اذا كانت قضية لوكربي ومعها سياسة تصدير الثورة وتسليح مجموعات يتهمها الغرب بممارسة الارهاب دفعت النظام الليبي الى حال الحصار والعزلة على الصعيد السياسي، فإن نتائج الحصار على الصعيد الاقتصادي كانت أقل بكثير مما أملت به الدول التي تتمسك باستمراره. واذا كان الحصار حرم السلطة الليبية، كما تعتقد المصادر الغربية، من القدرة على "اشعال الحرائق واثارة الاضطرابات" فإنه لم يؤدِ الى زعزعة الاقتصاد الليبي الى درجة تهدد مصير نظام العقيد معمر القذافي. وتبدو المفارقة كبيرة بين تقليم أظافر النظام أمنياً وسياسياً، وانتعاش اقتصاده في ظل الحصار. بعد أربع سنوات من الحصار الاقتصادي، يبدو ان الاقتصاد الليبي لم يتأثر جدياً من جراء العقوبات المفروضة عليه. فعائداته من النفط ومشتقاته تشهد زيادة ملحوظة يرافقها ارتفاع في معدل التضخم وتكريس لدور السوق السوداء. فيما تتسابق دول الاتحاد الاوروبي الى كسب ود النفط الليبي وحاجات البلاد، الامر الذي وضعها في مواجهة مصالح، غير مباشرة، مع الولاياتالمتحدة التي تعتبر، على رغم حالة العداء الظاهر مع نظام القذافي، ان ليبيا كانت وستبقى دائرة من دوائر مصالحها الاستراتيجية. "لم يكن الوضع المالي للجماهيرية الليبية أفضل مما هو اليوم بالمقارنة مع السنوات العشر الماضية". هذه هي خلاصة التقرير الذي أعدته "مؤسسة ضمان الصادرات الفرنسية - كوفاس" في نهاية 1995. فقدرة ليبيا - كما ورد في التقرير - على تسديد المستحقات المترتبة عليها لا تزال على رغم التأخير المعتاد والمقصود في بعض الاحيان، مصنفة في خانة "الجيدة"، نظراً الى ضخامة حجم عائداتها النفطية حوالي 15 بليون دولار عام 1995 من جهة والى ضعف دينها الخارجي 9.3 بليون دولار من جهة اخرى. وهنا ينبغي التذكير بأن ليبيا هي البلد شبه الوحيد بين بلدان العالم الثالث غير المدين فعلياً، لا لصندوق النقد الدولي ولا للبنك الدولي أو احدى مؤسساته الفرعية. كما انه لم يتقدم بطلبات قروض تذكر لتمويل مشاريعه التنموية. من ناحية اخرى، فإن الارقام التي تنشرها الحكومة الليبية بين حين وآخر عن مجموع الخسائر التي لحقت باقتصادها من جراء تطبيق العقوبات، ووصلت في 11/6/1995 الى 9.10 بليون دولار، تبقى بحاجة الى التحقق من صدقيتها، على رغم تأكيدات وزير الخارجية الليبي عمر المنتصر اثناء اللقاء الذي جمع قبل أيام العقيد معمر القذافي والرئيس حسني مبارك في منطقة سيدي براني على الحدود المصرية - الليبية. وما دام ان حكومة القذافي لم تنشر موازنتها للعام الحالي، فإن كل الارقام المتعلقة بالخسائر تبقى غير جدية وتدخل في سياق المناورات السياسية. على أية حال، فان استمرار تطبيق هذه العقوبات لم يؤثر عملياً في زعزعة الاقتصاد الليبي، لكنه ترك انعكاسات سلبية عليه تمثلت في التراجع الملحوظ لنسبة النمو وارتفاع معدل التضخم والتكريس الفاضح لدور السوق السوداء وأدواتها التي باتت من الركائز التي اعتاد عليها المجتمع الليبي بكل فئاته. ويشرف على ادارتها - كما يؤكد المتعاملون معها في تونس ومصر وبعض المدن الاووبية كزوريخ وفيينا وروما ومرسيليا - مسؤولون في الحكومة وفي اللجان الشعبية وحتى في الجيش. ويذهب هؤلاء المتعاملون الاجانب الى حد القول ان أكبر نسبة من العمولات التي يدفعونها لوسطاء في بلد عربي في مقابل الحصول على عقود توريد هي في ليبيا، اذ تصل في بعض الحالات الى نحو 33 في المئة. عقوبات لا تهدد هل يمكن للعقوبات بشكلها الحالي تهديد سلامة الاقتصاد الليبي على المدى المتوسط؟ هذا السؤال تجيب عنه التقارير التي أعدتها خيراً المؤسسات المالية العالمية وبعض المصارف الاوروبية، منها الفرنسية مثل "باريبا"، والمشتركة مثل "يوباف"، وبعض الشركات النفطية العالمية العاملة في ليبيا بالتأكيد ان اقتصاد الجماهيرية، المستند في غالبيته الى النفط، تأثر من دون شك بانخفاض أسعار النفط وسعر صرف الدولار الأميركي وانعكاسات تجميد الموجودات الليبية في الخارج. لكن هذا التراجع يبقى ضمن الاطار الذي يمكن استيعابه والسيطرة على آثاره، ولا يمكن بالتالي ان يشكل تهديداً جدياً للاقتصاد الليبي، خصوصاً اذا علمنا بأن عائدات قطاع البتروكيماويات - الذي يشهد منذ أكثر من ثلاث سنوات طفرة غير عادية - يدر بمفرده لخزينة الدولة حوالي 6.4 بليون دولار سنوياً. فكيف يمكن عندئذٍ لاقتصاد تبلغ عائداته الاجمالية من النفط ومشتقاته اكثر من 15 بليون دولار ويبلغ عدد سكانه الفعلي حوالي أربعة ملايين نسمة ان يكون مهدداً بسبب عقوبات لم تمس صلب عمليته الانتاجية؟ اضافة الى ذلك، فإن من غير المحتمل ان تدخل الحكومة الليبية هذا العام في مشاريع جديدة كبرى ترتب عليها اعباء استثنائية، الا اذا قرر القذافي غير ذلك بهدف القيام بلفتة نحو بلد أوروبي أو دولة عربية مجاورة. وتشير معلومات في هذا الصدد الى ان شركة "سبي - باتينيول" الفرنسية هي على وشك انتزاع عقد لبناء مجمع سياحي بالقرب من العاصة طرابلس، بعدما قررت الحكومة تنشيط القطاع السياحي في البلاد. ومع ذلك فإن النفقات الاستثمارية ستبقى مخصصة - كما هو مرسوم - لمتابعة انجاز المشاريع الاساسية المتعلقة أولاً بالتنمية الزراعية، وانتاج الكهرباء، العائدة على وجه الخصوص لمحطة توليد الكهرباء في مليتا، فيما كل المحطات الكهربائية في البلاد تحتاج الى تحديث. في هذا المجال، تلعب شركة "سيجيليك" الفرنسية دوراً أساسياً، كذلك مشروع الحديد والصلب في مدينة مصراتة، وأخيراً مشروع "النهر الصناعي العظيم" الذي دخل مرحلته الثالثة. وهي مشاريع كلفت على مدى ثمانية أعوام حوالي أربعة بلايين دولار. أما شأن مشروع اعادة تنظيم شبكة الهاتف وادخال الخليوي، فإن المعركة تدور رحاها بين اللوبي المؤيد للشركة السويدية "إريكسون"، وهو المقرب من أوساط الجيش، واللوبي المناصر لشركة "الكاتيل" الفرنسية والمؤلف من رجال أعمال ووزراء وسفراء. ديون وسوق سوداء من جهة اخرى، تجدر الاشارة الى ان الدين الخارجي لليبيا لم يتجاوز 9.3 بليون دولار بنهاية عام 1995 230.2 بليون دولار طويل الامد و670.1 بليون دولار قصير الامد، في حين ان خدمة الدين في مقابل التصدير بلغ حدود 5 في المئة. فطرابلس لم تلجأ الى الاستدانة من الخارج الا بنسب ضعيفة حتى في الفترة التي سجل ميزانها التجاري عجزاً ظاهراً. لقد فضلت الحكومة تأجيل استحقاقاتها للدائنين الذين قبلوا بدورهم التسديد في مقابل النفط، وهي صيغة اعجبت الكوريين الجنوبيين كما الاوروبيين. ففي مواجهة دين متواضع نسبياً - بالمقارنة مع عائدات مرتفعة تضاف اليها احتياطات بالعملات الصعبة وصلت في نهاية 1995 الى حدود 7.4 مليار دولار حسب المعلومات الرسمية وتزيد في الواقع عن ذلك بكثير! - فان الاقتصاد الليبي لا يمكن بأية حال من الاحوال ان يكون مهدداً من الناحية البنيوية. فنسبة تغطية الصادرات للواردات تعادل 118 في المئة ما يدرج المخاطر التجارية لليبيا في فئة "الجيدة". مع ذلك تنصح المؤسسات المالية المختصة المتعاملين مع الزبائن الليبيين بطلب فتح اعتمادات مضمونة من مصارف اجنبية لأن القوانين يمكن ان تتغير بين لحظة واخرى في بلاد "الكتاب الأخضر" حيث "السلطة والثروة والسلاح في يد الشعب"... ويبقى الخلل في السوق السوداء التي يحاول البنك المركزي