تحتفل منطقة "النورماندي" الفرنسية هذا العام بالفنانين التشكيليين الانطباعيين من خلال مجموعة من المعارض المخصصة لنتاجهم في مدن كثيرة تستقطب كل صيف ملايين السياح، ومنها المدن التي أنجز فيها الفنانون عدداً من أعمالهم المهمّة التي تعدّ اليوم من روائع الفن الانطباعي وتشكّل محطة أساسية في تاريخ الفن الأوروبي في القرن التاسع عشر. تؤكّد هذه المعارض من جديد أهمية الدور الذي لعبه الانطباعيون وكان نتاجهم الإبداعي أشبه بثورة فنية تجلّت في عدة أمور منها أن الفنان لم يعد أسير محترفه، بل خرج إلى الطبيعة وسعى إلى تجسيد تحولات الضوء واللون. من جهة ثانية، رفض الفنان الانطباعي الألوان القاتمة وفضّل عليها الألوان الزاهية والخالصة حتى إنه رسم الظلال بالألوان الحارّة كالأخضر والأصفر والبرتقالي، بدلاً من أن يرسمها بالألوان الرمادية كما جرت العادة في القرون السابقة. ضمن هذه الرؤية الجديدة ألغى الفنان الانطباعي الحدود التي تفصل بين اللون والخط ولم يعد يجسّد الأبعاد بحسب القواعد الرياضية وإنما من خلال تدرّجات الألوان. لوحات من المعرض أخيراً اختار الفنان الانطباعي أن يعالج في أعماله مواضيع مستقاة من البيئة التي تحيط به وليس من التاريخ القديم كالأساطير اليونانية والرومانية والقصص المستوحاة من العهد القديم والجديد. تُعَرِّف المعارض التي تقام اليوم في متاحف "النورموندي" بنتاج فنانين كبار، في هذا السياق يأتي معرض "متحف الفنّ الانطباعي" في مدينة جيفيرني تحت عنوان "الانطباعيون على ضفاف نهر السين". يعتمد هذا المعرض على التسلسل التاريخي في عرضه للأعمال الفنّية فيبدأ مع أعمال الفنانين الذين مهّدوا للانطباعية ومنهم مانيه الذي كان صديقاً للانطباعيين واشتهر بلوحته "الغذاء على العشب"، وكان من المؤسّسين للفن الحديث والفن الانطباعي وذلك بإلغائه الطابع الإنشائي والسردي في أعماله معتبراً أنّ الرسم يمثّل هدفاً قائماً بذاته وليس وسيلة يعبّر من خلالها عن موضوع أو فكرة. من هنا تبدو وجوه شخصيات أعماله خالية من التعابير التي تشير إلى هوياتها، وهو يعمد إلى رسمها بالأهمية نفسها التي يرسم بها الطبيعة. تحضر في المعارض أيضاً أعمالاً فنية لعدد كبير من الفنانين الانطباعيين، ومن أبرزهم بيار أوغوست رونوار وكلود مونيه الذي عاش وعمل في مدينة جيفيرنيه المحاطة بالأشجار، وقد تحول منزله هناك إلى متحف يحمل اسمه يؤمّه السيّاح والمهتمّون بالفنّ من العالم أجمع. ما يجذب في ذاك المنزل أيضاً إضافة إلى الأعمال الفنية المعلّقة على جدرانه - وبينها كثير من المحفورات اليابانية التي عشقها وتأثّر بها الفنان الفرنسي- الحديقة الرائعة التي اكتسبت هي الأخرى الطابع الياباني بتوزيع نباتاتها وأزهارها والجسور التي تعتلي أحواض الماء فيها وأزهار النينوفر التي خلّدها الفنان من خلال عمل كبير الحجم يُعرض حالياً وبصورة دائمة في متحف "الأورانجوري" في باريس. لقد ركّز مونيه على