من الغدة الكظرية "فوق الكلوية" في الأبقار، إلى دواء سحري يعالج طيفاً واسعاً من الحالات والأمراض، من الحساسية إلى أمراض المناعة الذاتية! بدأت قصة اكتشاف "الكورتيزون" في ثلاثينيات القرن العشرين، حينما كان العلماء يبحثون عن علاج لمرض التهابات المفاصل الروماتويدي، الذي يسبب تيبساً في المفاصل، وبالتالي صعوبة في الحركة وألآماً مزعجة. كان من المعروف أن الغدد الكظرية تنتج هرمونات تساعد في تنظيم التمثيل الغذائي والاستجابة للضغط، قرر عالم الكيمياء الحيوية الأميركي "إدوارد كيندال" قيادة فريق من باحثي "مايو كلينك"، لدراسة تأثير المواد المستخلصة منها على الأمراض الالتهابية، فقام باستخراج مواد متعددة من الغدد الكظرية للأبقار، وحقنها في حيوانات تعاني من التهاب المفاصل، ثم لاحظ تحسناً في حالتها، مما أكد وجود مادةً فعالة في المستخلص أدت إلى ذلك. بعد سنوات، نجح "كيندال" عام 1935م في عزل عدة مركبات واعدة من الغدد الكظرية، وأطلق عليها أسماءً رمزية، إلى أن توصل بعد سنوات مجهدة من التجارب إلى المادة الفعالة عام 1948م، والتي سُميت لاحقاً بالكورتيزون. في تلك الأثناء كان مواطنه الطبيب "فيليب هينش" يدرس تأثير المواد الكيميائية على التهاب المفاصل، الذي حينما حقن مريضاً بالكورتيزون لأول مرة، حدثت معجزة اختفاء الألم، بل تمكن المريض من المشي بعد أن كان مقعداً! بعد إثبات فعالية المركب، واجه العلماء تحدياً في إنتاجه بكميات تجارية، لأنه كان يُستخرج بكميات ضئيلة من الغدد الكظرية للحيوانات، لكن الباحثين تمكنوا من تصنيعه كيميائياً أوائل الخمسينيات، مما جعله متاحاً على نطاق أوسع. سرعان ما أمسى "الكورتيزون" أحد أهم الأدوية في علاج الالتهابات، والحساسية، وأمراض المناعة الذاتية، ناهيك عن الاستخدامات الطبية غير المعتمدة! كما تطورت عائلة كاملة من الأدوية تُعرف بالكورتيكوستيرويدات، "الستيرويد القشري"، التي تُستخدم في علاج العديد من الحالات من الحساسية إلى أمراض المناعة الذاتية، مثل "البريدنيزون" و"الهيدروكورتيزون"، الأكثر فعالية والأقل ضررا. لكن وعلى الرغم من النجاح الهائل، سرعان ما ظهرت آثار جانبية، بعضها يعد خطيراً مثل هشاشة العظام، وارتفاع ضغط الدم، وزيادة الوزن، الإصابة بالسكري، انقطاع الطمث، لذا نؤكد دوماً نحن الصيادلة على عدم استخدام الدواء دون إشراف طبي، والتأكد من إجراء الفحوصات الدورية، لملاحظة أي تغيّر. في الحقيقة يُعد اكتشاف "الكورتيزون" أحد أهم الاكتشافات الطبية في القرن العشرين، مما قاد العلماء "كيندال" و"هينش" والسويسري "تيد ريتشاردز" للفوز بجائزة نوبل في الطب عام 1950م، عن جهودهم في اكتشافات هرمونات القشرة الكظرية وأثارها الحيوية. غيّر "الكورتيزون" ومشتقاته حياة الملايين من البشر، ليس فقط في علاج الالتهابات، ولكن في العديد من الأمراض المناعية والحساسية والاستخدامات الطبيّة غير المعتمدة، ورغم آثاره الجانبية المتعددة، إلا أنه لا يزال حجر الأساس "السحري" في علاج العديد من الحالات الطبية حتى اليوم!