ينطبق المثل الفرنسي "عش مختبئاً، تعش سعيداً"، على اصحاب القرار السياسي والمالي في الجماهيرية العربية الليبية. فقد استغل هؤلاء التأزم الدولي الحاصل وانشغال الجميع بالحرب على العراق ليتجاهلوا اعلان موازنة 2003 او الاشارة الى عائدات النفط وخلافه لسنة 2002، كذلك، لتناسي التوجهات المعقدة منذ سنتين ونيف لناحية التحرير التدرجي للاقتصاد، الذي لم يخرج عملياً عن الحدود المسموح بها "ثورياً". في هذا الوقت، توسع الادوات الاستثمارية الليبية وامتداداتها في انحاء العالم عموماً وفي افريقيا خصوصاً. ولم تصح، على الاقل حتى الآن، التنبؤات التي ذكرتها احدى النشرات الاجنبية الصادرة في السادس عشر من كانون الثاني يناير الماضي بخصوص تغييرات أساسية تمس القطاعين المالي والاقتصادي في ليبيا. كما لم يحدث التعديل الوزاري الذي توقعته وسائل اعلامية عدة مطلع آذار مارس المفترض اثر انتهاء اعمال مؤتمر الشعب العام البرلمان المخول مناقشة واعتماد التعيينات الجديدة وتوزيع الموازنة الجديدة وبت المشاريع الرئيسية التي تكون القيادة الليبية اقرتها سلفاً. اما عائدات النفط والبتروكيماويات والاستثمارات الخارجية فتبقى من المحرمات، وضمن الخط الأحمر لا يحق لهذا المؤتمر واعضاؤه او لأي كان تجاوزه بأي حال من الاحوال. وتبقى هذه المواضيع في اطار "اسرار الآلهة" حفاظاً على مصلحة الوطن العليا. ومن التسريبات التي ساهم في ترويجها بعض المصادر الليبية المختصة، الجزم بأن رئيس "مؤسسة النفط الوطنية الليبية" نوك عبدالحفيظ الزليطني سيعين بمنصب وزير الاقتصاد محل شكري غانم المقرّب من سيف الاسلام معمر القذافي الذي لم ينجح حسب المصادر عينها، في تحرير الاقتصاد الليبي وفقاً للنهج الذي دعا اليه "القائد" مراراً في الشهور الاخيرة. كما تسجل عودة لجاد الله عزوزو الطلحي وزير الخارجية الاسبق على حصان ابيض مدعوم من اللجان الثورية الذي يقال انها استعادت بعضاً من نفوذها الذي فقدته في الاعوام الثلاثة الماضية ليتولى قيادة الفريق الحكومي مكان مبارك الشامخ. سياسة الانتظار على اية حال، ومن خلال قراءة سريعة لهذا الضخ الاعلامي المركز على الجانب الاقتصادي يمكن الاستنتاج بأن ليبيا ستستمر بتطبيق سياسة الانتظار لعام آخر حتى تتضح الصورة اكثر خصوصاً بعد حرب العراق من جهة، وحتى اتمام عملية التفاوض مع الولاياتالمتحدة الاميركية على دفع تعويضات لوكربي وتثبيت اقدامها في منتدى "5"5" الذي يضم خمس دول عربية مغاربية وخمس دول اوروبية، هذا المنتدى الذي استضافته طرابلس الغرب في 24 شباط فبراير الماضي الذي اعتبرته الاوساط المراقبة بمثابة عودة هذا البلد الى الساحة الدولية رسمياً. نتائج 2002 وتوقعات 2003 اذا كانت الحكومة الليبية لم تعط اي ارقام تبقى على اية حال، بحاجة الى اثبات دقتها عن مداخيل النفط عبر احد امنائها وزرائها، الذي ليس بالضرورة ان يكون الوزير المختص كما جرت العادة عشية انتهاء كل عام، الا ان بعض الدراسات التي اعدتها مصارف الاعمال السويسرية لحساب كبريات الشركات الاوروبية المهتمة بالسوق الليبية، عن تطور السيولة النقدية واحتياطات هذا البلد من العملات الاجنبية، اشارت الى ان هذه العائدات من قطاع النفط والبتروكيماويات المنبثقة عنه يمكن ان تكون قد تجاوزت عتبة ال24 بليون دولار عام 2002، ما ينفيه احد الوزراء الاساسيين المقربين من السلطة، جملة وتفصيلاً، ملمحاً الى ان هذه المداخيل لا تصل في احسن حالاتها الى ما يقارب ال17 بليون دولار وبأن الجماهيرية خلافاً لعدد كبير من