الباحة – علي الرباعي لستُ ابن بطوطة عسير ولم أغادر جبل «أم الركب» بكيتُ ليلة العيد لأني لم أمتلك ثوباً أظهر به صباحاً ظلمني مدير مدرستي الابتدائية فلم أظلم طيلة أربعين عاماً لو عُدتُ للوراء لاستبدلت كل كتبي وكتاباتي بمكتب «عقار» اتكأ الشاعر والإعلامي أحمد عبدالله عسيري على نفسه، وأتقن العزف المنفرد على إيقاع الكلمات، ولم يعاتب أسلافه على ما أورثوه من حزن واعتداد بالذات، التزم الهدوء والصمت. عرفته وأنا في المرحلة المتوسطة منذ أكثر من ثلاثين عاماً من خلال شاشة القناة الأولى يُقدم برنامجاً ثقافياً فاتناً ومليئاً بالدهشة، شاعري الكلمات، ساخر الروح حتى من نفسه، جاد الملامح، وقور الطلعة، محدود الكلمات الدرر، وحين فكّرتُ في المرور على بئر الذاكرة من خلال ابنه عبدالرحمن كان معي أسخى وأبهى وأشهى فتقاطرت دلاء وكان ممتوحها هاهنا: * ماذا في الذاكرة عن مولدك وتاريخ وظروف الولادة؟ ولدت في قرية الملاحة بجبل عسير، فهي عالمي الواسع بكل فضاءاتها وعوالمها السحرية، ولدت في زمن كانت الأرض فيه مرصعة ومجللة بأزهار الروح الخضراء، ويتضوع الطين بأعراس المسرات، وتومض في أحشائها ينابيع الفصول وأفراح الجذور، ويزدهي جسدها بقميص العشيات وهو يتفتق تحت أقدام الفلاحين المتدثرين بضوء الفجر، واخضرار العشب الخجول، بفعل الراكضين على أديمها الغض فتلتمع راحتاها كالضحى وهي تصعد متضرجة بهدهدة الضباب ومصابيح الخصب، ولادتي كما تقول أمي وهي أقوى رجل في القرية «كانت على وقع أنين مباح يستحث الموت ويطلب الخلاص من وجع قاتل ومنهك، كان يتلوى كالملدوغ، ويئن كحفيف شجرة الأثل»، كانت روح أبي تنسرب كالضوء المشلول، ويحدق في وجهي وهو يقول «إنه يشبهني»، وهذا الإرث الوحيد الذي تركه لي، وما أعذبه من إرث، ومات كما تموت السنبلة لتملأ الوادي سنابل. * هل روت لك الجدة أو الأم عن مرحلة طفولتك وملامحك الأولى وعلاقتك بالأشياء؟ أنت تعيديني يا علي إلى النبش في أنقاض الروح، وغبش الطفولة المستبد، طفولتي جرح يمشي على قدمين، ليس فيها ما يبهج، فكلما تجاوزت مرحلة الألم بدأت مرحلة العذاب، دمع كثير ذلك الذي نزفته أمام سياف اليتم وفأس الحلم الغارب، كنت محكوماً بالطفولة الشقية التي أحملها على رأسي كالفخار الذي يأبى أن يتكسر، ولكن الأقدار تحضر أحياناً كأصابع الأشجار حين تتفتح، فتدق براحتيها أبواب الفجر لتطفئ شيئاً من ذلك اللهب الدامي ولتزرع ضحكة جذلى كادت أن تيبس. * أي أنثى احتوتك مبكراً؟ «أمي»، فأنا لا أعرف ملامح والدي، وأصدقاء أبي يقولون انظر في المبصرة (المرآة) فستراه، وخاصة طوله وشاربه، أمي رحمها الله كبرياء الروح، ورحيق العمر، وعطر المروج، واستطالة الرجاء، سارت بي مع إخوتي فوق مواقد الحصى المحروق، ومسالك الدروب الموحشة، لتصنع لنا سِفر حياتنا وشهي أحلامنا، ولتحمينا من شظف العيش وأنياب المصير القاسي. هل تصدق يا علي أنها لم تنبت لها أظافر لكثرة ما تغرز أصابعها في صخور الحقل الحادة، ونصال