تسارعت الأحداث في الشرق الأوسط متجهة نحو الإنفجار الكبير، على رغم الجهود الديبلوماسية وكثرة الموفدين الدوليين الى المنطقة. وبدا الغضب الشعبي العربي، من المحيط إلى الخليج، أقوى من كل شيء، بعدما بثت شاشات التلفزة صوراً لا يستطيع أي انسان ان يقف مكتوف اليدين حيالها. فقد شاهد ملايين العرب صور الفلسطينيين العزل إلا من الحجارة، وبينهم أطفال، وهم يسقطون برصاص جنود الاحتلال الاسرائيلي. وبلغ الغضب الشعبي الفلسطيني ذروته في رام الله عندما هاجمت الحشود مقراً للشرطة الفلسطينية وقتلت اسرائيليين اثنين، ما ضاعف التوتر ودفع الاسرائيليين الى استخدام الصواريخ للمرة الأولى في الضفة الغربية وقطاع غزة وقصف مقرات الشرطة ومراكز أخرى مدنية وعسكرية. وفي بضع ساعات أفلت زمام الأمور من يد الجميع، ولم تنفع الدعوات الى التهدئة وسط احتقان لم تعرفه المنطقة منذ حرب 1973. انها الحرب، كما بدت تباشيرها، أو كما تمناها كثيرون. لكنها في كل الحالات حرب غير متكافئة، حتى وان وقعت، لأسباب واضحة وضوح الشمس. ومع ارتفاع الأصوات العربية، وفي ظل صمت الجبهات العربية المحكومة باتفاقات سلام أو باتفاقات هدنة وفصل قوات، بدت الحرب الأكثر احتمالاً بين العرب واسرائيل حرب الديبلوماسية، اذ سرعان ما تمت الدعوة إلى قمة ثلاثية سعودية مصرية سورية تسبق القمة الموسعة التي تشكل الاختبار العربي الأول في مواجهة اسرائيل منذ أكثر من ربع قرن. إلى أين تسير عملية السلام؟ بل إلى أين يسير الشرق الأوسط المتفجر؟ ومتى يصبح المجتمع الدولي قادراً على جعل اسرائيل ترضخ للقرارات الدولية، بل للشرعية الطبيعية؟ أسئلة كالهواجس المقلقة لا يستطيع أحد الإجابة عليها.. فالأولوية لإنقاذ الشعب الفلسطيني المهدد في حياته اليومية.. قبل البحث في أي شيء آخر. ربما كان حديث الحرب واحتمالاتها في وقت من الأوقات سهلاً. لكن شن الحرب وتحمل مسؤولياتها والتحكم بنتائجها ليس بالتأكيد من الأمور السهلة. ولعل في هذا، على الأرجح، ما يفسر الطريقة التي رد بها الرئيس حسني مبارك على الدعوات الى تصعيد الموقف ودخول العرب في حرب مع اسرائيل. فالرئيس مبارك سارع الى التذكير بأن "الحرب ليست مسألة سهلة"، وأن قرار الدخول في حرب لا يمكن أن يتخذ تحت ضغط الانفعالات العاطفية، أو استجابة لمشاعر الجماهير وتصفيقها. ولم يكن هذا الموقف المصري مختلفاً عن موقف سورية. فوزير الخارجية السوري فاروق الشرع كان بدوره على القدر نفسه من الوضوح والحزم عندما سارع الى التأكيد أيضاً على أن "لا سورية ولا لبنان ولا المقاومة اللبنانية تسعى الى الحرب مع اسرائيل". ويعبر هذان الموقفان من جانب الدولتين العربيتين الرئيسيتين اللتين ستكونان معنيتين في صورة مباشرة بأي حرب قد تندلع في المنطقة بين اسرائيل والعرب، عن القلق المتزايد في أكثر من عاصمة عربية واقليمية ودولية حيال الاحتمالات الخطيرة التي ينطوي عليها استمرار الاتجاه التفجيري. ولعل الأكثر دلالة وأهمية من ذلك هو ما يعبر عنه الموقفان المصري والسوري من تمسك حاسم بالاستراتيجية العربية المتبعة منذ فترة طويلة، والتي بات جلياً أن المواجهة الحالية، وما رافقها من أحداث ومآس مؤلمة، لم تؤد حتى الآن الى تغييرها. فالسلام بالنسبة الى العرب، أو أقله بالنسبة الى القوى السياسية والعسكرية الرئيسية والمؤثرة بينهم، لا يزال حتى الآن، خياراً استراتيجياً ثابتاً في حين أن الحرب ليست مطروحة، في الوقت الحاضر