حققت البشرية قفزة نوعية في تاريخها عندما كشف العلماء النقاب عن اول مسودة لخريطة شبه كاملة للمخزون الوراثي عند الانسان جينوم. وشهدت طوكيو ولندن وباريس وواشنطن على التوالي الاعلان عن هذا الاكتشاف "القنبلة" الذي وصفه بعضهم بأنه يعادل في اهميته صعود الانسان الى القمر، لكن مايكل دكستر رئيس شركة ويلكوم التي دعمت وموّلت الابحاث في بريطانيا قال رداً على ذلك بأن وضع الخريطة الوراثية هو اهم بكثير من ذلك. والمعروف ان معظم العشر تريليونات من الخلايا التي يتكوّن منها جسم الانسان تملك نواة تحتوي في قلبها على المخزون البشري المعروف باسم "الجينات" المورثات وهذه تتموضع داخل النواة على شكل حبال تدعى الكروموزمات الصبغيات والجينة بحدّ ذاتها تتألف من الحمض النووي الريبي المنزوع الاوكسجين DNA. ان تركيب اي كائن حي هو مجموعة من الصفات المورفولوجية او التركيبية، وهذه الصفات تنشأ تنفيذاً لأوامر صادرة عن الجينات التي تلعب دور الآمر الناهي في الجسم ويقدر عددها عند الانسان بحوالي 100 ألف جينة مسؤولة عن انتاج وتركيب البروتينات التي يتكون منها الكائن الحي، والبعض يقول بأن 30 ألف جينة كافية لتكوين الانسان. ومهما يكن عددها فانها اي الجينات تتحكم بكل شاردة وواردة في الجسم، كما انها يمكن ان تكون مصدراً للعديد من العلل والأمراض. ومن اجل فهم اسرار الجينات وطريقة عملها ووظائفها قام مئات العلماء من 18 دولة في العام 1989 بوضع حجر الاساس لمشروع عالمي عرف باسم "مشروع المخزون الوراثي البشري" هيومان جينوم بروجيكت كان الهدف منه القاء الاضواء على اسباب وآليات الامراض وكيفية رصدها وبالتالي ايجاد الوسائل الناجعة للوقاية منها او لعلاجها. والواقع ان بذور المشروع تعود الى ما قبل ذلك بكثير اي الى العام 1973، اذ بفضل تطور البيولوجيا الجزيئية تمكن العلماء من تسجيل بعض النقاط على الخريطة الوراثية، عندما استطاعوا اماطة اللثام عن مواضع 64 جينة على كروموزمات الانسان، وفي العام 1985 وصل هذا الرقم الى 1500 جينة. واثر ذلك بعامين كان في جعبة الباحثين ما يقارب الثلاثة آلاف جينة وهو رقم ضئيل اذا قورن بمجمل الجينات عند الكائن البشري والمقدرة بحوالي مئة الف جينة. ان الاعلان عن خريطة المخزون الوراثي البشري لم يكن متوقعاً قبل مرور سنوات عدة، الا ان المنافسة بين الباحثين في القطاع العام من جهة والقطاع الخاص من جهة اخرى كانت السبب في تسريع وتيرة العمل والابحاث التي ادت الى صعود الخريطة من ارض الخيال الى ارض الواقع. وكان التضامن ما بين جهود الحكومات والمؤسسات الخاصة والخيرية بمثابة الشرارة التي ساهمت في ولادة الخريطة الوراثية، والولايات المتحدة الاميركية كانت الدولة الاكثر مشاركة، جهداً وتمويلاً، وتليها بريطانياواليابان ومن ثم فرنسا والمانيا والصين ودول اخرى. مدير مشروع المخزون الوراثي البشري في اليابان كان الاول الذي اعلن على الملأ الخريطة واشار الى ان الباحثين توصلوا الى فك رموز 85 في المئة من المادة الوراثية. السيد فرانسيس كولينز المدير العام لمشروع المخزون الوراثي والباحث كريغ فينتر رئيس شركة "سيليرا جينومكس" الخاصة اعلنا النتائج في البيت الابيض بحضور الرئيس بيل كلينتون، الذي دعا بدوره الحكومات الى وضع المبادئ الاساسية اخلاقياً وقانونياً لاستغلال الانجاز والاستفادة منه ودراسة انعكاساته الاجتماعية. وقال الباحث فينتر مؤسس شركة "سيليرا" انه قام بجدولة المخزون الوراثي لثلاث نساء ورجلين من اصل ولون مختلف واوضح انه لا يوجد اساس وراثي لمفهوم العرق، واضاف بأنه من المستحيل تحديد الانتماء العرقي لأي شخص من الاشخاص الخمسة بالاستناد الى المخزون الوراثي عندهم. واضاف فينتر أنه استطاع ومعاونوه ان يضعوا خريطة خاصة للمخزون الوراثي البشري بالاعتماد على طريقة مختلفة عن تلك التي