الشوك الجارح، ولذعة الطين الحي، والجهد المضني بحثاً في أديم الأرض عن الحياة، ومع هذه القروية سرنا ذات ليلة لنمارس أول هجرة في تاريخ الأيتام وهم يغادرون جذورهم، تحت بوح مطر ليلي، تحاصرهم أفعى السأم، ويربكهم الفزع الضروس، وتصرخ داخلهم الأمعاء الخاوية، حملتنا كعصافير النهر، لتطرحنا في المدينة البعيدة لأرى فيها أول مرة كائنات ضوئية، ووجوها منقوعة بالغبطة وحبق النوافذ وهوادج الحب، وهي تحمل المليحات العابرات كخضرة الأرض وقطيع النوارس وأسراب القطا، تعلمت أن أقول شعراً وأن أقرأ فيما بعد. * ما هي المدينة المعشوقة حد الافتتان؟ مدينتان لا أكثر، أبها حوض النعناع وحورية السروات، إنها أجمل مخلوقات الكون وأعذب الفاتنات الباذخات، عندما تثرثر في الصباح تندلق على سمعك أباريق الشعر، وأنفاس الصبوات، وتغمرك مناديل الضباب المعطرة، فتمسح بها رؤوس النجوم، وهي تحبو على مشارفها، والطائف مدينة كل الحكايا، وسيدة الفرح الحزين، إنها الإناء الذي بلل هواجس وأحاسيس أغلب المبدعين في بلادنا، فجسدها الممعن في رهافته أشاع الجمال، واستدرج رذاذ المتعة، فهي ملاذ العشق والعاشقين، وأنا أعرفها منذ كان طلال مداح وعبدالله محمد وطارق عبدالحكيم يشعلون مساءاتها بالغناء الطروب، في «حوايا» و»غدير البنات»، فما أقسى أن تقف بين غبار الحبر والذكرى لتروي اليوم سيرة العطش العاقر الذي تحسه في مسامات قلبك، وأنت تتذكر وتومئ مهتاجا إلى تلك الأيام المخضلة بالفراديس والزمن الرغيد، الطائف مسجد ابن عباس ومسجد الكوع ومكتبة كمال والثقافة، والعم سيد اليماني بسحارته المكتظة بالكتب والمجلات، الطائف باب الريع الذي يشدني فيه أصوات الباعة وهي تختلط بأغاريد طيور «النغري» التي كتب عنها صديقي القاص عبدالله باخشوين، هنا رأيت شيخ الصحافة أحمد السباعي يجلس مع الصرافة، وهناك قابلت العملاق حسين سرحان وهو يعتمر قبعته في مكتبة باب الريع، هنا المجرور وورقات سعد الثوعي الغامدي وحدائق نجمه ورمان «ليّه» والهدا والشفا والردف. * ما أول كتاب قرأته؟ انهيالات الذاكرة تحتفظ بصورة ذلك الورق الأصفر الذي يحتفظ به «عمي»، إنها التغريبة الهلالية، وقد بدأت أفك الحرف، وكم كان يعذبني ذلك الطقس الليلي، فهو، أي «عمي»، لا يقبل أن ينام دون أن يهلل ويستبشر بفوز «ذياب بن غانم» في أغلب المعارك التي يخوضها، السيرة الهلالية ترفدك بهامش من الإنشاء البلاغي، والبنية الدرامية، والإحساس الشعري المستهلك. * بمن تعلقت من كتاب سنين القراءة الأولى؟ قرأت لكثير في منظومتنا الفكرية، ما بين من يملك صخب الإبداع ومن يهمس بنبرة التعبير، ومن يملك جاذبية الحضور، كانت الصفحة السابعة في صحيفة «عكاظ» مدرسة الانبعاث والتأثير والمجايلة المتعالية، التي تذهب بالمتلقي عبر فضائها إلى حافة التسامق، ونشوة التجارب والنزعة التجديدية، قرأتهم جميعاً وبقي عبدالله جفري ومحمد عبدالواحد. * ما أول مقال أو نص نشر لك؟ أول مقال كان قصيدة تذكرك بعصور الانحطاط الشعري، نشرتها في صفحة تُعنى بالشباب في صحيفة «الجزيرة»، عندما كانت تصدر أسبوعية، ويشرف على الصفحة المذيع طلعت محسن أبو جبال، والذي قضى نحبه في الطائرة المحترقة، وكان إلى جواري في تلك الصفحة الصديق الأديب العذب وفائق العبارة حمد القاضي والقاص الأشهر جار الله الحميد، وكان ذلك على ما أظن عام 1389ه. * أين تجد نفسك من عواصم العالم التي زرتها؟ من قرأ سؤالك يا علي ظن أنني «ابن بطوطة العسيري» أنا لم أتجاوز جبل «أم الركب» شمال مدينة أبها إلا قبل زمن قصير، حيث قادني أبنائي وبالمركبة، لا بالطائرة، إلى دولتين خليجيتين، الأولى قرأت في أسواقها وواجهة مكتباتها كل ما يسيء إلى وطني، والثانية أصغيت إلى اللغة العربية وهي تأتي في المرتبة الرابعة في تلك المدينة فعدت منها قبل أن أفقد «عربيتي»، وتساءلت عن ذلك الشاعر الغنائي الذي خدعني بقوله: خليجنا واحد وافتخر إني خليجي. * ما أبرز الأحداث المؤثرة في ذاكرة أحمد عسيري؟ وفاة «أمي»، حين كتبت لها قصيدة «أماه لا ترحلي» وقلت لها «هنا عيناك يا أماه تحفر وجه ذاكرتي، تسامر في سكون الليل ظل الموت والوحشة»، وفي آخر القصيدة كنت أصرخ «وعدت أجر فاجعتي ومصباحي وأوراقي، وصوت الدمع يتبعني ويشعل ذوب أعماقي»، لقد ماتت في حادث سير مروع، قبل أكثر من ثلث قرن، وما زالت رائحة تراب قبرها عالقة بعطرها في مسامات روحي. * متى ذرفت أول دمعة، ولماذا؟ في ليلة عيد، وأنا أتوجع كعصفور هرم، وأجهش بالبكاء الذي كاد أن يمزق جدران البيت الطيني، لكوني لم أستطع الخروج إلى «مشهد» القرية، وأصلي مع الأطفال من رفقتي، لأنني لا أملك ثوباً جديداً ولا أصبع «طراقيع»، اليتم خبز الفجيعة ومجمرة القلب الشجي. * أول إصدار، وردة الفعل تجاهه؟ أول إصدار كان ديوان «قصائد من الجبل» وكان ديواناً مشتركاً لستة من الشعراء، لم أفرح به كثيراً نظراً لما احتوته قصائدي من أخطاء طباعية «لغوية وعروضية»، ولِما انتظم القصائد من حزن مهيض وألم صارخ، وتوالت بعدها الإصدارات النثرية بالذات، فلم تعد لي ملكة الدهشة. * أول مسؤول التقيته وتود أن تقول له شكراً؟ مدير المدرسة الابتدائية، الذي رفض أن يسلمني شهادة نجاحي من الصف الأول إلا مقابل دفع «ريال» أنا لا أملكه، ما جعلني أعيد سنة أخرى عندما انتقلت إلى مدينة نائية وبعيدة عن مدينتي، لقد علمني ذلك المدير الوحشي معنى الظلم وقسوة وبشاعة الظالمين، وقد ذكّرته بالحادثة فأنكرها وألصقها بضعيف الله «الفراش»، أشكره لأنني لم أظلم أحداً وأنا أنهي أربعين عاماً في التربية والتعليم. * إلى أي جهة يأخذك الحنين، ولماذا؟ إلى بدايات الطريق، والقطفة الأولى من المطامح والرغبات، كنت سأحمل كل هذا الركام من التجارب الكتابية والملفوظات الشعرية، لأرميها في أتون النار وأستبدلها بمكتب «عقار» يسعدني ويسعد أبنائي، فما أقسى أن يتحشرج السؤال في أعماقهم كالبركان: لماذا أهدرت عمرك المراق فيما لم يسعدنا بالسكن والزوجة ومباهج الحياة؟