على الأقل، كبديل جدي أو واقعي. والتمسك بالسلام، وبالأسلوب التفاوضي السلمي لتحقيقه، لا يقتصر في الجانب العربي على القاهرةودمشق، بل يمكن القول بأنه يمثل بالقدر نفسه موقف معظم العواصم العربية، وصولاً الى القيادة الفلسطينية نفسها. فهذه الأطراف العربية لم تفقد، حتى الآن على الأقل، الاقتناع الذي كانت توصلت اليه قبل أكثر من عقد من الزمن وفي واقع الأمر حتى ما قبل بدايات عملية السلام ومفاده ان الوسيلة المثلى لإنهاء الصراع العربي - الاسرائيلي هي من خلال تسوية سياسية عن طريق المفاوضات. ونجم اعتماد العرب هذا "الخيار الديبلوماسي" عن مجموعة من العوامل السياسية والعسكرية والاستراتيجية التي بدأت معالمها في الظهور خلال النصف الثاني من السبعينات، ومن ثم تبلورت تدريجاً خلال الثمانينات، قبل أن تترسخ خلال التسعينات. وأهم هذه العوامل توقيع معاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية وخروج مصر بالتالي من حلبة الصراع المسلح مع الدولة العبرية. وتبع ذلك محاولات قامت بها دمشق على مدى سنوات لتحقيق شعار "التوازن الاستراتيجي" مع اسرائيل من منطلق أن سورية، بعد خروج مصر، باتت الدولة العربية الوحيدة المالكة لخيار عسكري عربي يتمتع بالصدقية في مواجهة التفوق العسكري والاستراتيجي الاسرائيلي. لكن هذه المحاولات لم تفلح في تحقيق هدفها، بل جاءت أحداث مطلع التسعينات، وما تلاها من آثار وتفاعلات، لا سيما الغزو العراقي للكويت وأزمة الخليج التي نجمت عنه وانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك كتلته الاشتراكية وانتهاء حقبة الحرب الباردة وعصر الاستقطاب الدولي بين القوتين العظميين، لتضع حداً نهائياً تقريباً لأي طموحات سورية أو عربية عموماً تهدف الى التوصل الى توازن استراتيجي مع اسرائيل، أو الى امتلاك خيار عسكري جدي في مواجهتها. هذا الوضع السلبي، من وجهة النظر العربية، لم يتغير، ومن شأنه أن يضع حدوداً بالغة القسوة على هوامش التحرك والمناورة العربية سياسياً وعسكرياً. كما انه يجعل من استمرار الالتزام العربي بعملية السلام وأسلوب المفاوضات أمراً لا بد منه ولا غنى عنه أكثر منه خياراً مفضلاً. لكن ذلك لا يعني، في المقابل، ان الجانب العربي يفتقر تماماً الى خيارات أخرى ربما كانت أكثر فائدة من أساليب الحرب النظامية الشاملة وموازينها غير الملائمة. ولا بد من التأكيد هنا أولا ان التركيز العربي على نفي الرغبة في خوض حرب مع اسرائيل لا يتعارض مع استعداد الدول العربية للدفاع عن نفسها وعن مصالحها وعن التزاماتها الأمنية والاستراتيجية في حال قيام اسرائيل بشن هجوم عدواني على الأطراف العربية المعنية بالأزمة الراهنة. وكان هذا فعلاً ما حرصت كل من مصر والمملكة العربية السعودية على تأكيده رداً على التهديدات الاسرائيلية الموجهة الى سورية ولبنان. فالعرب قادرون في نهاية المطاف على اعتماد استراتيجية عسكرية دفاعية فعالة يستطيعون من خلالها الحاق خسائر بالجانب الاسرائيلي. بل ان هذه القدرة الدفاعية العربية قد تكون كافية حتى لردع اسرائيل ومنعها من تنفيذ مغامرات عسكرية غير مضمونة العواقب، لا سيما ضد دولة مثل سورية لا تزال تمتلك قدرات قتالية تستطيع توجيه ضربات موجعة جداً ضد القوات الاسرائيلية والعمق الاستراتيجي الاسرائيلي. غير أن الخيارات العربية المتاحة تتسع لتشمل مجالات أساسية يفتقر اليها الجانب الاسرائيلي، وهي كفيلة بتحييد حيز كبير من