دول "اوبك" لم تحتسب موازنتها على اساس سعر برميل النفط قيمته 15 دولاراً. لكنه لم يفصح في المقابل، عن السعر المعتمد كمرجع. لكن احد خبراء "كوماس" المؤسسة الفرنسية لتأمين التجارة الخارجية ممن شاركوا في اعداد الدراسة السنوية عن المخاطر المالية لدول المغرب العربي، اكد ان هذه العائدات في ظل ثبات اسعار النفط في مستوياتها المرتفعة نسبياً، كذلك بالنسبة الى البتروكيماويات التي زاد الطلب عليها يمكن ان تصل بسهولة الى عتبة 24 بليون دولار المشار اليها على اساس احتساب سعر البرميل ب28 دولاراً. في السياق نفسه اشارت احدى دراسات مصارف الاعمال هذه الى ان احتياطات ليبيا بالعملات الاجنبية ما عدا الذهب زادت بنسبة 9 في المئة عام 2002 الى 22 بليون دولار، وتتوقع ان ترتفع هذه النسبة سنة 2003 بمعدل 7 في المئة كحد ادنى. واذا كانت الحكومة الليبية تمتنع عن الخوض في غمار مداخيل الاستثمارات الخارجية التي تشكل في الاساس، ومنذ زمن، مصدراً لقوة وثبات الاقتصاد الليبي، فذلك لانها عاجزة عن الوصول الى مصادر المعلومات المتعلقة بهذا الشأن. فمؤسسات الاستثمار المعنية مثل: "لافيكو" الشركة العربية الليبية للاستثمار الخارجي الذراع الضاربة للمالية الليبية، و"الشركة الليبية الافريقية للاستثمار" التي تأسست في حزيران يونيو الماضي تقدر استثماراتها في القارة السوداء حالياً ب4 بلايين دولار، وشركة "اويل انفست"، وهي من الدوائر التي من المستحيل على اي كان، حتى اللجان الثورية، الاقتراب منها. فهي تشكل عالماً قائماً بحد ذاته، منفصلاً عن تركيبة النظام ومراكز القوى فيه. فهذا المجال يعتبر معقلاً من حقول العقيد القذافي الذي يشرف عليه بمساعدة فريق من الخبراء الذين تلقوا تعليمهم العالي في ميدان المال والاعمال لدى ابرز الجامعات الانكلو ساكسونية عى غرار هارفرد وييل واوكسفورد او كمبردج. لذا، فمن الصعب والحالة هذه، الحصول على معلومات دقيقة عن ايرادات هذه الاستثمارات التي تشير بعض الاوساط الليبية المطلعة الى انها تراوح بين خمسة وثمانية بلايين من الدولارات. على رغم الخسائر التي منيت بها في ايطاليا العام الماضي والتي قدرت بنحو 1.2 بليون يورو خصوصاً بعد التدخل المباشر لنجل القذافي، الساعدي، وارغامه بعض مسؤولي "لافيكو" على الدخول في عمليات تمويل خاسرة، كان بنتيجتها ان اتخذ الزعيم الليبي قراراً لا رجعة فيه يمنع اياً من اولاده الاقتراب من المؤسسات الاستثمارية الخارجية الليبية. ومن نقاط القوة الملحوظة في الاقتصاد الليبي، امتصاص ما تبقى من حجم الدين العسكري الذي راكمته ليبيا في عقد الثمانينات لدى الاتحاد السوفياتي السابق ومنظومة الدول الاشتراكية، الذي وصل عام 1986 الى ما يقارب 12 بليون دولار، فخفض الموازنة العسكرية بدءاً من 1992 بمعدل 70 في المئة كذلك التراجع نهائياً عن دعم حركات التحرر في العالم، بما فيها المنظمات الفلسطينية الحليفة لها، والذي كان يكلف خزينة الجماهيرية ما بين ثلاثة واربعة بلايين دولار سنوياً هي من العناصر التي ساهمت بتعزيز الاقتصاد. ومن العوامل الاخرى، عدم اقرار مشاريع ضخمة جديدة لحين انتهاء تلك التي كانت قيد التنفيذ مثل مشروع النهر الصناعي وتوسعة مجمع "ابو كماش" للبتروكيماويات الذي فاقت تكاليفها عشرة بلايين من الدولارات. ومن مظاهر قوة الاقتصاد الليبي الاخرى عدم الحاجة الى فتح قطاع الهيدروكربوات امام الاستثمار الخارجي، او اللجوء لتخصيص الخدمات، علماً بأن البلد بحاجة ماسة الى هذا النوع من التحولات في ظل اهتراء البنيات