تجسيد تحوّلات الضوء وانعكاسه على عناصر الطبيعة ومنها المياه والأشجار والثلوج بينما سعى رونوار إلى إظهار تموّجات الضوء على وجوه البشر وأجسادهم كما في اللوحات التي تمثّل الحفلات الراقصة في قلب الطبيعة. تبيّن المعارض كذلك كيف أنّ الفنانين الانطباعيين تركوا أثراً كبيراً على الفنانين الذين عاصروهم ومنهم بول سيزان وفان غوغ وبول غوغين الذين تطالعنا نماذج من أعمالهم، صحيح أنّ الفنانين الثلاثة نهلوا من أعمال الانطباعيين، لكنهم طرحوا أيضاً أسئلة جديدة جعلتهم يتجاوزون المدرسة الانطباعية ويؤسسون لأساليبهم الخاصة، لقد تمرّد سيزان على الجمالية الانطباعية؛ لأنها أهملت الرسم وركّزت في الألوان والحركة التلقائية في تناولها لعناصر الطبيعة. أراد أن تكون أعماله أكثر متانة على غرار الأعمال الكلاسيكية التي تعرّف إليها في المتاحف ومنها أعمال الفرنسي كلود بوسين، وكان من أشهر الفنانين الفرنسيين في القرن السابع عشر. في رؤيته للعمل الفني، أراد سيزان أن يجسّد الأحجام والأبعاد من خلال الأشكال الهندسية وبالتحديد "الأشكال الأسطوانية والكروية والمخروطة"، على حدّ تعبيره. بالنسبة إلى فان غوغ فلقد تخطّى الأسلوب الانطباعي واعتمد في لوحاته على الألوان القويّة، العنيفة والمشعّة بأسلوب جديد جعل منه رائداً من روّاد الحركة التعبيرية والحركة التوحّشية. أما غوغين فتجسّدت رغبته في التجديد من خلال انفتاحه على الثقافات الأخرى التي كانت تعدّ بدائية حتى أنه كتب قائلاً: "إن البربرية بالنسبة إليّ هي نوع من تجدّد الفتوّة". هذا السعي إلى الثقافات الأخرى دفعه إلى مغادرة فرنسا والسفر إلى جزيرة تاهيتي حيث أنجز مجموعة كبيرة من أعماله التي عبّر فيها عن إعجابه بنساء الجزيرة وطبيعتها الخلاّبة. في موازاة المعارض، ثمّة أيضاً في مدن منطقة "النورموندي" مجموعة من الحفلات الموسيقية والندوات التي تستعيد أجواء الفنانين الانطباعيين وتبيّن علاقتهم الفريدة بالطبيعة والشواطئ والقرى الصغيرة التي خلّدوها في أعمالهم، وهي لا تزال تحافظ على طابعها الأصلي على الرغم من تضاعف الحركة السياحيّة. على هامش هذه التظاهرة الثقافية، صدر عدد من المقالات في بعض المجلات الفنية المتخصصة يؤكد فيها الكتّاب على أنّ الأعمال الانطباعية تراجعت قيمتها في البورصة الفنية باستثناء أعمال رموز الانطباعية من أمثال كلود مونيه. أما السبب في تراجع قيمة هذه الأعمال فيكمن في تراجع الاهتمام الذي لاقته أعمال هذه المدرسة الفنية. وهكذا يتكشّف، مرّة أخرى، إلى أيّ مدى يخضع تقويم العمل الفنّي إلى عملية التسويق والعرض والطلب. وهنا لا بدّ من إشارة أخيرة إلى أنّ عمليّة بيع استثنائية جرت مؤخراً في مؤسسة "كريستيز" في نيويورك لمجموعة فنية لإحدى الأثرياء الأمريكيين وبلغت قيمتها أكثر من 220 مليون دولار. وبين تلك الأعمال لوحة للفنان بيكاسو عنوانها "جسد، أوراق خضراء وجذع" وقد بيعت بأكثر من مئة مليون دولار.