عناصر التفوق العسكري والاستراتيجي الذي تتمتع به اسرائيل. فالقوة العسكرية النظامية مواجهة في مطلق الأحوال بمحدوديات لا تستطيع تجاوزها. وهذه المحدوديات تنعكس، عاجلاً أم آجلاً، على أداء هذه القوة، وعلى أساليب عملها، وعلى الوسائل التي تستطيع استخدامها، وبالتالي على النتائج التي يمكن لها أن تحققها على الأرض. وهذا العامل بالذات هو ما يثير قلق الاسرائيليين حالياً. فالتجربة اللبنانية، التي نجحت المقاومة من خلالها في شن حرب استنزافية متواصلة وفعالة ضد الاحتلال الاسرائيلي في الجنوب، كانت كفيلة بدفع القيادة السياسية والعسكرية الاسرائيلية الى اتخاذ قرارها بالانسحاب من المنطقة بمعزل عن التفوق الكاسح الذي كان يفترض أن تتمتع به القوات الاسرائيلية في مواجهة عناصر المقاومة كماً ونوعاً. أما المثال الآخر الذي تجد اسرائيل نفسها في مواجهته حالياً، وللمرة الثانية خلال عقد من الزمن، فهو أسلوب الانتفاضة الشعبية في مدن الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وفي قراها وأحيائها وشوارعها ومخيماتها. فالأمر الذي بات ثابتاً، سواء ابان الانتفاضة الأولى في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، أو خلال الانتفاضة الجديدة على مدى الأيام الماضية، هو ان الآلة العسكرية الاسرائيلية، ومن ورائها القيادة السياسية هناك، لا تملك وسيلة أو أسلوباً أو حلاً في مواجهة هذا الأسلوب أو التعامل معه بنجاح. ويلخص هذا الواقع المأزق الحاد الذي يجد رئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود باراك وقادته العسكريون أنفسهم فيه، وهو المأزق نفسه الذي كان رئيس الحكومة الاسرائيلية السابق و"أستاذ" باراك ومرشده اسحق رابين واجهه في التعامل مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، عندما كان وزيراً للدفاع في حكومة "الوحدة الوطنية" الاسرائيلية التي كانت برئاسة اسحق شامير زعيم تكتل ليكود آنذاك. بل ان مأزق باراك أشد حدة وهو يقارن بالمأزق القاتل الذي واجهه رئيس الحكومة السابق مناحيم بيغن في أعقاب الاجتياح الاسرائيلي للبنان العام 1982، والذي ما لبث أن قضى بنتائجه وتفاعلاته على حياة هذا الأخير السياسية والشخصية. ولعل في هذا ما يفسر الارتباك الذي اتسمت به ردود باراك ومواقفه وأساليب تصرفه حيال الأحداث الأخيرة، بدءاً من اندلاع "انتفاضة الأقصى"، وتحولها بسرعة الى "معركة القدس"، لتصبح عملياً "حرب الاستقلال" الفلسطيني. فرئيس الحكومة الاسرائيلية يدرك تماماً حتى ولو رفض الإقرار بذلك علانية، انه لن يكون قادراً على حسم هذه "الحرب" بالوسائل العسكرية. ولا يمكن فهم سلسلة التصريحات والتهديدات التي اطلقها باراك، بما في ذلك الانذارات المتتالية التي وجهها الى رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ياسر عرفات مطالباً إياه فيها بوقف "أعمال العنف" وإلا اعتبر عملية السلام في حكم المنتهية، وصولاً الى حشد القوات الاسرائيلية على مشارف المدن والقرى الفلسطينية، ومن ثم الذهاب بعيداً في استخدام الوحدات المدرعة والمدفعية والصاروخية والقوات الخاصة ضد المواطنين الفلسطينيين، إلا من زاوية افتقار القيادة الاسرائيلية الى البدائل والخيارات السياسية والعسكرية الحقيقية في مواجهة هذه الانتفاضة التي بات واضحاً حتى بالنسبة الى العديد من الأوساط الاسرائيلية نفسها ان لا علاج ناجعاً لها إلا منح الفلسطينيين ما يطالبون به من