نجحت حكومة الفريق عمر البشير التي تساندها الجبهة الإسلامية القومية خلال عطلة عيد الفطر في إحباط عملية عسكرية نفذتها قوات تابعة للجيش الشعبي لتحرير السودان الذي يتزعمه العقيد جون قرنق لاحتلال واو ثاني أكبر مدن الجنوب الذي يشهد حرباً أهلية منذ العام 1983. ومع أن النجاح المحتمل للعملية العسكرية كان يعني فشل عملية "السلام من الداخل" التي لجأت إليها الحكومة بالتحالف مع الفصائل المنشقة عن الجيش الشعبي، إلا أن الهجوم أسفر عن مشكلة خطيرة تتمثل في موقف القائد الجنوبي كاربينو كوانيين بول المؤسس الحقيقي للجيش الشعبي الذي يسيطر عملياً على ولايات بحر الغزال. عند منتصف الليل تماماً بدأ هجوم قوات قرنق على خمسة محاور على مدينة واو الاستراتيجية، عاصمة ولاية بحر الغزال الكبرى، وتركز القصف على رئاسة المنطقة العسكرية والمطار ومحطة السكة الحديد. وسبق الهجوم لجوء عدد من قوات قرنق إلى رئاسة المنطقة العسكرية وادعائها الانشقاق عن قرنق والانضمام إلى عملية "السلام من الداخل"، وأعربت عن حاجتها إلى الراحة والغذاء، فأطلقت الحكومة حملة واسعة لتلبية طلبها. غير أن الأحداث التي تلت أكدت أن تلك القوات العائدة لم تكن سوى إحدى الفصائل التي كان لها دور في الهجوم على مدينة واو، وتحديداً على رئاسة المنطقة العسكرية التي تعتبر ثاني أكبر تجمع عسكري حكومي في جنوب السودان، بعد جوبا كبرى مدن الجنوب. واستطاعت القوات الحكومية ان تمتص الضربة الأولى على رغم المباغتة والتوقيت الصعب منتصف الليلة الأخيرة من رمضان وقفة العيد. ودخلت في قتال شرس ضد تلك القوات التي انطلقت من معسكر ماريال باي الذي يبعد 12 ميلاً عن المدينة. وهو معسكر انشأه اللواء كاربينو لاستقبال العائدين من صفوف التمرد إلى ملاجئ الحكومة. وقد انضم إلى قوات قرنق مقاتلون آخرون من داخل المدينة قدروا بأكثر من مهاجمي ماريال باي ال 500، وكان معظم افراد من سمتهم السلطات "الطابور الخامس" داخل المدينة من عناصر الشرطة. استطاعت القوات المهاجمة الاستيلاء على المطار ومحطة السكة الحديد بسهولة، إذ أن الحراسة عليهما لم تكن مشددة. كما احتلت منزل القائد العسكري لحامية واو، وسيطرت على القيادة العسكرية بضع ساعات قبل أن تقوم القوات الحكومية بعملية التفاف استطاعت من خلالها استرداد قيادة المنطقة العسكرية بعد أن خسرت أربعة من ضباطها و19 من جنودها حسب الاحصاءات الحكومية، واصابة عشرات الجنود الذين يتلقون العلاج في المستشفى العسكري في مدينة أم درمان غرب الخرطوم. كذلك استطاعت القوات الحكومية بعد قتال استمر طوال ليلة الوقفة وحتى صباح أول أيام العيد استعادة المطار ومحطة السكة الحديد، ومن ثم بدأت مطاردة القوات المهاجمة في أحياء المدينة حتى تمكنت من اجلائهم وتمشيط المنطقة. وتعرضت مدن أريات وقوقريال وأويل لهجوم متزامن مع عملية واو وبالطريقة نفسها، إذ أدعت فصائل من قوات قرنق انسلاخها عنه واختيارها العودة للوطن، وبعد عودتها بأيام بدأت الهجوم على المواقع العسكرية مستغلة السلاح الذي في حوزتها. وتنص "اتفاقية الخرطوم للسلام" الموقعة بين الحكومة والقوات العائدة والمنشقة من حركة قرنق بعد سحبه من العائدين، كما تتيح لهم حرية التنقل، وهو الأمر الذي أدى لأحداث واو، وكاد ان يزهق مزيداً من الأرواح من عسكريين ومدنيين. موقف كاربينو لكن الشيء الذي لم تتضح حقيقته حتى الآن: ما هو موقف اللواء كاربينو الذي عين قبل أسبوعين فحسب من عملية واو نائباً لرئيس مجلس التنسيق للولايات الجنوبية؟ تفيد القرائن انه شارك في قيادة محاولة الاستيلاء على واو، بعد العثور على عدد من قياداته وقواته بين الضحايا من المهاجمين. كذلك تعرف عدد من الجنود الذين شاركوا في الدفاع عن المدينة على عناصره، إضافة إلى أن الجنود المقيمين في الثكنات العسكرية القريبة من مقر قيادة كاربينو اخلوا منازلهم قبل ساعتين من الهجوم بعد ابلاغهم بأن قواته ستهاجم المدينة، فضلاً عن إشارات أخرى توضح الخلاف الذي طفا على السطح بين كاربينو والدكتور رياك مشار رئيس مجلس التنسيق للولايات الجنوبية ومساعد رئيس الجمهورية الذي نفى في مؤتمر صحافي عقده إثر عملية واو وجود خلافات بينهما، لكنه أكد ان كاربينو لم يكن راضياً عن الطريقة التي استقبلت بها السلطات الحكومية العائدين من حركة التمرد والمساعدات التي قدمت إليهم. وعلى رغم أن رياك، ومع إقراره بكل الإفادات السابقة، رفض إدانة أو تبرئة كاربينو باعتبار أن ظهوره هو الأمر الوحيد الذي سيجلو الحقائق، إلا أن الدكتور لام اكول رئيس الفصيل المتحد للجيش الشعبي المرشح حالياً للحلول محل كاربينو ندد بالأخير صراحة، وقال: "إن كل الدلائل تشير إلى تورط كاربينو في الأحداث الأخيرة مما يجعله في موقف معزول عن عملية السلام وفي مرثية دنيا في نظر الشعب السوداني التواق للحرية". ووصف الهجوم بأنه "عمل إجرامي يعبر عن الخيانة والغدر". أين الحقيقة؟ تلك هي التعليلات الرسمية لما حدث في واو. والملاحظ أن الهجوم أثار انتقادات شديدة ليقظة رجال الأمن في العاصمة الجنوبية المنكوبة. كما بدا أن الحكومة وقعت في فخ أحكم رجال قرنق نصبه، وهو ما سماه العقيد قرنق في مقابلة مع هيئة الاذاعة البريطانية "الخدعة الكبرى". والواقع ان كاربينو كان اعتكف في منطقته الجنوبية منذ تشرين الثاني نوفمبر الماضي مع زوجاته السبع، ورفض دعوات عدة إلى التوجه إلى واو أو الخرطوم. وكان بعد توقيعه اتفاقية السلام في 21 نيسان ابريل 1997 قد استوعب مجدداً في القوات المسلحة الحكومية ومنح رتبة لواء. وكان يطمح إلى منصب رفيع في مجلس تنسيق الولاياتالجنوبية الذي انشأته حكومة الجبهة الإسلامية القومية ليكون بمثابة حكومة للجنوب إلى حين تقرير مصيره. غير أن النظام فضّل تخصيص رئاسة المجلس للدكتور رياك مشار. ازاء ذلك غادر كاربينو الخرطوم وتوجه إلى واو ومنها إلى ماريال باي. وكان ينوي الإقامة في منطقة قوقريال التي تعتبر مسقط رأسه ومعقل نفوذه القبلي. غير أنه فضّل اختيار ماريال باي القريبة من واو مقراً. وفي مطلع كانون الأول ديسمبر الماضي بث كاربينو رسائل تحذيرية باللاسلكي هدد فيها بأنه ما لم يعين نائباً لرئيس مجلس التنسيق فهو سيعود إلى الغابة مجدداً وينضم إلى الجيش الشعبي بزعامة قرنق. وبث رسائل مماثلة وجهها إلى قرنق قال فيها إنه سينضم إلى الجيش الشعبي إذا لم تلب الخرطوم طلبه. لكن الخرطوم قررت تجاهل تهديداته. وطلبت الخرطوم من استخباراتها العسكرية في واو ابلاغ كاربينو بالعودة إلى واو ثم الخرطوم للبحث في طلباته. وفي الوقت نفسه بدأت قيادة الجيش الشعبي تتصل به لمعرفة نياته الحقيقية. وتفيد المعلومات بأن قرنق أوفد ألفين من مقاتليه الأشداء إلى ماريال باي وأمرهم بالانضمام إلى قوات كاربينو. واتفق على أن تتظاهر هذه القوات بأنها عائدة من حركة التمرد لتنضم إلى قافلة السلام الحكومية، وقد انطلت الحيلة على الحكومة