عمل بها العلماء في القطاع العام التابع للحكومات، وبناء على ذلك تمكن وخلال سنتين من فك رموز 99 في المئة من المخزون الوراثي البشري بالمقارنة مع الطريقة التي استعملها علماء القطاع العام والتي استغرقت سنوات عدة. وبفضل الاجهزة الحديثة المتطورة للكومبيوتر التي عملت بلا كلل ولا ملل ليلاً نهاراً وبالاستناد الى المعدات المخبرية الشديدة الدقّة، استطاع علماء 18 دولة ان يضعوا خريطة شبه كاملة للمخزون البشري. وقد تمكّن البحاثة من وضع ترتيب اكثر من ثلاثة مليارات قاعدة تؤلف الحبل اللولبي المزدوج للمادة الوراثية د. ن. أ. DNA والموجودة في نواة كل خلية. اما عن الخارطة كاملة مكمّلة فالعارفون ببواطن الامور يقولون انها ستكون جاهزة بحلول العام 2003. والى ان يحين الأوان يطمح العلماء الى وضع ايديهم على كل الجينات في المخزون الوراثي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: ماذا بعد الخارطة؟ صحيح ان الانسانية تملك اليوم خريطة تمثل المخزون الوراثي، ولكن هذه الخريطة ما زالت ناقصة اذ فيها ثغرات عدة لا بد للباحثين من سدها. وبعد ذلك تأتي الخطوة الاكثر اهمية وهي الانكباب على الجينات لمعرفة اصلها وفصلها والقاء الضوء على وظائفها والدور الذي تلعبه على صعيد الجسم في الصحة والمرض، وبعد ذلك تأتي المرحلة النهائية المتمثلة بوضع النقاط على حروف الوسائل التشخيصية والمبادئ العلاجية والوقائية. غير هذا وذاك ان رسم الخريطة الوراثية لدى البشر حتى ولو كانت كاملة غير منقوصة لا تكفي لوحدها اذ لا بد من ايجاد خرائط وراثية اخرى لحيوانات التجربة كالفأر مثلاً لأنه من خلالها وعبرها يتم وضع اللبنات الاساسية التي تسمح بالاطلاع على ما هو صالح او طالح لبني البشر. ان العلماء ينتظرون الكثير من معرفتهم للجينات البشرية خصوصاً على صعيد تعزيز أسس العلاج بالجينات. فالباحثون يأملون قريباً بوضع حد للامراض الوراثية وذلك باستبدال الجينة المريضة بجينة سليمة تستطيع ان تعبّر عن نفسها عند حقنها في الجسم. ان معرفة اصل الجينات وفصلها وبالتالي كشف طريقة عملها سيفتح الباب واسعاً امام تشخيص وعلاج او ربما الوقاية من امراض كثيرة مثل القزامة ومرض الزهماير وبعض انواع السرطان ووهن العظام والتهابات المفاصل ومرض الربو وعلل القلب. ان تفهّم الوراثة بشكل عام والجينات بشكل خاص، سيكون له اكبر الاثر على بيولوجيا التطور. فالعلماء يأملون في القريب العاجل باستبدال الانسجة المعطوبة في الجسم بأنسجة سليمة، وهذا الحلم الذي يراود البحاثة، والذي قد يظنه بعضهم ضرباً من الجنون، قد يصبح بعد مدة أمراً واقعاً لدى المصابين بداء السكري. ففي دراسات أُنجزت على الفئران حول هذا الموضوع، استطاعت الخلايا الكبدية ان تتحول الى خلايا مفرزة لهرمون الانسولين وبالتالي شفيت الفئران من داء السكري الذي تعاني منه، وما دام هذا الامر قد تحقق لدى الفئران فليس هناك ما يمنع حصوله عند بني البشر. لقد احدث اعلان الخريطة الوراثية ضجة كبيرة اعلامياً نظراً الى أهمية الاكتشاف وآثاره على صحة البشر. ولكن هذه الضجة لم تحجب الاخطار المترتبة عن هذا الانجاز اخلاقياً وقانونياً. فشركة "سيليرا جينومكس" الاميركية الخاصة حاولت مراراً وتكراراً تسجيل آلاف براءات الاختراع عن الاجزاء المكتشفة من المخزون الوراثي البشري، في محاولة منها لبيع ما حصلت عليه من نتائج الى الباحثين والشركات الدوائية. وحتى الآن لم تفلح الشركة في الحصول على ما تريد. وقد وجّه وزير الابحاث الفرنسي انتقاداً مبطناً لشركة "سيليرا" بقوله: "ان الاموال الحكومية هي التي ساهمت في جعل نتائج الابحاث متوافرة للجميع، وجعلت من المخزون البشري ملكاً للبشرية جمعاء بحيث لا يمكن لقلة ان تصادر المعرفة الوراثية". والبروفسور الفرنسي جان ويسباخ مدير مركز الابحاث الوراثية رأى انه