احتفل العقيد معمر القذافي في الأول من أيلول سبتمبر الجاري بالسنة ال35 لوصوله الى السلطة في ليبيا. فإذا كان العامل السياسي بمثابة"كعب أخيل"بالنسبة لنظامه"الجماهيري"، إلا أن الاقتصاد، على العكس من ذلك تماماً قد شكل أحد الأسباب الرئيسية لاستمراريته وديمومته. خلافاً لجارتها الجزائر أو الدول النفطية العربية الأخرى، لم تستخدم ليبيا فوائض عائداتها من الهيدروكربورات لخفض دينها أو لاخراج مؤشرات الاقتصاد الكلي من الدوائر الحمر. واقعياً، يمكن القول إن الارتفاع الثابت لأسعار النفط انما يعزز أوضاعاً اقتصادية ومالية متينة أصلاً. في هذا السياق، تجدر الاشارة الى ان موازنات الجماهيرية الليبية قد سجلت منذ العام 1997 فائضاً. ويعود ذلك، حسب أحد أبرز مستشاري الزعيم الليبي، وزير النفط السابق وأحد العاملين في الماضي في الكونسورتيوم النفطي الاميركي"اوازيس"الواحات، عبدالله سالم البدري، للسياسة الاقتصادية"الوقائية"، المعتمدة منذ نهاية حرب الخليج الثانية في العام 1991. إذ عمدت طرابلس الغرب على ما يبدو الى حساب التحولات التي طرأت على العالم بدقة وبنوع من البراغماتية اللافتة. وعملت بالتالي على تبديل تدريجي لنهجها. ما سمح في نهاية المطاف، بتأمين عودتها ولو بصعوبة للساحة الدولية. ويرى المحللون الاقتصاديون، أن هذه السياسة الاحترازية قد بدأت مع صرف النظر نهائياً عن تقديم المساعدات"لحركات التحرر العالمية"، التي وصفت المجموعة الدولية البعض منها بالارهابية، مثل مجموعة أبو نضال، أو الجيش الجمهوري الايرلندي. كذلك، التخلي عن تقديم العون المالي لعدد من البلدان العربية التي وعدت في حينه، يلعب دور تجاه الولاياتالمتحدة الاميركية لرفع الحظر المفروض على ليبيا منذ أكثر من عقد. ويؤكد هؤلاء المحللون أن قيمة هذه المساعدات قد تجاوزت، في وقت من الأوقات، ال4 بلايين دولار سنوياً. وضمن التوجه نفسه، قامت الحكومات الليبية المتعاقبة بخفض حاد للموازنة المخصصة للدفاع، والتي كانت تمثل نحو 45 في المئة في سنوات السبعينات والثمانينات. كما جمدت غالبية الاستثمارات المخصصة لمشاريع البنيات التحتية. ما سمح من جهة، باعادة التوازن لمختلف الموازين، التجاري والمدفوعات وغيرها. ومن جهة أخرى بزيادة حجم الرساميل الموظفة في الخارج. فصل الايديولوجيا عن المالية تفيد التقارير المتوفرة لدى صندوق النقد الدولي والمصارف الغربية المهتمة حديثاً بحالة الانفتاح الجارية ولو بخجل، وبنوع من العشوائية، بأن العقيد القذافي عمل بعد سنوات قليلة من تسلمه للسلطات في الأول من أيلول سبتمبر من العام 1969، الى احاطة نفسه بفريق من الخبراء الماليين، المتخرجين في غالبيتهم من أهم الجامعات الانكلو ساكسونية. ولقد استطاع هؤلاء بعد جهد جهيد كما يؤكد أحد رفاق الرئيس الليبي، وأحد أعضاء مجلس قيادة الثورة من اقناعه بضرورة فصل العقيدة الثورية عن الشأن المالي، بمعنى آخر العائدات والاستثمارات، هذا أولاً، وثانياً بانشاء المؤسسات الكفيلة بايجاد