إلى درجة أنها أوفدت النائب الأول للرئيس السوداني الفريق الزبير محمد صالح إلى ماريال باي حيث خاطب "العائدين"، والتقى كاربينو الذي سلمه لائحة من المطالب التي وعد الفريق صالح بأن يعود بها للخرطوم لمباشرة تنفيذها. وتكشف لاحقاً أن وحدة الاستخبارات العسكرية الحكومية في واو رفضت السماح للفريق صالح بالسفر بمفرده إلى ماريال باي، واتضح ان قائد وحدة الاستخبارات في واو أبلغ السلطات بأنه يخشى أن ينجح كاربينو في احتجاز النائب الأول لرئيس الجمهورية رهينة. وتقرر على الأثر ان تنقل قوة عسكرية حكومية ضاربة لترابط على بعد ميلين من ماريال باي تحسباً لأي طارئ. غير أن كاربينو وقواته و"العائدين" رحبوا بالفريق صالح واستقبلوه على أكمل وجه ولم يمسوه بأذى. وفي اليوم التالي زار الدكتور مشار ماريال باي والتقى كاربينو والقوات "العائدة"، وأعلن لدى عودته الى الخرطوم أنه عرض على كاربينو منصب نائب رئيس مجلس التنسيق للولايات الجنوبية، وبعد يوم واحد تلقت القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم برقية عاجلة من وحدة الاستخبارات العسكرية في واو تشير إلى سيناريو الهجوم المحتمل. وفي 13 كانون الثاني يناير الماضي عقد اجتماع غير عادي لمجلس الأمن الوطني وتقرر تدمير قوات ماريال باي مهما كان الثمن. وأبلغ المسؤولون في واو بأن عليهم الاستمرار في تقديم المؤمن الغذائية والملبوسات إلى قوات كاربينو و"العائدين" ريثما تتمكن القيادة العامة من نقل قوات إضافية لتعزيز حامية واو. وقرر الاجتماع حشد التعزيزات في مدينة بانبوسة في جنوب غربي السودان على أن تنقل من هناك عبر خط السكة الحديد الذي ينتهي في واو. ويقول قادة جنوبيون في الخارج إن قرارات اجتماع الخرطوم سربت إلى كاربينو في اليوم التالي 14 كانون الثاني. ويعني ذلك ان الجانبين بدآ يعدان العدة بطريقة مكشوفة لمعركة حتمية. وفي مسعى هدفه الاستمرار في خداع كاربينو لإبقاء الوضع على حاله بانتظار وصول القوات الاضافية، اعلنت الخرطوم في 15 كانون الثاني قرار رئيس الجمهورية تعيين كاربينو نائباً لمشار ووزيراً للحكم المحلي في الجنوب ورئيساً لأركان القوة الموحدة للفصائل الجنوبية المتحالفة مع النظام. وبدا ان "الكرم" المفاجئ من جانب الخرطوم أثار الريبة في نفس كاربينو. والتقى القائد الجنوبي مجموعة من المراسلين في مقر قيادته في 18 كانون الثاني، ورفض وصف القوات العائدة بأنها استسلمت. وكشف أنه وقع اتفاقية عدم اعتداء مع قوات قرنق من دون استشارة حلفائه في الخرطوم. وبعد وقوع عملية واو التي أخذت بها الخرطوم على حين غرة، على رغم علم السلطات العليا بحقيقة السيناريو المرتقب، عمدت قوات الأمن السودانية إلى تطويق مؤيدي كاربينو في الخرطوم حيث يسود رعب حقيقي من احتمال نجاح قرنق في تسريب عدد من مقاتليه للقيام بعمليات تخريب في العاصمة. لقد نجحت الحكومة في احباط عملية واو مستفيدة من وجود تعزيزاتها على مقربة من خط السكك الحديد، كما أن قواتها المرابطة في واو استطاعت ببسالة استرداد المطار الحربي هناك، مما اتاح تنظيم جسر جوي لنقل مزيد من التعزيزات. لكن الحكومة لم تقض حتى الآن على القوات المرابطة في ماريال باي. وقدرت مصادر مستقلة عدد قوات كاربينو بما يراوح بين 5 و10 آلاف مقاتل مدججين بأحدث أنواع الأسلحة. ولا شك في أن هؤلاء المقاتلين سيحاولون مسابقة الزمن لشن هجوم على قوقريال أو أويل أو ربما واو نفسها مجدداً