يبدو أن فكرة الهوية تواجه تحديًا كبيرًا عندما تنتقل من المستوى النظري إلى التطبيق العملي، ولأنه لم يتم تجريب الهوية الصامتة المعاصرة بشكل واضح نجد أنه يتسرب إلى أغلب التجارب العملية المعاصرة البعد التاريخي والتكوينات المنتجة في الماضي، حتى أنه يصعب تفكيك مفهوم «الابتكار» وفصله عن مفهوم «الاستمرارية».. قبل عدة أيام تلقيت دعوة من مهرجان القرين الثقافي في الشقيقة الكويت كي أتحدث حول الهوية الصامتة، وقد كنت كتبت مقالا قبل عامين في هذه الصحيفة الغراء بعنوان "الثقافة الصامتة وخطاب الهوية"، فقررت عدم العودة للمقال والتحدث دون أي إعداد مسبق لورقة، كون "الثقافة الصامتة" كما أراها هي السلوك العفوي الذي ينتج عنا ليعبر عن الثقافة المتراكمة ومعانيها المختزنة التي تراكمت خلال تجربتنا الحياتية، وبذلك تكون "الهوية الصامتة" هي الهوية العفوية الحقيقية وليست المصطنعة "المعيارية" التي يتغنى بها الناس لكنها لا تعبر عن واقعهم فعلا. ربما كان المصطلح جديدا على كثير من الحضور، رغم وجود قامات كبيرة، لكن شعار المهرجان برمته هو "الهوية الصامتة ومستقبل التنمية"، وهو عنوان جريء كون المصطلح لم يتبلور بعد في أذهان كثير من المهتمين وبذلك تكون الفرصة سانحة كي يعاد تعريف الهوية وفق التصور الذي يقدمه "المعنى الصامت" أو "الثقافة الصامتة" للهوية. تضمن حديثي ثلاثة مراجع أجنبية هي كتابيّ "البعد الكامن" و"اللغة الصامتة" ل"إدوارد هول" وكتاب "معنى البيئة المبنية: اتجاه الخطاب غير اللفظي"ل "آموس ربابورت"، وآخرها مر على نشره ما يقارب نصف قرن مما يعني أننا بعيدون جدا عن المفاهيم المعاصرة التي تفكك الثقافة وتغوص في جوهرها، يجب أن أذكر هنا أنه حصل خلاف حول "الصامت" و"غير اللفظي"، وأيهما أصح، لكن تعليق إحدى الحاضرات أوضح أن "الهوية الصامتة" أوسع من "غير اللفظية" كون الصامت يتضمن المعاني الكامنة غير المنظورة بينما اللفظي يتطلب وجود الشيء المرئي الذي يشير إلى المعنى غير اللفظي. وأيا كان المصطلح الذي يمكن أن نتفق عليه في المستقبل حول "الهوية الصامتة" يجب أن نوضح أن كل هوية تتضمن عملية "تشفير" وأن مقدرة هذه الهوية في الوصول إلى من ينتمي إليها أو أولئك الخارجين عن دائرتها يعتمد بالدرجة الأولى على فكهم للشفرات التي تختزن المعاني الخاصة بهذه الهوية. إذا الهويات الناجحة هي تلك القادرة على بناء "الشفرات" من خلال الإنتاج الثقافي والفني/ البصري العميق والكثيف مع إمكانية "تسويق"، إذا صح استخدام الكلمة، أو نشر هذا الإنتاج، فالهوية الأميركية استطاعت أن تجعل العالم بأسره جزءا منها، حتى أن مصطلح العولمة وصف منذ أن بدأ يتبلور بأنه صورة أخرى ل "الأمركة"، فكل هوية غالبة تتكون من مزيج من "هوية صامتة" هي المهيمنة والناقلة للمعاني العميقة لتلك الهوية، و"هوية لفظية" تمثل الرسائل المباشرة التي يراد إيصالها. لا أعلم، إن كنا في مهرجان القرين اتفقنا على المصطلح أم لم نتفق، لكن ما شعرت به هو أن "العقل العربي" لا يزال أمام سطوة الصورة والأشكال النهائية التي تكونت في الماضي، ومن الصعوبة بمكان أن يتقبل أن ما تمارسه المجتمعات اليوم بشكل عفوي وما ينتج عن هذه الممارسة يمثل الهوية الصامتة وحتى اللفظية الحقيقية لتلك المجتمعات، بينما ما يرسمه البشر من صور عاطفية للماضي وجميع محاولاتهم لاستعادة تلك الصور هي مجرد "هوية واهمة" أو "مزيفة". في اليوم التالي لمشاركة مهرجان القرين كانت لي مشاركة في مهرجان الطين في الدرعية، وكان الهاجس الذي يدور في ذهني هو كيف يمكن التوفيق بين فكرة تجريدية يصعب قياسها مثل "الهوية الصامتة" وبين الحديث عن "الطين" الذي يمثل لغة مرئية لكنها صامتة تنتمي للماضي. لم يكن مطلوبا منى أن أتحدث عن الهوية لكن فكرة "المعاني الصامتة" التي تولّدها الأشكال كانت مهيمنة على تفكيري، فهل نحن أمام مادة تصنع هويتها بنفسها مهما كانت التكوينات التي تكونها أم أن الأشكال التي نتجت عن مادة الطين هي التي رسمت هويتها. ولتوضيح المعنى، هل هوية الطين كامنة في المادة نفسها وهي بذلك تمثل لغة صامتة تشير إلى معانيها الكامنة مهما تعددت التكوينات البصرية التي تقدمها أم أنه يجب أن يعبر الطين عن العمارة النجدية والنجرانية حتى تكون له هوية؟ هذا التساؤل الجوهري كان محورا أساسيا في محاضرة الدرعية كون الفكرة الطاغية عن الهوية الطينية مرتبطة بالتكوينات التاريخية بينما ما ذكرته هو أن الطين "أداة" ذات هوية داخلية جوهرية Innate Identity وأنه مهما كانت الاشكال الناتجة عن هذه المادة سوف تشير بصمت لهويتها. وتحدثت عن مبانٍ معاصرة في ألمانيا وفرنسا بنيت بالطين وتداخلت مع الحديد والزجاج لكنها في النهاية تحمل هويتها الطينية الصامتة بعمق. يبدو أن فكرة الهوية تواجه تحديًا كبيرًا عندما تنتقل من المستوى النظري إلى التطبيق العملي، ولأنه لم يتم تجريب الهوية الصامتة المعاصرة بشكل واضح نجد أنه يتسرب إلى أغلب التجارب العملية المعاصرة البعد التاريخي والتكوينات المنتجة في الماضي، حتى أنه يصعب تفكيك مفهوم "الابتكار" وفصله عن مفهوم "الاستمرارية"، فكل "هوية" هي استمرار للماضي وليس صناعة للمستقبل، وهو ما يتناقض مع شعار مهرجان القرين الذي يربط "الهوية الصامتة بتنمية المستقبل" ويبدو، حسب المناخ الثقافي السائد، أن فكرة المستقبل هي التي تمثل إشكالية في العقل العربي المعاصر وليست "الهوية"، لأن "المستقبل" الذي يتبع "عالم الغيب" يجب ألا يُفكر فيه.