قنوات لفوائض العائدات النفطية، وبالتالي توجيهها بسرية تامة نحو الاستثمار في عملية مربحة في الخارج. بناء عليه منع قائد الثورة الليبية أياً كان بمن في ذلك اللجان الثورية صمام الأمان لنظامه الاقتراب من هذه المواقع المالية. كما حرص على أن يفهم المتعاطون بالشأنين السياسي والاقتصادي التعامل بمسؤولية وبتواضع عندما يؤتى على ذكر هذا المجال خلال اللقاءات أو في المحافل الدولية. هكذا، ومع مرور الزمن، باتت الاستثمارات في الخارج المصدر الثالث للاقتصاد الوطني، بعد الهيدروكربورات وصناعة البتروكيماويات. في هذا الاطار، يذكر بعض ممن تولوا مناصب حكومية رفيعة، ومواقع حساسة في المؤسسات المالية والمصرفية الليبية، بأن المداخيل من الاستثمارات وصلت في العام 1995 الى ما يقارب ال5 بلايين دولار سنوياً، والتي حسب قولهم، لا بد من حيث مسار الأمور، ان تزيد بشكل واضح اليوم، خصوصاً انه لم يسمع في وقت من الأوقات بأن الاستثمارات الليبية صادفت هزات أو فضائح، على غرار ما حصل مع العديد من الاستثمارات العربية في الخارج. بينما، في المقابل، سجلت الاستثمارات الليبية اختراقات وتوسعاً في العديد من بلدان العالم. فلقد تمكنت، على سبيل المثال، الشركة العربية الليبية للاستثمار الخارجي"لافيكو"، الذراع الضاربة للمالية الليبية، من شراء حصص جديدة لها في مجموعات ايطالية وماليزية ونمساوية وتونسية ومصرية ومغربية. كما زادت من موجوداتها في رساميل مجموعات دولية كما حصل مع"بنكا دي روما". ذلك، بغض النظر عن"الهجمة"الحالية التي تشنها في افريقيا"الشركة العربية الليبية للاستثمار"لايكو، التي طورت حجم استثماراتها بشكل لافت، بحيث تجاوزت الثلاثة أضعاف في أقل من سنتين. والمؤشرات الأخرى في هذا الصدد، أي التركيز على الاستثمارات الخارجية في المرحلة المقبلة، اعلان سيف الاسلام القذافي، في الرابع والعشرين من شهر تموز يوليو الماضي في لقاء بفندق"بوابة افريقيا"بالعاصمة طرابلس الغرب، عن انشاء"الشركة الافريقية للاستثمار"برأسمال قدره بليون دولار لتمويل سلسلة من المشاريع التنموية وفق الاستراتيجية المحددة من قبل"الاتحاد الافريقي". في هذا الاطار، اشار محمد الرزوق رجب الأمين السابق لمؤتمر الشعب العام، أي البرلمان، ورئيس شركة"لافيكو"حالياً، والمعتبر من أقرب المقربين لنجل القذافي، بأن الشركة الجديدة تنوي الاستثمار في مجالات الهيدروكربورات والمناجم والسياحة والاتصالات والمصارف، كما ان من ابرز مساهميها حتى الآن شركة"اويل انفست"المؤسسة الليبية المعنية بالاستثمارات النفطية في الخارج، و"لايكو"، اضافة الى شركة ثالثة عاملة في الغابون وتحمل اسم"ليبيا". وتفيد بعض المعلومات بأن دولة جنوب افريقيا قد اعطت موافقتها على شراء حصص في الشركة الافريقية من دون تحديد الحجم او القيمة وتتوقع الاوساط المقربة من سيف الاسلام القذافي بأن يصل رأسمال هذه الشركة الذي بقي مفتوحاً امام المساهمين الجدد، الى 10 بلايين يورو في السنوات القليلة المقبلة. من