الليبي التصدي لها من دون جدوى. فلقد عمد في تشرين الثاني نوفمبر 1994 الى خفض قيمة الدينار بنسبة 5.18 في المئة كذلك، اسست السلطات المالية شركة صيرفة ظل رأس مالها سرياً وساهمت فيه ستة مصارف تجارية محلية اضافة الى الشركة العربية الليبية للاستثمار الخارجي "لافيكو". منذ ذلك التاريخ، لم تتمكن شركة الصيرفة الجديدة من السيطرة على الوضع، كما لم تنجح في الحلول مكان "بنك الشجرة" القائم على جانبي الحدود بين كل من ليبيا وتونس من جهة وليبيا ومصر من جهة اخرى. ولا يزال الدينار الليبي يصرف بأقل من دولار تحت شجيرات السلوم ورأس جدير. دورات وتدويرات للرساميل ويتابع المعنيون بالمال الليبي تنفيذ مراحل "الاستراتيجية الهادئة" على صعيد النشاطات المالية العالمية وطريقها الانخراط فيها، على مستوى انتهاج سياسة استثمارية بعيدة عن الاعين في الخارج. ويؤكد بعض الخبراء ان هذه الاستراتيجية وضعت موضع التنفيذ منذ منتصف عقد السبعينات، وبالتحديد اثر الطفرة النفطية الاولى. في هذا الاطار، يمكن القول ان النظام الليبي "احترم" بدقة عملية الفصل بين "المنطق الثوري" والمبادئ الرأسمالية عندما انشأ مؤسسات مستقلة كتلك القائمة في القطاع الخاص. ولم يكتف بذلك بل وضع على رأسها خبراء تأهلوا في ابرز الجامعات الانكلو - ساكسونية مثل اكسفورد - يال، هارفرد وغيرها. والاهم من ذلك كله ان العقيد القذافي منع شخصياً أياً كان، بما في ذلك اللجان الثورية، من الاقتراب من هذه المواقع. وهنا ينبغي التذكير بأنه في 5 كانون الاول ديسمبر 1993، أي قبل تطبيق القرار الرقم 883 المتعلق بتجميد الموجودات الليبية في الخارج، كانت ليبيا وضعت خطتها القاضية ب "تهريب" موجوداتها الى أماكن آمنة. وعمدت الى اتباع سياسة بعيدة عن الضجيج الاعلامي والسياسي. فأعادت توزيع رساميلها جغرافياً، كما نقلت ودائعها المصرفية من بلد الى اخر كل شهر. وكان بنتيجة ذلك ان هربت هذه الموجودات سريعاً من الاسواق المالية الاوروبية محتفظة في الوقت نفسه بمواطئ اقدام لها واقنية في لندن وروما وزوريخ وفيينا. ولعبت مصارف وأسواق في دول الخليج دوراً كبيراً، كذلك مصارف دول اتحاد المغربي العربي التي سهلت عمليات التموضع الموقت للرساميل هذه، في الوقت الذي أبدت المصارف المغربية اهتماماً خاصاً بالمال الليبي. أما الاسواق المالية لدول جنوب شرقي آسيا، فاستوعبت منذ بداية عقد التسعينات قسماً من هذه الاموال التي وظفت في مشاريع عدة منها تكرير النفط. ولكن يبدو ان ليبيا لم تعد تكتفي بأسواق الفيليبين وماليزيا وكوريا الجنوبية فبدأت منذ منتصف 1995 بالتوجه الى الصين وفيتنام. وتفيد معلومات ان الرساميل الليبية عادت للاستثمار في بيروت وفي قطاع البناء بالذات. ويلعب المصرف التونسي - الليبي رأس الحربة في توطين الاموال واستثمارها. ومن المتوقع ان تزداد التوظيفات الليبية في كل من مصر والمغرب في الاشهر المقبلة. وفي هذا السياق، تشير بعض الاوساط، الى ان "لافيكو" تبدي اهتماماً كبيراً بعملية تخصيص أكبر محطة لتكرير النفط في المغرب "لاسمير" الجاري الاعداد لتنفيذها حالياً. وستدخل "لافيكو" بطريقة غير مباشرة مع شركاء محليين. "اعتقد بأن مصالحنا تتناقض مع مصالح الولاياتالمتحدة خصوصاً عندما يتعلق الأمر بتطبيق الحظر النفطي الكامل على ليبيا". هذا ما أكده مسؤول كبير في الاتحاد الاوروبي في بروكسيل عشية المراجعة الاخيرة لتطبيق العقوبات على طرابلس. ومرة اخرى، تفشل واشنطن في استدراج مجلس الأمن الى الصيغة التي تريد فرضها. فالأوروبيون وقفوا موقفاً موحداً في وجه المشروع الاميركي. والاكثر من ذلك، ابلغت