يتعين على مكتب تسجيل براءات الاختراع الاميركي رفض طلبات الشركات لأن اكتشافاتها تتعلق بأجزاء من المورثات ولا تحمل جديداً ولا تشكل اختراعاً. ومن المخاوف الكثيرة التي قد تبرز مستقبلاً الانحراف في استعمال الجينات لبلوغ اهداف لم تكن مقررة في الاساس، مثل سوء استعمال الجينات لاغراض اخرى كالحصول على ذكاء خارق او قوة جسمانية لا مثيل لها، كذلك هناك تخوف كبير من اتجاه الابحاث وجهة غايتها ارضاء قلّة من الاثرياء او اعداد ادوية ضد الصلع او السمنة، وغض النظر عن المشكلات الصحية التي يعاني منها اغلب الناس. ايضاً على الصعيد الاجتماعي هناك قلق واضح من وقوع المعلومات الوراثية في ايدي شركات التأمين وارباب العمل لاستخدامها في اكتشاف الاستعداد للاصابة بمرض ما، وهذا ما يدفعها الى ممارسة التمييز بين الناس وراثياً فتقبل من تراه مناسباً وترفض من يملك استعداداً للمرض. دكتور، هل انا مصاب بمرض ما؟ انه سؤال منطقي ومحق وقد يمكن للمريض ان يطرحه على طبيبه مستقبلاً. اذ بعد وضع الخطوط العريضة للبطاقة الوراثية، فان هذا سيمكن من اختراع الفحوص التي تسمح بكشف الاستعداد للاصابة بمرض ما، وبالتالي يمكن للطبيب ان يقول لمريضه الذي ورث علّة، اذا كان سيصاب بها عاجلاً ام آجلاً. ولكن ما هو نفع الاجابة على مثل هكذا سؤال ما دام العلاج النافع والناجع غير موجود اصلاً؟ ان نتيجة الفحص قد تكون سلبية وفي هذه الحالة هناك فائدة منه، اذ يرتاح المصاب من القلق الذي يركبه كظله نتيجة شكه المستمر بحدوث المرض. والنتيجة ايضاً قد تكون ايجابية وهنا الطامة الكبرى، اذ يعلن الطبيب للمصاب، بأنه مقدم على الاصابة بعلة ما، وهذا ما يقود صاحبنا الى المعاناة من الخمود النفسي ومن يدري فقد تؤدي به الى الانتحار. واضافة الى هذا وذاك، ان كشف الجينة المسؤولة عن مرض ما لا يعني حتماً ان صاحبها سيعاني من المرض، بل انه قد لا يصاب به اطلاقاً. عدا ذلك فإن المرض قد لا ينتج عن سبب واحد بل عن اسباب عدة. محطات أساسية في نصف قرن لوضع الخريطة الوراثية - في العام 1953 استطاع العالمان الانكليزي فرانسيس كريك، والاميركي جيمس واطسون وضع النموذج المزدوج للمادة الوراثية د. ن. أ DNA. - في العام 1966 تم اكتشاف المفتاح الوراثي. - في العام 1972 اول تجربة لنسخ الجينة المورثة. - في العام 1983 تم الاعلان عن فحوى الابحاث الاولى المتعلقة بالجينات المسبّبة للامراض الوراثية. - في العام 1984 نُشر اول الابحاث المتعلقة بالبصمات الوراثية. - في العام 1985 عقدت المؤتمرات الاولى حول فك رموز المخزون الوراثي عند البشر. - في العام 1990 بدأ العدّ العكسي لمشروع "المخزون الوراثي البشري". - في العام 1995 اعلن عن فك رموز المخزون الوراثي عند جرثومة "هيموفيلوس انفلونزا". - في العام 1998 نشرت المعلومات المتعلقة بفك رموز الكروموزم كلياً وعلى اثرها اعلن بأن فك المخزون الوراثي عند الانسان سيتحقق في العام 2000. - في العام 2000 اعلنت النتائج المتعلقة بخريطة المخزون الوراثي البشري. شهادات الرئيس بيل كلينتون: "انها اهم وأعظم خارطة اعدتها البشرية حتى الآن". طوني بلير رئيس وزراء بريطانيا: "انه اول انجاز تكنولوجي في القرن 21". يانع هوانمنغ من معهد الابحاث الوراثية في الصين: "ان البشرية خطت نحو مرحلة جديدة من معرفة البشر لأنفسهم". رئيس وزراء اليابان يوشيرو موري: "انها خطوة عملاقة للبشرية نحو كشف اسرار الحياة نفسها". جون سالستون مدير مركز سانجر - بريطانيا: "انه انجاز سيغيّر من المنظور الفلسفي الطريقة التي ننظر بها الى انفسنا". مايكل دكستر رئيس شركة "ويلكوم": "انه انجاز لا مثيل له في كل العصور وهو سيؤثر على حياة كل فرد على هذا الكوكب". روجيه جيرار شوارتزنبرغ وزير الابحاث الفرنسي: "ان فك رموز الحياة البشرية يشكّل منعطفاً في مسيرة العلوم".