التحتية وتخلفها. لكن النظام باق على حذره من دخول الشركات الاجنبية في النشاطات المرتبطة مباشرة بالجانب الاجتماعي، على رغم التصريحات المتعددة للمسؤولين التي تدعو الى شراكات مع مؤسسات من القطاعين العام والخاص. ويركز الليبيون خلال مفاوضاتهم مع ممثلي كبريات الشركات الغربية المتدافعة اليوم على أبواب العاصمة الليبية، للتذكير بأن بلادهم ليست بحاجة لاستثمارات خارجية مباشرة، أو اللجوء للاقتراض من الأسواق الدولية لتمويل مشاريعها المستقبلية التي خصصت لها نحو 35 بليون دولار للسنوات الست المقبلة، والتي تتركز بمعظمها على تطوير البنيات التحتية وتحديث قطاعات متعددة خارج اطار قطاع الهيدروكربورات. كما ويتعمد الليبيون تمرير "الجملة" التي تلفت في كل مناسبة نظر محاوريهم الى أن "الجماهيرية العظمى" ليست بحاجة لأحد، كما انها الدولة الوحيدة، اضافة لدولة الامارات العربية المتحدة في العالم الثالث غير مدينة، لا للبنك الدولي ولا لأية صناديق عربية واقليمية، ولا تخضع لشروط صندوق النقد الدولي. مع ذلك، لا يعطي المسؤولون، أية تفسيرات لتردي القوة الشرائية للمواطن وتراجع مستوى المعيشة، ولا عن أسباب ارتفاع معدلات البطالة، خصوصاً بين الشباب التي تتجاوز 24 في المئة. النفط والاستثمارات ينتظر القيمون على الاستثمارات الخارجية الليبية انتهاء الحرب على العراق وانعكاساتها، لاقتناص كل الفرص المتاحة مالياً، ويردد هؤلاء منذ فترة، بأن استثمارات ليبيا لا تخضع كغيرها "لمراقبة"، ذلك لأنها بعيدة عن الشبهات لناحية ارتباطها بالارهاب الدولي كغيرها. مع ذلك، لا يتمكن الليبيون من اقناع الاطراف المالية الدولية ان الولاياتالمتحدة الاميركية سترفع العقوبات الاقتصادية بمجرد دفع التعويضات لضحايا اعتداء لوكربي. لذا، فمن المستبعد أن تتمكن الاستثمارات الليبية من دخول السوق المالية الاميركية لتحتل مكان بعض الاستثمارات العربية التي غادرت هذه السوق بعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001. لذا، فمحاولة اقتناص الفرص بأي ثمن ليست محسومة مسبقاً على رغم النشاط المكثف الذي يقوم به الوسطاء الماليون الايطاليون والبريطانيون والسويسريون. ما يدفع شركة "لافيكو" و"أويل انفست" و"الشركة الليبية - الافريقية للاستثمار" للتوجه أكثر فأكثر في السنوات المقبلة الى الدول الافريقية بما فيها العربية. وعدا حسم النقاط العالقة التي كانت تعيق تقدم الاستثمارات في مصر خلال اللقاء الذي سبق القمة العربية في شرم الشيخ بين العقيدالقذافي والرئيس حسني مبارك، يبدو أن ليبيا تراهن على رأس حربتها، النفط والاستثمارات، لتعزيز تواجدها في عدد كبير من أسواق القارة الافريقية، حيث بلغت القيمة الاجمالية الاستثمارية حسب وزير الوحدة الافريقية، علي عبدالسلام التريكي، 1.2 بليون دولار. فعدد المشاريع التي ينوي الليبيون الاستثمار فيها في مختلف دول القارة وصل الى 2082 مشروعاً من بينها 245 مشروعاً تبلغ قيمة استثماراتها 98 بليون دولار، دخلت حيز التنفيذ. إلا أنه لم يذكر هذه الدول بالاسم. وتعمل ليبيا وفق استراتيجية جديدة تقوم على قاعدتين أساسيتين: النفط والاستثمار في مشاريع مشتركة. ومن الأمثلة الحديثة على هذا التوجه، الاتفاقان الموقعان مع السنغال في 25 شباط الماضي. الأول يقضي بإنشاء مصرف مشترك بين البلدين، والثاني توفير جزء كبير من احتياجات داكار من النفط بأسعار تفضيلية، والصيغة نفسها ستعتمدها ليبيا مع النيجر ومالي وعدد من الدول التابعة لمنظمة "س.