حقوق وطنية وسياسية مشروعة. وتتمثل حدة المأزق الذي يواجه باراك والمؤسسة السياسية والعسكرية الاسرائيلية حيال طرق التعامل مع الانتفاضة الفلسطينية الحالية في العناصر الرئيسية الآتية: 1- ان الانتفاضة الجديدة تتم تحت شعار سياسي واضح ومحدد، وهو "تحقيق الاستقلال الوطني الفلسطيني وإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس". وهذا الشعار يحظى بتأييد كاسح من جانب الفلسطينيين، وبشبه إجماع لدى الدول العربية والاسلامية، وبدعم واسع النطاق على الصعيد الدولي. وهو لا يخرج عن نطاق قرارات الشرعية الدولية، الى جانب انه يشكل في نظر العديد من الاسرائيليين أنفسهم الوسيلة الوحيدة المتاحة للخروج من الأزمة وانهاء الصراع. ويشكل كل هذا، أمراً واقعاً سيكون من الصعب على باراك وحكومته التملص منه أو تجاوز اعتباراته السياسية اقليمياً ودولياً، الى جانب انه سيكون من شبه المستحيل على الدولة العبرية العمل على "قمع" المنادين بتحقيق هذا الشعار بالوسائل العسكرية من دون رادع أو مانع. 2- ان الانتفاضة الحالية على المستوى الميداني تتم تحت مظلة قيادة سياسية وعسكرية واضحة ومحددة تتمثل بالسلطة الفلسطينية ورئيسها ومؤسساتها المعترف بها عربياً وعالمياً وبمقتضى الشرعية الدولية. وهذا يعني انه بغض النظر عن الموقف من هذه القيادة، أو من أدائها ومدى فاعليتها وكفاءتها، سيتعين على الجانب الاسرائيلي التعامل معها للخروج من الأزمة. 3- ان الانتفاضة الحالية، وعلى خلاف الانتفاضة الأولى، تجري على خلفية وجود ما يزيد على 40 ألف مقاتل فلسطيني مسلح داخل الأراضي الفلسطينية. وهذا العامل، الأول من نوعه منذ قيام دولة اسرائيل عام 1948، يعد تطوراً حيوياً لا تستطيع أي قيادة سياسية أو عسكرية اسرائيلية الا أن تأخذه في الاعتبار عند اتخاذها أي قرار يتعلق بمواجهة هذه الانتفاضة والتعامل معها. ولا يمكن إلا أن نتصور كيف ستتحول أي عملية عسكرية اسرائيلية تهدف الى التصدي للانتفاضة في صورة منهجية الى مواجهة مسلحة شاملة مع قوات الشرطة الفلسطينية، ومعها الآلاف من المسلحين الفلسطينيين، على شكل حرب مدن وقرى وشوارع بالغة العنف والدموية، الى حد قد لا تكون اسرائيل قادرة على تحمل تبعاته داخلياً وخارجياً. عرب اسرائيل 4- ان الانتفاضة الحالية، وعلى خلاف الانتفاضة الأولى، باتت تتمتع بامتداد عميق ومباشر في صفوف عرب اسرائيل من الفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم بعد قيام الدولة العبرية عام 1948. وهذا ما سيعني، باعتراف الأوساط الاسرائيلية نفسها، ان اي انزلاق نحو مواجه شاملة بين القوات الاسرائيلية والمواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة سيكون مدخلاً نحو التحول بسرعة الى انفجار داخل أراضي 1948 نفسها، بل وربما الى حرب أهلية اسرائيلية. 5- ان الانتفاضة الحالية، ولأسباب وعوامل عدة ربما كانت غائبة في الماضي، باتت تمتلك امتداداً اقليمياً واسع النطاق لم يعد في مقدور أحد في المنطقة أو في العالم تجاهله. وهذا سيعني بدوره أن أي قرار اسرائيلي بشن "حرب" شاملة ضد هذه الانتفاضة لن يظل مقتصراً في أبعاده وانعكاساته على الأراضي الفلسطينية، بل سيكون مرشحاً للتحول الى "قرار مواجهة اقليمية شاملة" تعصف بالمنطقة. وبالطبع، فإن معطيات على هذا القدر من الخطورة والشمولية كفيلة بدفع جميع الأطراف الاقليمية والدولية المعنية بملف الصراع العربي - الاسرائيلي ومصير