ماذا يقول ذوق شعب ما في الفن عنهم؟ ثمانمئة بريطاني من مختلف الأعمار والطبقات في المدن والريف صوتوا أولاً لپ"عربة القش" التي رسم فيها رسام القرن التاسع عشر جون كونستابل بيتاً ساكناً في الريف محاطاً بالشجر والماء. الرسام الذي توفي منذ 161 عاماً خاطب ميل الانكليز إلى "الجنة المفقودة" وهوسهم بالحدائق وحصل على واحد وأربعين في المئة من الأصوات، في حين نال خروف داميين هرست المنقوع في الفورمالديهايد اثنين في المئة، وعبرت الغالبية عن حيرتها إزاء الخروف الأبيض في صندوق من لون مماثل بالقول ان لا رأي لها البتة فيه. كلود مونيه زعيم الثوريين في أواخر القرن التاسع عشر أثار السخرية والرفض أولاً. ثم اعتبر موضة قديمة في أواخر حياته. لكن ماذا تنتظر من الانكليز؟ مونيه أتى ثانياً بزنابق الماء الشهيرة، وأبدت النساء اعجاباً أكبر به في حين كان يغمى عليهن منذ قرن عند رؤية أعمال الانطباعيين. ومن الماء والشجر إلى "دّوار الشمس" في الأصل للهولندي التعيس فنسنت فان غوغ الذي كنت أظن أن شهرة ازهاره الصفراء جعلتنا نعرض عنها إلى الأبد. واعطى البريطانيون ربع اعجابهم لجوزف ترنر عن لوحة "مطر، بخار وسرعة" وأكدوا تفضيلهم للسكينة بانتقائهم أربع لوحات عن الطبيعة أولاً ثم تفرقوا بين بابلو بيكاسو وسلفادور دالي واندي وارهول وديفيد هوكني وداميين هرست الذين تراوحت شعبيتهم بين ستة عشر واثنين في المئة. هل يعيد البريطانيون الرسم إذاً إلى العين وحدها أي إلى ما نراه من دون تغيير أو تدخل بالحس أو الفكر أو التجربة؟ بول سيزان ظن أنه كان يمدح مونيه لكنه ربما كان يذمه أيضاً: "انه عين فقط، لكن يا الهي ما هذه العين!". ولئن اتجه الرسام في أواخر حياته إلى التجريد، فقد أصر عارفوه، ومنهم صديقه جورج كليمنصو رئيس الوزراء الفرنسي، على أنه لم يكن يستطيع رسم ما لا يراه. اليوم يعاد الاعتبار إلى مونيه بعد نحو قرن ويعتبر رائداً راديكالياً للرسم الطليعي في أوروبا وأميركا، وتستعد الأكاديمية الملكية، لندن، لإقامة معرض له من كانون الثاني يناير إلى نيسان ابريل السنة المقبلة. فالفنان الذي عانى من موت زوجته وابنه والقتام في عينيه، لم يكن يبحث عن الضوء وحده في اللوحات التي جعلها حياة موازية له، بل ترك ايقاعات لونية حرة من الموضوع والتقليد بعد أن بقي أميناً للطبيعة معظم حياته. جون كونستابل لا ينجو من تهمة ارتكاب الجمال لوحة بعد أخرى. مجرد جمال يوحي سلاماً داخلياً اللون الأزرق كان المفضل عند العينة وعلاقة مفهومة بين الإنسان والطبيعة من دون اهتمام بما يتعدى نقل ما تراه العين إلى القماش. كونستابل وجد أنصاراً بين مختلف فئات العمر، في حين فضل مونيه من تعدوا الخامسة والخمسين من الطبقات الوسطى. والشباب؟ لهم بيكاسو ودالي ووارهول بالطبع لميلهم إلى المختلف وتمردهم على المقاييس المألوفة والمتبعة، إلا أن معجيبهم كانوا ذكوراً أكثر منهم اناثاً. هل النساء إذاً أكثر تقليدية في الفن أم أكثر بحثاً عن الدفء والرومنطيقية؟ لا تكفي دراسة واحدة لنعرف، علماً أن لكثير من الدراسات دراسات مضادة. أفكر بالولد الرهيب في الفن البريطاني واتساءل عن خطوته التالية وما إذا كان سيصبح أكثر تقليدية عند تقدمه في العمر. أبقاره وخرفانه المحفوظة في سائل كيماوي أوصلته إلى فتح مطعم سماه أولاً "صيدلية". قد لا نعتبر حيواناته فناً طوال عمرنا لكن الذين قالوا له نعم من أهل لندن يزدادون انفتاحاً على الحر والغرائبي. هل يتغير حظه بعد مئة سنة كما حدث لمونيه؟