يواجه الكتاب العربي مجموعة من المصاعب والتحديات التي تعيق رواجه، وتزجّ بحركة النشر في أزمة غير مضمونة النتائج. وفي عصر ثورة المعلومات التي حولت العالم قرية صغيرة، يتوقّف المعنيّون بصناعة الكتاب العربي عند البديهيات، تحت ضغط الظروف السياسية والاقتصاديّة، وفي ظلّ رقابة لا تزال تتردّد أحياناً في أخذ حركة التطوّر بعين الاعتبار. هل المشكلة في القارئ الذي يفتقر إلى النضج، في القوانين والبنى التحتيّة، في الحواجز والقيود وانحسار الوعي...؟ "الوسط" تفتح الملفّ انطلاقاً من عمّان، على أن تواصل جولتها لاحقاً على العواصم الأخرى. لا يتصفّح القارئ جريدة أو مطبوعة أردنيّة إلا وتطالعه، متناثرة هنا وهناك، أخبار صدور كتب، ومشاركة في معارض، واحتفالات توقيع أعمال جديدة من قبل مؤلّفيها... وغير ذلك من الأخبار المتصلة بالنشر والتوزيع. وكلّ ذلك يوحي بأن حركة النشر تشهد ازدهاراً وتعرف نموّاً مطّرداً، وأن زخماً ملموساً يميّز الحياة الثقافيّة بشكل عام. ما هي مدى صحّة هذا الانطباع، وهل يمكننا الكلام عن حركة نشر مزدهرة بمختلف المعاني الثقافيّة والاقتصاديّة؟ "الوسط" التقت أهل صناعة الكتاب في الأردن، من ناشرين وموزعين، لمحاولة الاجابة عن بعض هذه الأسئلة، وللاحاطة بواقع حركة النشر، انطلاقاً من نقاط أساسيّة تتصل بنوعية الكتاب الذي يُقبل عليه الجمهور في الأردن، ودور الرقابة وانعكاسه على عملية التسويق، والعوامل التي تساهم في نشر الكتاب، واتجاهات الجمهور واهتماماته، وطبيعة سوق الكتاب في الأردن، ونوعيّة القرّاء، إلخ... فتحي البّس: قوانين مطّاطة يستهل فتحي البسّ "دار الشروق"، رئيس اتحاد الناشرين الأردنيين، كلامه بالحديث عن الرقابة. ويلفت نظرنا إلى أن قانون المطبوعات والنشر في الأردن ينطوي على مواد ذات مدلول قيمي ومعياري، ما يجعل الآراء حولها متعددة ومثيرة للاختلاف والجدل. ففي حين يعترض هذا القانون على بعض الصور الفنية والاستعارات اللغوية في بعض النصوص الأدبية، ويعتبرها منافية للأخلاق، يرى كثيرون أن تلك الصور والاستعارات جزء لا يتجزأ من النص الابداعي. وطالب البس بتعديل قانون المطبوعات والنشر، بحيث تصبح القيود محدودة، منطقيّة، واضحة المعالم، ومنسجمة مع حركة التطوّر. فليس برأيه "أسوأ وأخطر من النصوص المطاطة، الغامضة، القابلة لأكثر من تفسير وأكثر من تأويل". ويضيف رئيس اتحاد الناشرين الأردنيين: "إذا أردنا حلاً شافياً وناجعاً لكل مشاكلنا المتصلة بالمطبوعات ونشر الكتاب وتسويقه، فعلينا أن ندرك أن شعوبنا نضجت، وهي تستطيع تمييز الغث من السمين. أضف إلى ذلك أن ثورة المعلومات حولت العالم كله قرية صغيرة، وجعلت المعرفة بشتى حقولها في متناول الجميع". ماهر الكيّالي: هناك سوق ولكن... أما ماهر الكيّالي "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، فيصف نوعية الكتاب الذي يُقبل عليه الجمهور بأنها غير ثابتة، وتعتمد على الظروف السياسية المتغيرة: "في فترة من الفترات كان الكتاب الذي يتحدث عن القضية الفلسطينية هو الرائج، وراجت فترة أخرى بعض الكتب التي تحكي عن جهاز الموساد. وشهدت كتب نوال السعداوي رواجاً في مرحلة من المراحل، وكذلك الكتب العسكرية التي تضاءل الاهتمام بها الآن بسبب "السلام" واختفاء الخيار العسكري". ويمضي في تشخيصه للقارئ الأردني والعربي: "القارئ يلاحق حدثاً معيناً. معاييره ليست ثابتة دائماً. ولكن