العملية السلمية الى المسارعة لبذل الجهود لتفادي الانهيار الشامل والخروج من المأزق والحؤول دون الانفجار قبل فوات الأوان. لكن كل ذلك لن يجدي نفعاً إلا إذا ما تم التوصل الى الحد الأدنى الذي بات ضرورياً للاستجابة لطموحات الفلسطينيين في تسوية عادلة ومقبولة ومعقولة. فالحؤول دون تحول الوضع الحالي الى مواجهة اقليمية شاملة لم يعد أمراً يقتصر تحقيقه على رغبات العواصم والدوائر والأروقة الديبلوماسية، بل انه أصبح مرتبطاً بالقدرة على إعادة عملية السلام الى الأهداف الأساسية التي قامت من أجلها أصلاً. وإذا كانت الأحداث التي شهدتها المنطقة خلال الاسبوعين الماضيين برهنت عن شيء، فإنها أثبت، وبشكل ربما كان مغايراً للتوقعات، ان الخيارات العربية المتاحة ليست معدومة، وأن البدائل الاسرائيلية هي التي تعاني في الواقع من محدوديات عميقة لم تكن ظاهرة حتى الآن. فالجانب الاسرائيلي يستطيع شن حرب نظامية على سورية ولبنان، وسيكون في مقدوره الحاق الكثير من الأذى والضرر في هذين البلدين، لكنه لن يكون قادراً على تحقيق أي من أهدافه الاستراتيجية أو السياسية في حرب كهذه، بل ان خسارته على هذا الصعيد ستكون أفدح وأقسى من تلك التي مني بها جراء غزوه للبنان عام 1982، لا سيما من زاوية وضعه الداخلي والاقليمي والدولي. اما بالنسبة الى الجانب الفلسطيني، فإن نجاحه في إشعال هذه الانتفاضة، وتحويلها الى التحدي الأشد والأقسى الذي تواجهه الدولة العبرية في احتلالها للأراضي العربية منذ هزيمة عام 1967، يعد انجازاً تاريخياً لم يعد من الممكن تجاوزه. وربما كانت القوة العسكرية الاسرائيلية قادرة نظرياً على قمع الانتفاضة، وتدمير الضفة الغربية وقطاع غزة، وحتى إعادة احتلالهما لكن كل ذلك لن يكون أكثر من محاولة عقيمة لإرجاع عقارب الساعة الى الوراء، تماماً مثلما ستكون الحال عليه إذا ما حاولت اسرائيل اجتياح لبنان واحتلال جنوبه مرة أخرى. من هذا المنطلق تبدو البدائل الاسرائيلية محدودة. ولن يكون مستبعداً أن تصل القيادة الاسرائيلية، وعلى الأرجح بعد عناد كثير، الى الاستنتاج الذي لا بد منه، وهو أنه لا حل لهذه ازمة ولا نهاية لهذا الصراع إلا من خلال العودة الى المبدأ البسيط والقديم الذي قامت عليه عملية السلام أصلاً، أي الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلت عام 1967، وحصول الفلسطينيين على دولتهم المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدسالشرقية. وقد يكون هذا الأمر مسألة يصعب على الكثير من الاسرائيليين القبول بها في الوقت الحاضر، لكنه سيكون بالتأكيد أفضل من مواجهة وضع تعود فيه المنطقة العربية برمتها الى المناداة بشعار "تحرير فلسطين من النهر الى البحر". فهذا الشعار الذي كان سقط من مفردات القاموس السياسي العربي على مدى سنوات ساد خلالها الاعتقاد بأن التسوية مع الدولة العبرية ممكنة ومحبذة، قد يعود الى البروز من جديد إذا ما وصل الفلسطينيون والعرب الى الاقتناع بأن مثل هذه التسوية غير قابلة للتحقيق نتيجة التصلب الاسرائيلي. وفي مثل هذه الظروف لن تكون الانتفاضة فلسطينية، بل عربية واسلامية. وهذا الاحتمال لا يريده طبعاً أي من المعنيين بالأزمة الحالية. ولذلك تستمر المحاولات للإبقاء على عملية السلام، ولإحياء فرص التسوية. لكن الكرة باتت في الملعب الاسرائيلي، وسيكون من شأن القرار الذي ستتخذه اسرائيل هذه المرة تحديد مستقبلها ومستقبل المنطقة برمتها