهة الاسلامية لضرب الحركة الشعبية.
استطاع كابيلا ان يلعب بكرة الوطنية المتنامية هذه الأيام في الكونغو التي تمقت كل ما هو أجنبي وتوتسوي ورواندي. ان الوعي السياسي في شوارع العاصمة كنشاسا يتقدم وعي الأنظمة وكانت الدوائر الناشطة سياسياً لا سيما طلبة الجامعات والأجيال الجديدة "بأننا أقوى من الثوار التوتسي. معنا زيمبابوي وأنغولا وسنصد الهجمة الأجنبية". وفي حي كازافوبو الشعبي في كنشاسا كان القس كوتينو يقول "لا أعلم كيف تكون مشيئة الله نحو الثوار لكنني أجزم بأن الشيطان كان وراء الاعتداء الأجنبي". ويعرب سكان كنشاسا على نحو واضح بأن "الأجانب يقودون التمرد وعلى وجه التحديد يوغندا ورواندا ومساعدة ضمنية من أميركا وفرنسا وبريطانيا".
لذلك كسب كابيلا شعبه حينما حسب التوتسي انه خسره، وخسر تحالف شرق افريقيا لكن لعبة المصالح اكسبته تحالفاً أقوى عسكرياً لم يتردد في حماية الكونغو.
في حالة عدم التوصل لتسوية ما تشمل كل القضايا الأمنية فإن العداء والتوجس سيدفع جنوب القارة الى تقوية تحالفاتها العسكرية، لصد ما تعده توغلاً محضاً لشرق القارة.
انتصار كابيلا في الصراع المسلح الراهن يجعل منه بطلاً حقيقياً الشيء الذي لا تريده رواندا ويوغندا لأنه حينها يكون كسب الرهان العسكري مرتين في أقل من عامين وسيزيد ذلك من شعبيته قدماً نحو الانتخابات المقررة في نيسان ابريل 1999. وان نجح في رهانه الحالي سيتوج رئيساً ديموقراطياً للكونغو وسوف لن يجد بُداً من التفاهم مع قائد الديموقراطية العريق اتيان تشيسيكدي حتى يكون رئيساً للوزراء وحينها سيتوحد جنوب الكونغو سياسياً مدعوماً بثروات الاقليم لاقامة شرعية انتخابية جديدة تلقم خصوم كابيلا الذين رموه بالديكتاتورية لا سيما التوتسي حجراً جديداً.
كيفية توجه السياسة الخارجية لكابيلا بعد الأزمة ان نجح في تجاوزها كما تشير الوقائع سوف تلقي بظلالها على جارتيه في الشرق والشمال الشرقي.
هناك من الواضح نزعات تهدف الى لجم جماح الكونغو المارد الذي يقلب المعادلات الاقليمية حينما يتوجه ثوريا. تحالف كابيلا واتيان وكلاهما من الجنوب يعود بالذاكرة الى تحالف لوممبا - كازافوبو عام 1965.
كذلك خسرت يوغندا ورواندا جميع رجالها التوتسي الذين كانوا يشاطرون كابيلا السلطة في حصان طرواده. وبالتالي تناقص نفوذ الدولتين في داخل السلطة الا من السيطرة العسكرية على اقليم كيفو كخيار غير مضمون وان استضافت عناصر موبوتو لجأت كنشاسا الى انهاء جذوة الهوتو الذين هم أكثر حماسة ونقمة من الموبوتويين في العمل للنيل من خصوصهم في رواندا.
الكونغو المنشطر جغرافيا بولاءات سياسية جمهورية متعددة يعني اضعاف الواقع الأمني لدول الجوار شرقا وجنوبا. تكريس حال الحرب التي استمرت طوال الشهر الماضي يغري دول وسط وشرق وجنوب القارة في التورط في متوالية حروب مصالح من أجل البقاء جاعلة من أرض الكونغو الواسعة فضاء حربياً جديداً.
سوف لن يسلم كابيلا من الضغوط حتى ان خرج المنتصر نهائياً من السيناريو الحالي، مما يضع الضغوط على سياسته الخارجية ويجرها الى ظاهرة ال "فنلاندية" في الديبلوماسية اتقاء لضغينة القدامى الماهرين في زعزعة حكمه عبر وسائط محلية واقليمية ورداً لجميل حلفائه الاقليميين الجدد في جنوب افريقيا. وربما انتهت الأحداث بجعل الكونغو العملاق تابعاً يشكل مصيره حملة السلاح فضلاً عن سيطرة جيوش القبائل والاثنيات المحلية والاقليمية على مصير اقليمه الشرقي.
* ديبلوماسي سوداني سابق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.