ص" الساحل والصحراء التي يرأسها العقيد القذافي. ومن جملة عناصر هذه الاستراتيجية الجديدة، تشجيع رجال الأعمال الليبيين على تشكيل وفود على مدار السنة لاستكشاف فرص الاستثمار في القارة الافريقية. وتعطي الدولة الليبية ضمانات وتسهيلات مصرفية لهؤلاء في مساهمة منها لملء الفراغ الاستثماري في هذه البلدان، والعمل على الربط التدريجي لاقتصاداتها بالاقتصاد الليبي، ما يمكن أن يخلق مع الوقت حالاً من التبعية على غرار ما كان قائماً بين الاتحاد السوفياتي السابق والدول الشيوعية في شرق أوروبا. من جهة أخرى، تفيد بعض المعلومات بأن شركة "لافيكو" و"اويل انفست" تعملان معاً منذ شهور على دخول أسواق دول المغرب العربي، مستفيدة من الثغرات الموجودة من ناحية، ومن ناحية أخرى، عبر احتياجات هذه البلدان نتيجة التداعيات المرتقبة لحرب العراق، والانكماش الاقتصادي داخل الاتحاد الأوروبي - الشريك الرئيسي للدول المغاربية - والتراجع الكبير المتوقع للاستثمارات الخارجية المباشرة لسنتي 2003 و2004، وأيضاً هبوط العائدات السياحية. ومن المنتظر ان تفاوض الشركات الاستثمارية الليبية الحكومة المغربية على اعتماد الصيغة "السنغالية" في مقابل اعطائها الأولوية في حصص شركات سعت "لافيكو" ومصرف التجارة الخارجي الليبي في الماضي الحصول عليها من دون جدوى. ولم ينس الليبيون حتى الآن كيف تم استبعادهم من عملية تخصيص "البنك المغربي للتجارة الخارجية" أو تقليل مشاركتهم في رأس مال "اونا". كما ويبدي الليبيون اليوم اهتماماً خاصاً بالاستثمار في المنطقة الحرة في ميناء طنجة. في هذا السياق، ذهبت ليبيا الى حد تقديم مساعدات فورية من النفط بأسعار رمزية مساهمة منها في مساعدة الرباط على تجاوز صعوباتها في هذا المجال في حال طال أمد حرب العراق. كما وتركز المالية على الساحة التونسية التي لم تتجاوز استثماراتها فيها حتى نهاية سنة 2002 ما قيمته 200 مليون دولار. وتراهن هذه المالية على الدور الذي يضطلع به فرع "لافيكو - تونس"، الذي اشترى أخيراً بسعر "تشجيعي"، المجموعة الفندقية "تورغونيس" التي تملك فندق "دار جربه" الشهير، كما تنوي الذهاب أبعد من ذلك في تطوير شراكات مع رجال أعمال تونسيين لديهم الخبرة في هذا المجال، خصوصاً بعدما تمكنت من إزالة "الحاجز النفسي" المكون لديهم من تجارب سلبية سابقة مع مستثمرين ليبيين. وهنالك اليوم مشروعان أوشكا على الانتاج في مجالي الصناعة الغذائية - الزراعية، ومواد البناء، وثالث، وهو المجمع السياحي في مدينة تاجوراء الساحلية الليبية. وتشير المعلومات الى أن طرابلس الغرب ستحاول ما أمكن توظيف الانفتاح التونسي الذي تفرضه مناخات الحرب الضاغطة وانعكاساتها المتوقعة على اقتصاد هذا البلد، الذي تشكل السياحة والصادرات والاستثمارات الخارجية أعمدة نموه الاقتصادي ذي المعدل المرتفع نسبياً والمنتظم منذ أكثر من عقد، من جهتها، قررت تونس اعطاء الأولوية لجارتيها، الجزائر وليبيا، لملء فراغ تراجع العائدات التي توفرها في العادة دول الاتحاد الأوروبي التي بدأت تعاني منذ منتصف العام الماضي من انكماش ظاهر. باختصار، يمكن الاستنتاج بأن ليبيا تستعد للعب ورقة متانة اقتصادها ووفرة سيولتها النقدية وتداعيات حرب العراق لاقتناص الفرص في كل مكان من العالم - حسب قول أحد مسؤولي "لافيكو" - ما عدا بالطبع السوق الأميركية "الحلم الكبير". هذه السوق التي ستبقى على ما يبدو محظورة عليها حتى إشعار آخر، على رغم التقدم الذي يؤكده ديبلوماسيوها في عملية التفاوض حول دفع تعويضات لوكربي. * اقتصادي لبناني.