ناحية اخرى فاذا كانت بعض المؤسسات المالية الدولية والعربية قد اشارت الى ان الارقام المتعلقة بالعائدات من الهيدروكربورات كانت في حدود ال23 بليون دولار في العام 2003، الا انه من المتوقع، مع ثبات ارتفاع اسعار النفط ومشتقاته، ان تتجاوز عتبة ال24 بليون، بنهاية هذه السنة، اما فيما يختص بالاحتياطات من العملات الاجنبية، ما عدا الذهب، فتشير التقارير الصادرة عن المؤسسات عينها، الى ان التراكم الحاصل منذ نهاية السبعينات قد ادى الى تجميع ما يقارب ال50 بليون دولار. تقديرات تمتنع السلطات النقدية الليبية الاقرار بها. ذلك، في الوقت الذي لم تؤد فيه المحادثات التي جرت منذ نحو ثلاثة اشهر مع خبراء في صندوق النقد الدولي الذين زاروا العاصمة الليبية لاول مرة من تطبيق العقوبات الاقتصادية، للحصول على اي ارقام محددة في هذا الشأن. الآفاق والتوجهات تحاول الحكومة بقيادة شكري غانم المقرب جداً هو الآخر من سيف الاسلام القذافي تطبيق برنامج تحرير الاقتصاد ولو على جرعات. اما فتح غالبية القطاعات، ما عدا الهيدروكربورات المعتبر من المجالات السيادية، امام الاستثمار المحلي والخارجي، فقد اصبح ملموساً في وسط المجتمع الليبي. ويدور الحديث الآن حول تخصيص عدد من شركات القطاع العام، خصوصاً بعد ان اضعف دور"المنشآت الشعبية"و"التشاركيات"التي كانت حتى العام الماضي، تحتكر كل اعمال الاستيراد والتصدير. من جهة اخرى ساهم توحيد سعر صرف الدينار الليبي، والغاء التراخيص المسبقة لاستيراد المواد الاستهلاكية والكماليات، اضافة الى الضمانات الشخصية التي اعطاها القذافي للتجار بتنشيط وتشجيع القطاع الخاص الذي ينمو حالياً ولو ببعض الحذر. ويشهد القطاع السياحي قفزة ملموسة بحيث بدأت مقاهي الرصيف على الكورنيش البحري في العاصمة تنبت كالفطر في حين غابت كلياً عن زوايا الارصفة والساحات اكوام النفايات بقدرة قادر. كما تتدافع المجموعات الفندقية الاجنبية في الوقت الذي لا يتجاز فيه عدد الفنادق من خمس نجوم عدد اصابع اليد الواحدة. باختصار، يمكن القول إن ليبيا بحاجة الى تحديث وتطوير كل شيء. لذا، لا يتردد المسؤولون في كل مناسبة من التذكير بان الحكومة قد خصصت 35 بليون دولار على شكل عقود لاعادة تأهيل المطارات والمرافىء وشبكات الطرق والكهرباء والمستشفيات والمعاهد والجامعات ومجاري المياه، وايضاً لتحديث اسطولها الجوي وحتى طائراتها الحربية ووسائط دفاعها الجوي ما يفسر تدفق الزعماء الاوروبيين بدءاً من رئيس وزراء اسبانيا السابق خوسيه ماريا اثنار مروراً بالبريطاني توني بلير واخيراً وليس آخراً الايطالي سيلفيو بيرلوسكوني. فبانتظار وصول الالماني شرودر، في الخامس عشر من هذا الشهر والفرنسي شيراك الذي كان قد سبق واعلن الغاء زيارته في نهاية تموز يوليو الماضي، من دون اعلان الاسباب قبل نهاية العام الجاري، يستمر الليبيون بتأكيد اصرارهم على تنويع شراكاتهم. مع ذلك، يبدو بأن الانغلوساكسون هم الذين يحتلون الصدارة حتى الآن. اقتصادي لبناني