منذ قصائده الأولى أثبت نورالدين بالطيب أنه من أفضل شعراء جيله. وخلافاً لشعراء السبعينات الذين فتنوا بالايديولوجيات والشعارات الحماسية، فاذا ببعض قصائدهم أشبه ببيانات سياسية، بدا الشاعر التونسي النحيف القادم من واحات أقصى الجنوب كأنه "يحتفي بنفسه" بتعبير الشاعر الأميركي والت ويتمن، وأولى الأشياء الصغيرة والأحداث العادية اهتماماً يتجاوز اهتمامه بالأحداث والقضايا الكبرى. وفي "أمطار الصيف" المكتبة المتوسّطيّة، تونس، يغني الشاعر أحزانه ووحدته بصوت خافت مشحون بالمرارة. فتحت عنوان "رسائل إلى أمي" يكتب: "موحش يا أمي هذا المساء/ موحش كعويل الريح في قريتنا/ كقناديلك المطفئة/ موحش.../ موحش يا أمي هذا المساء كحزن هي الأعراس/ كرائحة الحبر في ثياب الصبا المهملة/ موحش كالكحل في عيون العجائز/ كرائحة البخور في بيت جارتي الأرملة". يواصل بالطيب ذلك الغناء الحزين الذي تميّز به بعض الشعراء العرب القادمين من الأرياف إلى المدن الكبيرة حيث القسوة والعنف والبرودة: "كم أغنية كتبت على ورق الليل في الحانات/ وذابت كما ذاب العمر في الماء/ كم حلما اكلته الآحاد السود/ كم حب مات/ وها أمي في هذي الوحشة أنادي عشاقاً ماتوا/ قتلوا في الصحراء/ ها أني أنادي: لا شيء في هذا العالم/ لا شيء الا عظام الموتى ومقابر تملؤها الأحياء". يكتشف الشاعر الحب فيصاب بالخيبة والانكسار، ويعود إلى وحدته مستسلماً لبراثن الحنين: "... الشاب الذي تكنس الريح خطاه/ في عشايا الخريف الشاحبة.../ الشاب الذي يموت قلبه في برد ديسمبر وثلج الفراغ/ الشاب الذي يشتاق دائماً إلى ناي الرعاة/ في هدأة ليل الجنوب/ لحكايات عمته عن شعر الجازية/ لشاي الفلاحين/ وليالي الحصاد البيضاء/ الشاب... ذلك الشاب الميت هو أنا". وعندما يزور خالد النجار صديقه يخاطبه قائلاً: "في بيتك كل شيء قديم/ الكتب/ الأوراق/ تحف من كل مكان/ مشاريع رسائل لم ترسل/ أرقام هواتف منسية/ في بيتك أقرأ حكاية حبك الميتة على الجدران/ واسعٌ في الليل بكاء السماء". في ديوانه الثاني بدأ بالطيب يعمق تجربته الشعرية والحياتية، ويقترب من ذلك النصّ الذي يطمح إلىه. فهل يدحض تهمة العقم التي توجّه غالباً إلى جيل التسعينات؟...