شكل فوز المهندس عبدالهادي المجالي برئاسة مجلس النواب الاردني لدورة برلمانية جديدة مدتها عام واحد مفاجأة للغالبية وصدمة لكثيرين، لكن هذه المشاعر لم تخف الاعتراف للرجل بحنكته السياسية والتكتيكية، اذ أثبت من خلال هذا الفوز مقدرة على الوصول الى الهدف بأقصر الطرق وأسهلها. فقد جاء فوز المجالي برئاسة مجلس النواب وسط قناعة اكيدة لدى غالبية النواب بأن عوامل "التعيين" تلعب دوراً اكبر من عوالم "الانتخاب" تحت قبة البرلمان. ولم يكن المجالي مرغوباً في "تعيينه" لا في حسابات المجلس الداخلية ولا في اوساط الحكم والسياسيين ولا ايضاً ضمن الحال الشعبية الاردنية. فقد جرت انتخابات رئاسة مجلس النواب الاردني هذه المرة في ظروف مختلفة، وسبقتها مداولات وتقاطعات غير مسبوقة في تاريخ البرلمان. فقبل نحو شهرين من موعدها ظهرت اسماء جميع النواب المجربين في المجلس تقريباً كمرشحين محتملين للرئاسة، وساهم في بروز اسمائهم ان مجلس النواب الحالي الذي انتخب في العام الماضي من دون مشاركة المعارضة في الانتخابات تكون في معظمه من نواب غير مجربين في الحياة العامة، ما أعطى عدداً من السياسيين والوزراء والنواب السابقين - على قلتهم - ميزة نسبية داخل المجلس. وكان في مقدم تلك الاسماء عبدالرؤوف الروابدة النائب في ثلاثة مجالس نيابية متتالية والوزير والسياسي منذ ربع قرن تقريباً. وكان منها ايضاً سعد هايل السرور رئيس المجلس لأربع دورات سنوية متتالية ثلاثة منها في المجالس السابقة والرابعة في مستهل انعقاد المجلس الحالي. ومنها ايضاً النائب والوزير السابق علي ابو الراغب والاسلامي المستقل المجرب عبدالله العكايلة وعبدالكريم الدغمي اضافة الى المجالي. وظهر الروابدة منذ البداية كمرشح قوي مدعوم من الحكم، وأكد مقربون منه انه نال دعماً صريحاً بالفعل من الحكم، وسرت في أروقة البرلمان مقولة مفادها ان على اي مرشح مقرب من الحكم وجميعهم مقربون اخلاء الطريق لمن يتمتع بالدعم. وقبل ثلاثة اسابيع من موعد الانتخاب التقى رئيس الديوان الملكي جواد العناني العائد للتو من واشنطن حيث قابل الملك حسين بسبعة مرشحين محتملين لرئاسة المجلس، وابلغهم بأن "القصر" غير معني بالسباق نحو رئاسة مجلس النواب، فجميع المرشحين سواسية في نظر الحكم. وفهم الروابدة الاشارة، بل اعتبر انها موجهة اليه بالدرجة الاولى فتراجع عن نيته في الترشيح. ولكن السرور لم يقتنع بأنه الشخص الآخر المقصود برسالة القصر خصوصاً ان مقولة "اربع سنوات تكفي" كانت تعنيه من دون غيره. وعلى العموم فقد انحصر السباق بين اربعة مرشحين: المجالي والسرور وأبو الراغب والعكايلة. وسط قناعة بين النواب بأن "ابو الراغب" قد ضمن الفوز برئاسة المجلس خصوصاً انه من النواب المعتدلين ويجمع بين النفوذ الاقتصادي والشعبي، على انه لا يتمتع بلون سياسي واضح داخل مجلس موال بالكامل تقريباً. ومع ان مجلس النواب الحالي لا يتوزع على كتل نيابية قوية الا ان صورة السباق نحو رئاسته عكست اصطفاف تكتلات هشة وراء المرشحين. وكان ابو الراغب يحتاج الى ترشيح كتلته التي نافسه داخلها عبدالكريم الدغمي، ففاز ابو الراغب مرشحاً للكتلة ما أثار غضب الدغمي الذي شكل في ما بعد "بيضة القبان" لمصلحة المجالي، وفقاً لنواب من الكتلة ذاتها. وفي الجولة الانتخابية الاولى حصل السرور على 18 صوتاً فخرج مبكراً، وكذلك خرج العكايلة الذي حصل على ثمانية اصوات فقط. وكان لا بد من جولة اخرى للحسم بين المجالي 32 صوتاً وأبو الراغب 21 صوتاً. وفي جولة الحسم حصل المجالي على 43 صوتاً من 79 صوتاً وورقة بيضاء ففاز، وخسر ابو الراغب ب36 صوتاً. وشكلت النتيجة مفاجأة داخل قبة البرلمان وخارجها. في اليوم التالي ظهر كاريكاتور في صحيفة "الرأي" اليومية شبه الرسمية يظهر فيه المجالي قادماً باتجاه سدة رئاسة البرلمان، والى جواره شقيقه الاكبر عبدالسلام المجالي مغادراً رئاسة الحكومة للمرة الثانية مع تعليق على كلمات اغنية شعبية "مجالي رايح... رايح... مجالي