"مجرد عين، ولكن يا لها من عين" قال سيزان. رئيس الثوريين في شبابه اعتبر تقليدياً في كهولته، لكنه كان ثرياً يومذاك على الأقل ويملك حديقة ستغير نظرة كثيرين إليه. كلود مونيه مجدداً في الاكاديمية الملكية في لندن التي باعت أكثر من مئة ألف بطاقة دخول قبل افتتاح "مونيه في القرن العشرين"، وثلثي اللوحات عن حديقته الشهيرة في جيغفري قرب باريس. كانت الاكاديمية نظمت معرض "مونيه في التسعينات" في 1991 وجذبت سبعة آلاف زائر يومياً، وهي تتوقع ان يجلب الفنان النجم أكثر من نصف مليون بين 23 كانون الثاني يناير و18 نيسان ابريل 1999. الحب متبادل بين ابي الانطباعيين الذي كان يرتدي الجوخ الانكليزي والمدينة التي سحرته بلعبة الضوء والظل فيها. رسم اشراقها وسديمها وضبابها، ووجوهاً ملائمة تماماً، بحسب كارهي الانطباعيين الذين يتهمونهم بأنهم لا يعرفون الرسم. مسيو مونيه استعان بالضباب لتغطية الأماكن الكثيرة التفاصيل التي نفر من رسمها لا سعياً إلى طريقة أخرى واكتشافه التجريد في أواخر حياته كما نتوهم. وربما هرب من الموضوع إلى الضوء واللون، قالوا، لأنه ابتلي باعتام عدسة العين فلجأ إلى محو الحدود ورسم لوحات لا بداية أو نهاية فيها للسماء والظل والماء والضوء. ما الذي قدمه مونيه تعويضاً عن إلغاء الشكل الذي قرّب بيكاسو وبراك، مبتكري التكعيبية إلى سيزان؟ قال إنه أراد أن يرسم "وهم الكل الذي لا نهاية له" ولم يترك نقطة واحدة في لوحات الحديقة إلا ملأها باللون. اغاظني غياب الفراغ فيها، لكن هذا ما كان يبغي تجنبه. نقاد زمنه سخروا من "فراغ" أعماله الأخيرة ورأوها نهاية مثيرة للشفقة، لكن التجريديين بهروا بنسفه الحواجز وجرأته على إلغاء الشكل الذي سيطر قبله على الفن. هل تكمن جاذبية مونيه إذاً في سهولته وتقديمه مشاهد جميلة مريحة للنفس والعين؟ ابتلي الفنان بموت زوجته الأولى في أوائل عقدها الثالث بالسرطان، ثم توفيت زوجته الثانية فعجز شهوراً عن العمل وتبعها ابنه وجُند ابنه الآخر. كان منزله بعيداً عن القتال أحياناً نحو ثلاثين كيلومتراً، وتوفي أصدقاء في الحرب ومر الجنود الجرحى أمام منزله يشحذون نوبات الكآبة التي هاجمته بين الحين والآخر. لم يرد على الحرب بإدانتها كما فعل بابلو بيكاسو لاحقاً في "غرنيكا"، بل بالتعلق بأزهار حديقته والحديث عنها كأنها بشر، وبرسم ما يبدو له فرح الحياة الابدي. كانت مشكلته ان ينقل شيئاً آخر غير تظاهرة الألوان والجمال في الحديقة فصنع وهمه الذي هرب به من المأساة، خاصة وعامة، وان رسم الصفصاف الباكي وزادت عتمة ألوانه، شاء ان يضبط لعبة الانعكاسات في بحيرة الحديقة التي "حوى" ماؤها السماء والزنابق والظلال، واختلطت ألوانها حتى بدت أحياناً بحثاً رخيصاً عن البهجة. ربما كان ذلك ما دفعه إلى مزيد من السديمية في رسم المناظر الجامدة التي كان عليه أن يصنع حركتها بنفسه. جورج كليمنصو، رئيس الوزراء الفرنسي وصديق كلود مونيه، ارسل له قماش اللوحات الضخمة بالقطارات خلال الحرب، وشجعه عند نهايتها ان يهدي إلى بلاده سلسلة من لوحات زنابق الماء بدلاً من لوحتين فقط صور فيهما الحديقة. هل كان كليمنصو يلمّح إلى غياب العمق عندما قال، مثل سيزان، ان مونيه "لا يستطيع أن يرسم ما لا يراه". وسط القساوة التي لا تحتمل للقتال والحياة رسم عالماً بديعاً لا بشاعة أو تشوه أو بشر فيه. الجنة قبل أن يطأها الإنسان ويفسدها، والوجه المشرق للحياة الذي يقابل الوجه المعتم فينا، عندما بدأ يفكر باللوحات الكبيرة في نهاية القرن الماضي قال إنه يتخيل غرفة مستديرة جدرانها من الماء المنقط بالنبات. "جدران من الشفافية، خضراء وزهرية زاهية، والماء ساكن صامت يعكس الأزهار المتفتحة، وكما في حلم الألوان غامضة عذبة وقريب احدها من الآخر". بدأ ثورياً وانتهى ثورياً، يقول المتحمسون، وكانت زنابق الماء أقوى ما رسم. قد يكفي ذلك بعض الوقت ولكن ماذا عن كله؟