هناك مؤلفون أعلن القارئ لهم الولاء كعبدالرحمن منيف الذي تعد مؤلفاته من أكثر الكتب مبيعاً حتى الآن، والسبب في ذلك يعود إلى أن منيف صاحب قضية، ويدافع عن قيم الحرية والديموقراطية، وهموم الانسان العربي. علاوة على أنه صاحب أسلوب ممتع، ومواقف ثابتة. ومن الكتب التي تلقى رواجاً، الآن، تلك المتصلة بميدان علم النفس والتي أهمها كتاب الدكتور علي كمال "الجنس والنفس"، وكتابا جبرا ابراهيم جبرا: "شارع الأميرات" و"البئر الأولى"، إضافة إلى كتب الفكر السياسي كمؤلفات محمد جابر الأنصاري التي تعالج السياسة العربية بعمق وجدية". ويؤكّد الكيّالي: "هناك سوق عربيّة للكتاب من دون أدنى شكّ، وهي سوق خصبة وديناميكيّة. لكنّ الظروف السياسية والاقتصادية هي التي تحد من انتشار الكتاب. وهناك قضيّة انخفاض أسعار صرف العملة في بعض الدول العربية كالسودان والعراق وغيرهما. وتلعب الحواجز الرقابية المتشددة دورها في خنق حركة النشر، علاوة على ازدواجية أحكام الرقابة وتناقضها واعتباطيّتها أحياناً تبعاً لشخصيّة الموظّف المسؤول. وغياب معايير ثابتة يجعلنا نتحرّك في أرض مجهولة، من دون ضمانات. سبق لدائرة المطبوعات والنشر في الأردن - على سبيل المثال لا الحصر - أن صادرت لنا كتباً، بعد أن أجيزت في الأردن وبيعت منها كميّات مهمّة!". إلياس فركوح: القضايا الحساسة تجذب ويرى إلياس فركوح "دار أزمنة" أن الجمهور متنوع الأذواق، ولكل فئة منه كتابها المفضل، وبالتالي ليس هناك كتاب محدد رائج بشكل عام. "العنوان الرائج هو ذلك الذي يمسّ القضايا الحساسة لدى الرأي العام، والذي يرتبط بقضايا المرحلة، بشكل مباشر أو غير مباشر. على المستوى السياسي مثلاً، هناك الآن اقبال على الكتب المتصلة باتفاق أوسلو وخبايا عملية السلام، فيما كان الاهتمام قبلها منصباً على حرب الخليج الثانية، وهكذا دواليك. وهناك نوع من الكتب التي يجذب اسم مؤلّفها القارئ، فتحقّّق اقبالاً ملموساً أيّاً كان موضوعها. أذكر على سبيل المثال محمد حسنين هيكل الذي يحظى بثقة القارئ". ويعتبر فركوح أن "سوق الكتاب في الأردن لا يُعتدُّ به، لا من حيث عدد السكان، ولا من حيث النظرة إلى الكتاب الذي لا يقع ضمن سلسلة أولويات المواطن. كما أن السلطات لا تلعب الدور المطلوب بتوجيه الناس إلى القراءة، وبخلق المناخ المؤاتي للتفاعل والحوار عبر وسائل الاعلام والمناهج التربويّة والحياة العامة. في حين أن الرقابة تساهم من جهة أخرى بخلق المتاعب أحياناً، وتضع العثرات بوجه نموّ الكتاب وانتشاره. طبعاً هذه ليست القاعدة، لكنّ شبح الحذر يحجّم موقع الكتاب". غازي السعدي: القرّاء من الطبقة الشعبيّة ويلاحظ غازي السعدي "دار الجليل" تضاؤل حجم العناوين المهمّة على الساحة العربيّة في السنوات الأخيرة، مستخلصاً من ذلك أن حركة النشر تعاني من مصاعب شاملة على المستوى العربي، وأن الأزمة تتجاوز الواقع الأردني. "ومن ناحية أخرى - يضيف السعدي - فإن قارئنا لا يقبل على نوع محدد من الكتب، بشكل ثابت يساعد على تحديد سياسة نشر وتوزيع عقلانيّة. إذ يمكن للقارئ العربي أن يُقبل على الكتاب الأدبي أو السياسي، تبعاً لعوامل ومعطيات مزاجيّة متقلّبة، بالقدر نفسه الذي يقبل فيه على كتب التسلية. لكنّ ما سبق لا يمنع من الاشارة إلى أن الكتب السياسية تحظى برواج أكثر من غيرها". ويعرب السعدي عن "شعور بالاحباط من عملية توزيع الكتاب". ويعزو