جاي". فور انتخابه ألقى عبدالهادي المجالي كلمة امام مجلس النواب تعهد فيها ان يكون المجلس "سيد نفسه" وصنواً للسلطتين التنفيذية والقضائية... "ولا نسمح لأحد بأن يتغول علينا"، كما طلب بأن يكون المجلس وبشكل مسبق في صورة القرارات المهمة التي تمس مصالح البلاد وشريكاً في اتخاذ القرارات والسياسات. وأثارت هذه الكلمة ردود فعل مبكرة تركزت على تحليل نيات الرجل ومستقبل اداء مجلس النواب في عهده والحديث عن تاريخ الرجل ومسيرته اللافتة. تجربة غنية فقد بدأ عبدالهادي المجالي حياته العملية عسكرياً، تدرج في الخدمة العسكرية حتى تسلم منصب رئيس اركان القوات المسلحة ليخرج منها سفيراً في واشنطن ثم ليعود مديراً للأمن العام. وبعدما تقاعد من الامن العام اتجه للعمل السياسي وأسس العام 1992 حزب العهد قبل ان يفوز في الانتخابات النيابية في العام التالي، ثم يقود تكتلاً لثمانية احزاب وسطية اندمجت في حزبه قبل ان ينفرط عقد التحالف من جديد ويصل الرجل الى اعلان اليأس من التجربة الحزبية. وشغل المجالي منصب وزير الاشغال العام في حكومة السيد عبدالكريم الكباريتي العام 1995 اظهر من خلاله ولاء للرئيس الشاب ووقف الى جانبه على رغم معارضة عدد من الوزراء لرئيسهم حتى تاريخ اقالة الحكومة في العام التالي، وفاز المجالي مرة اخرى في الانتخابات النيابية العام الماضي. وينتمي المجالي الى اسرة خرّجت حتى الآن ثلاثة سياسيين هم شقيقه الأكبر الراحل عبدالوهاب الذي شغل منصب نائب رئيس الوزراء غير مرة، وعبدالسلام رئيس الوزراء السابق، وعبدالهادي نفسه. ويطلق الناس عليهم في مدينة الكرك التي ينتمون اليها لقب "ابناء كنيدي" في اشارة الى الاسرة الحاكمة وهم يفرقون بين الاسرة المالكة والاسرة الحاكمة، حتى ان "ابناء كنيدي" اصبحت مشهورة على مستوى الاردن وليس على مستوى مدينة الكرك فحسب. ولا شك في ان انتخاب المجالي رئيساً لمجلس النواب ستكون له آثاره على السياسة الداخلية الاردنية، فقد اصبح المجالي يشكل حالة سياسية مستقلة لدرجة ان خصومه يتهمونه بالسعي الحثيث لتحقيق طموحات اكبر كثيراً من رئاسة مجلس النواب ولو على حساب اي توجه آخر، خصوصاً انه بات يتمتع بنفوذ اقتصادي كبير اضافة الى نفوذه السياسي. ثمن وصول المجالي وعلى النقيض من ذلك فان تواضع اداء مجلس النواب الناجم عن تواضع قدرات عدد كبير من اعضائه قد يحد من تقدم "الرئيس الجنرال" نحو السلطات الاخرى، لكنه لن يوقفها على اي حال، فالمجالي يمثل الشخصية التقليدية السياسية الاردنية التي سادت في اواسط الثمانينات، لكن مع توجهات جديدة استفادت من التوجهات الديموقراطية والانفتاح السياسي منذ مطلع العقد الحالي، وهو بهذا يتفوق على قادة السلطات الاخرى وأقربهم اليه جاره رئيس مجلس الاعيان الشقيق التوأم للبرلمان في مجلس الأمة. وستكون حكومة الدكتور فايز الطراونة اول المرشحين لدفع ثمن وصول المجالي الى سدة رئاسة مجلس النواب، فقد نقل عن المجالي ان تولى شقيقه عبدالسلام رئاسة الحكومة مرتين منذ عام 1993 آخر تلبية طموحاته طوال خمس سنوات وان مشواره قد بدأ الآن. وتجدر الاشارة الى ان المجالي والطراونة هما من مدينة الكرك في جنوبالاردن ويعد المنشأ عاملاً مهماً في الحسابات السياسية الاردنية الداخلية. وفي الحديث عن المستقبل القريب يشير سياسيون اردنيون الى رغبة الملك حسين العائد مع مطلع العام الجديد بعد رحلة العلاج الطويلة في احداث تغييرات مهمة في هيكلية الدولة الاردنية. ومنذ انتخاب المجالي رئيساً لمجلس النواب توجهت انظار عدد من السياسيين والمراقبين الى المجلس وسط توقعات بأن يعمد الملك الى حله والدعوة الى انتخابات جديدة في العام المقبل. اصحاب وجهة النظر هذه يشيرون الى تعهد الملك حسين في رسائله المتبادلة مع مسؤولين اردنيين، ازالة اسباب الاحتقان لدى الاردنيين. ويقولون ان مجلس النواب الحالي انتخب وسط حال من الاحتقان ادت الى مقاطعة المعارضة للانتخابات التي أفرزت مجلساً من لون واحد. 1123 كلمة