دول عربية حليفة لأميركا، مستشار الأمن القومي للرئيس الاميركي "انطوني ليك" بأنها ستعترض على أية عملية من شأنها توسيع رقعة هذه العقوبات. وكل هذا يعني انه بعد أربع سنوات ونيف على المتابعة المضنية، العديمة الجدوى، عملت الأممالمتحدة أخيراً على تفادي المساس ب "الطلسمان الليبي"، بمعنى آخر نفطها، هذا الخام الذي يحتوي على أكبر نسبة من البنزين بأقل كلفة، حتى بات سعره أقل من سعر نفط دول الخليج. وبناء على هذا الواقع يمكن القول ان اعضاء مجلس الأمن - ما عدا مندوب الولاياتالمتحدة بالطبع - فضلوا التوقف أمام الطريق المسدود على المواجهة المباشرة مع النظام الليبي، حفاظاً على استمرار تدفق هذا النفط الخام الملائم نوعية وسعراً. هذه المحصلة ادركتها طرابلس وعملت على أساسها. فمن خلال النفط، المميز تجارياً والقريب من أوروبا، جعل القذافي محاوريه الاوروبيين يعتقدون بأنهم يستخدمونه لتحقيق اهدافهم الاقتصادية، في حين كان هو المستفيد. ان الرهان على قوة الدور الذي يلعبه النفط الليبي هو كون احتياطاته تصل الى 45 بليون برميل من الخام و52 تلريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، حسب الدراسة التي اعدتها "شركة النفط الوطنية الليبية". ويعتبر حقل "البوري"، أكبر حقل "أوف - شور" في البحر الأبيض المتوسط، اذ تبلغ احتياطاته 5 بلايين برميل. اما الاكتشافات الجديدة التي تحققت في منطقتي مبروك ومرزوق فستؤدي الى زيادة انتاج النفط في السنوات الخمس المقبلة. وتشير المعلومات في هذا الصدد الى ان الانتاج من حقل مرزوق سيبدأ خلال العام الحالي. ويمكن ان يصل الى 200 ألف برميل يومياً. اما حقل مبروك، فإن الانتاج قد يصل الى 150 ألف برميل يومياً خلال عامي 1997 - 1998. وفي المقابل نشرت الحكومة الليبية تقريراً يفيد ان الانتاج النفطي سينخفض من 7.1 مليون برميل يومياً الى 1.1 مليون بعد سنة 2000. وعلى هذه المقولة يعلق أحد الخبراء الاميركيين الذي عملوا طويلاً "لحساب شركة النفط الوطنية الليبية" بالقول: "هذه المعلومات ليست سوى وسيلة لابتزاز الشعب الليبي وهي غير حقيقية جملة وتفصيلاً". على أية حال، من الملاحظ ان الشركات الاوروبية النفطية بدأت بزيادة اهتمامها بالنفط الليبي بالعلاقات مع ليبيا، وزاد التوتر الحاصل في هذا الشأن اخيراً مع الولاياتالمتحدة، وايفاد مبعوث للاتحاد الاوروبي الى واشنطن هو دليل على ذلك. باختصار، اصبحت اوروبا وشركاتها موجودة داخل الصناعة النفطية الليبية. فهل يمكن ان نتساءل بعد ذلك هل تنجح المقاطعة في تهديد الاقتصاد الليبي وبالتالي النظام الليبي؟ ولكن يمكن التساؤل من ناحية اخرى، هل تسمح واشنطن بإبعادها عن منطقة غنية بالنفط محسوبة لها وعليها؟ ان وجود الشركات المتعددة الجنسية، كالكندية والكورية والجنوبية وغيرها هو الرد على هذا التساؤل. مستوى دخل الفرد : 4330 دولاراً ناتج الدخل القومي الاجمالي: 5.22 مليار دولار نمو الناتج القومي 1992 1993 1994 1995 1996 * التضخم 5.2 +$ 0.7 -$ 0.5 -$ 4 -$ 5.3 $ بملايين الدولارات 0.2 "$ 3"$ 5.4 "$ 6"$ 8.5 $ الصادرات 11352 9950 7680 10060 11400 الواردات 7575 6700 6300 6500 6700 الاحتياطات بالعملات الصعبة 5084 5361 5000 4700 4900 اجمالي الدين الخارجي 4938 4340 3900 3940 4200 الدولار = 35.0 دينار بالسعر الرسمي الدولار = 20.1 دينار في السوق السوداء. ابرز المعادلات: معدل تغطية الصادرات للواردات: 118$ احتياطات العملات الصعبة في مقابل الواردات: 5.8 شهر. المصادر: صندوق النقد الدولي، مصرف ليبيا المركزي، صندوق ضمان الصادرات الفرنسي كوفاس.