أسباب الأزمة التي تعصف بحركة التوزيع، إلى "الوضع الاقتصادي المتردي، واغلاق الأسواق العراقية والليبية والجزائرية". ويضيف: "الطبقة الشعبية هي الطبقة الأكثر قراءة، على الرغم من أن دخلها محدود. أما الطبقة الثريّة، فنادراً ما تقرأ، حيث أن هناك ما يلهيها من وسائل التسلية والترفيه على أنواعها. ولا ينبغي أن ننسى الدور الذي لعبته الأقنية الفضائيّة في انحسار توزيع الكتاب، ليس في الأردن فحسب، بل في كل أرجاء العالم العربي". رياض سعيد: من أفضل القرّاء العرب! ويعتبر رياض سعيد ناشر وموزع، من جهته، أن القارئ الأردني يُعدّ من أفضل القراء العرب: "عندما نقول إن كتاباً نجح في الأردن، فذلك يعني أنه بلغ قمة النجاح، لأن القارئ هنا صعب المراس، ولا يستطيع أحد أن يستميله أو يكسب ودّه بسهولة". وبيّن سعيد أن عملية السلام أدت إلى انخفاض الكتب السياسية بنسبة تتراوح بين 60 و70 في المئة، فيما راجت الكتب الدينية، وكتب التراث، والكتب الفكرية، وكذلك كتب التحليل التي تتناول مصير منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. ثم يتطرّق إلى مشكلة الرقابة فيعتبر أن سوء التفاهم الخطير يبدأ مع تحديد مؤهلات الرقيب، ومسؤولياته ومواصفاته. "غالباً ما نصطدم بأشخاص لا علاقة لهم بعالم الكتابة والفكر والأدب والتأليف. فالرقيب معظم الوقت غير متخصص، وهناك ضبابية كثيفة حول نهجه وخلفيّاته ومنطلقاته. لا يسعنا أن نعرف معاييره، وربّما لم تكن لديه معايير أساساً. لا بدّ من أن يعرف هؤلاء الموظّفون أن مهمّتهم الأساسيّة هي التصريح بالكتاب، لا عرقلته ومنعه والحكم عليه بالاعدام". أحمد أبو طوق: بين مدّ وجزر وتبدو حركة النشر لأحمد أبو طوق "الدار الأهلية"، معرّضة لعوامل مناخيّة وطبيعيّة وضغوطات شتّى، ف "تارةً يغمرها المد وطوراً يعتريها الجزر. أحياناً تشعر أنها بخير، وأحياناً تنقلب الأمور فتصاب بالاحباط. ومع ذلك فالناس باتت تعرف الكتاب الجيد من الكتاب الرديء، وصار القارئ يهتم بالمؤلف ودار النشر وطبيعة الكتاب. كما أن الكتاب السياسي والرواية العربية يسيطران على اهتمامات القارئ في الأردن". ويضيف: "الرقابة في الأردن خفت حدتها، هذا يجب الاعتراف به. لكنها مدعوة في هذه الآونة إلى تحقيق نقلة نوعية، تفرضها سنّة تطوّّر المجتمعات البشريّة. لا بدّ من التخلّص من التشدد والحرفية في تطبيق نصوص القانون ومواده". حسين جمعة: توزيع يبعث على الخيبة ويصرّ حسين جمعة "دار الينابيع" على كون الجمهور في الأردن متنوع، ويحتاج تحديده وتصنيفه إلى دراسة معمقة. ويضيف: "صحيح أن الاقبال على الكتب، خصوصاً الجادة منها، محدود. لكنّ الجمهور يشتري الكتب المرتبطة باهتماماته والتي تجيب عن تساؤلاته وهواجسه، أي أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاحباطات الاجتماعية تنعكس ايجابياً على حركة النشر والتوزيع. وبعض الكتب يناقش القضايا الغيبية والشعوذة والسحر". لكنّ جمعة لا يخفي خيبته بسبب ضعف بيع الكتاب في السوق المحلية الأردنيّة، وتحديداً الكتاب الابداعي الأردني. ويشير، من جهة أخرى، إلى أن دور الرقابة محدود جداً على الكتاب المحلي، لأن الكاتب في الأردن لديه ادراك داخلي يلزمه مراعاة بعض الاعتبارات، اذا رغب في اجازة كتابه. لكن ذلك قد يحدّ من انطلاق الكاتب وزخمه الابداعي، لأن الكاتب الحقيقي لا يعترف بالحدود والحواجز، ولا يخضع لشروط الرقابة.